ما أجمل أوقات البداية..
أجمل ما في الثمر.. أول حصاده وبشائره.. ليس فقط لطيب مذاقه، ولكنه الفرحة التي انتظرها الزارع منذ أن وضع تلك البذرة الصغيرة وجعل يتعهدها برعايته حتى أينعت ثمرًا وزهرًا يَسُرُّ القلوب.
أجمل ما في لحظات عمر الإنسان.. الطفل الصغير.. تلك الصرخات ذات الصوت الرفيع، هي ما تنتظره الأم بعد 9 أشهر وهن على وهن، بكل ما مرت به من آلام.. ذات الصوت يعتبر لحن للحياة لها.. أول لحظات في عمر صغيرها، ثم الضحك الصافي الذي لا يشوبه شيء! وتصبح الأحداث الجديدة في عمر الطفل لأمه كلها بدايات جميلة تراقبها بشغف وحب.
أول مرة لامست جبهتك الأرض في سجود.. وشعرتَ بخضوعك لله عزوجل! شعرتَ بسكينة عند اللقاء.. شعرتَ أن تلك اللحظات مرت كساعات لا تريد لها أن تنقضي.. أحسست بحلاوة المعية والأنس بالله.
أول مرة تقرأ فاتحة الكتاب في الصلاة.. بعد ما فهمت أنها حوار بين الله وبينك.. يا الله! عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»، وفي رواية: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي» (رواه مسلم) تتذكر هذا الحديث؟
أول مرة لامست آيات الكتاب الكريم قلبك.. أحسست أن الله يخاطبك في تلك الآيات.. لم تلتفت لتلك الدموع الساخنة إلا وهي على وجنتيك.. تشعر أنها تغسل قلبك وروحك.
أول مرة قمت من سريرك.. تتجافى أن تنام وأنت تعلم أن لا يفصلك عن لقاء ربك.. في أفضل صلاة بعد الصلاة المكتوبة.. إلا نقاط مياه الوضوء.. تسرع فيه.. لتبدأ في لقاء ربك.. صلاة ودعاء.. استغفار كثير.. فأنت في وقت السحر!
أول مرة استشعرت أنك جزء من تلك الأمة! أمة الإسلام! أغمضت عينك للحظات وتخيلت أن كل من يقول بكلمة التوحيد في تلك الأرض هو أخ أو أخت لك في العقيدة والدين.. أنت منهم وهم منك.. مهما اختلفت الألسن والوجوه.. أنت منهم وهم منك.. كل مصاب لهم هو مصابك.. كل فرح بنصر لهم هو نصرك.. تتحسس أخبارهم.. فلا لأرض ننتمي ولكن لعقيدة.
هذا الشعور الذي أحسسته لأول مرة.. هذا الشعور الغض الرقيق.. الذي جعل لشيء جديد أو قمت به سابقًا حتى.. يتوقف الزمن للحظات وتشعر بحلاوة تلك اللحظات.. اجتهد أن تبقيها. يقول ابن القيم: "قال الجنيد: "واشوقاه إلى أوقات البداية!"، يعني لذة أوقات البداية، وجمع الهمة على الطلب والسير إلى الله" (مدارج السالكين ص [809]).
واشوقاه إلى أوقات البداية!
تلك لحظات لا يضاهيها شيء.. إن ملَّ قلبك فاشحنه مرة آخرى.. إن كلَّت نفسُك ذَكِّرْها بحلاوة تلك اللحظات.
وتَذَكّر؛ فإن الحبات ان انفرطت.. أضاع بعضها بعضًا!
مدخل شيطانك إليك.. أن يُفرط الحبات.. فيدخل اليأس إلى قلبك.. فتضيع الحبات جميعًا.
الحبات هي طاعاتك من فروض وما يجبرها من نوافل وسنن تتقرب بها إلى ربك.. هي حضور قلبك واستحضاره النية.. هي ومراقبة الله له في كل سكنة لك.
سيدخل لك الشيطان بأن يجعل همَّك هو الدنيا، ومع دخولها لقلبك تزاحم حضور قلبك؛ تزاحمه في أن يستيعد جمال أوقات البدايات، يجعلك تترك النوافل والسنن واحدة تلو الأخرى لأنك لا تشعر بها تزكيك. تشعر بعدها بِبُعدٍ عن الطريق، يبدأ يدخل لقلبك الحزن واليأس، حتى تبدأ في التقصير في الفروض التي إن فرَّطت بها فرَّطت في السبيل إلى الجنة.
لا تُمَكّنه من فرط الحبات! هو أضعف من يفعل هذا بقلبك! {إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَـٰنِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء من الآية:76].
مهما كان تقصيرك.. لا تفرط بالصلة التي بينك وبين ربك!
لا تفرط في صلاتك.. لا تفرط في وقوفك أمام الله عز وجل وملامسة جبهتك الأرض التي تعلن خضوعك وعبوديتك له. ادعُ في سجودك تلك كانت وصية النبي: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء» (صحيح مسلم [482]). قلبك بين يديه! يُقَلّبه كيف يشاء.. فلمن تلجأ؟!
افتح القرآن، أمسك بمصحفك، واقرأ!. فهذا كتاب فيه هدى لنفسك وحياة لروحك.. استشعر تلك اللحظات الأولى وأجْمِع قلبك عليك..
لا تَدَعْ الذِكر.. فهو زاد قلبك..
لا تقتل نفسك اللوامة باليأس. واعلم أنك إن شعرت به فهو شيطانك يريد أن ينتصر عليك في معركة جديدة له.
هي معركة بَيَّنَها اللهُ عزّ وجلّ لنا في كتابه {إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّۭ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر من الآية:6]. لا يريد إلا مزيد من غواية الإنسان ودخوله إلى جهنم.
لا تمكنه من قلبك! إن لامتك نفسك على تفريط استغفر {فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُوا۟ رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًۭا} [نوح:10]..
استغفر وتُبْ..
استغفر وتُبْ..
استغفر وتُبْ..
إنَّ رجلًا جاء إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: "يا رسولَ اللهِ أحَدُنا يُذْنِبُ"، قال: «يُكْتَبُ عليه»، قال: "ثمَّ يستغفِرُ منه ويتوبُ"، قال: «يُغْفَرُله ويتابُ عليه»، قال: "فيعودُ فيُذْنِبُ"، قال: «فيُكْتَبُ عليه»، قال" "ثمَّ يستغفِرُ منه ويتوبُ"، قال: «يُغْفَرُ له ويتابُ عليه ولا يمَلُّ اللهُ حتَّى تمَلُّوا» (حسن، مجمع الزوائد [10/203])..
حافظ على الصلة ولا تقطعها.. قوّيها ولا تغفل عنها..
هو قلبك.. «ألا إن في الجسدِ مضغةً إذا صلَحتْ صلَحَ لها سائرُ الجسدِ وإذا فسدتْ فسد لها سائرُ الجسدِ ألا وهي القلبُ» (صحيح، مجموع الفتاوى [13/40])..
لا تترك الحبات تنفرط.. لأنها إن انفرطت.. أضاع بَعْضُها بَعضًا!