1. المقالات
  2. أعمال القلوب
  3. حال الدنيا

حال الدنيا

الكاتب : د. عبدالحكيم الأنيس
تحت قسم : أعمال القلوب
1473 2017/07/17 2024/03/19

 

(كنتُ أقيّد ما يمرُّ بي في أثناء النظر في الكتب ما يتعلق بحال الدنيا وتقلُّبها، ثم رأيتُ الحافظ ابن رجب -رحمه الله- قد أورد كلامًا رائعًا في ذلك في كتابه "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف"، ولعله أفاد فيه من ابن الجوزي - رحمه الله -، فأحببتُ إفرادَه والتنبيهَ عليه، ولفتَ النظرِ إليه.

وهذا هو الفصل المراد، مضبوطًا، مُفقّرًا، مفصولًا بين نقولاته؛ لتُقرأ براحةٍ ويُتأمّلَ فيها، مُعلقًا عليه تعليقات يسيرة.

وأدعو مَنْ يقرأه أن يُضيفَ إليه، ويزيدَ عليه، مما قرأ، أو رأى، أو سمع.

نبّهنا اللهُ مِنْ رقدة الغافلين، وجعلنا من الـمُتّعظين.

وجزى اللهُ ابنَ رجب خيرَ الجزاء على هذا الجمع المفيد، والتوجيه السديد).


قال رحمه الله:

"وفي القرآن نظيرُ هذا وهو التعريضُ بذمِّ الدنيا وفنائِها، مع مدح الآخرة وذكرِ كمالها وبقائِها، كما قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾[آل عمران: 14، 15].

 

وقال اللهُ تعالى: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا ﴾ [يونس: 24] الآية ثم قال: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 25، 26].

 

وقال اللهُ تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾ [العنكبوت: 64] الآية.

وقال اللهُ تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾.

 

وقال اللهُ تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾ [الحديد: 20] إلى قوله: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾ [الحديد: 21].

 

وقال اللهُ تعالى: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16، 17].

وقال اللهُ تعالى: ﴿ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38].

 

وقال اللهُ تعالى عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه: ﴿ يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾ [غافر: 39].

والمتاع: هو ما يتمتعُ به صاحبُهُ برهةً ثم ينقطع ويفنى.

 

فما عِيبتْ الدنيا بأكثر مِنْ ذكر فنائِها وتقلُّب أحوالها، وهو أدلُّ دليلٍ على انقضائها وزوالها، فتتبدلُ صحتُها بالسقم، ووجودُها بالعدم، وشبيبتُها بالهرم، ونعيمُها بالبؤس، وحياتُها بالموت، -فتفارق الأجسامُ النفوس-، وعمارتُها بالخراب، واجتماعُها بفرقة الأحباب، وكلُّ ما فوق التراب تراب.

♦♦♦♦♦


قال بعضُ السلف في يوم عيدٍ -وقد نظرَ إلى كثرةِ الناسِ وزينة لباسهم-: هل ترون إلا خرقًا تبلى، أو لحمًا يأكله الدودُ غدًا؟

♦♦♦♦♦


كان الإمامُ أحمد -رضي الله عنه- يقول: يا دارُ تخربين ويموتُ سكانُك.

♦♦♦♦♦


وفي الحديث: عجبًا لمن رأى الدنيا وسرعةَ تقلُّبِها بأهلها كيف يطمئنُّ إليها![1]

♦♦♦♦♦


قال الحسنُ: إنَّ الموتَ قد فضحَ الدنيا فلم يدعْ لذي لبٍّ بها فرحًا.

♦♦♦♦♦


وقال مطرِّف: إنَّ هذا الموتَ قد أفسدَ على أهل النعيم نعيمَهم، فالتمِسوا نعيمًا لا موتَ فيه.

♦♦♦♦♦


وقال بعضُهم: ذهبَ ذكرُ الموت بلذةِ كلِّ عيشٍ، وسرورِ كلِّ نعيمٍ. ثم بكى وقال: واهًا لدارٍ لا موتَ فيها.

♦♦♦♦♦


وقال يونسُ بن عبيد: ما ترك ذكرُ الموتِ لنا قرةَ عينٍ في أهلٍ ولا مالٍ.

♦♦♦♦♦


وقال يزيدُ الرَّقاشي: أمنَ أهلُ الجنة الموتَ فطابَ لهم العيش، وأمنوا الأسقام، فهنيئًا لهم في جوار الله طولُ المقام.

♦♦♦♦♦


عيوبُ الدنيا بادية، وهي بعِبرِها ومواعظِها مُنادية، لكنَّ حبَّها يعمي ويصم فلا يَسْمع محبُّها نداءَها، ولا يرى كشفَها للغير و إيذاءها.

قد نادت الدنيا على نفسِها
لو كان في العالم مَنْ يَسْمعُ
كم واثقٍ بالعُمْرِ أفنيتُهُ
وجامعٍ بدَّدتُ ما يجمعُ

كم قد تبدَّل نعيمُها بالضر والبوس؟

كم أصبح مَنْ هو واثقٌ بملكها وأمسى وهو منها قنوط يؤوس؟

♦♦♦♦♦


قالتْ بعضُ بنات ملوك العرب الذين نُكبوا: أصبحنا وما في الأرضِ أحدٌ إلا وهو يحسدنا ويخشانا، وأمسينا وما في العربِ أحدٌ إلا وهو يرحمنا. ثم قالتْ:

وبينا نسوسُ الناسَ والأمرُ أمرُنا
إذا نحنُ فيهم سُوقةٌ ليس نُنْصفُ
فأفٍّ لدارٍ لا يدومُ نعيمُها
تُقلبُ تاراتٍ بنا وتُصرَّفُ

♦♦♦♦♦


دخلتْ أمُّ جعفر بن يحيى البرمكي على قومٍ في عيد أضحى تطلبُ جلدَ كبشٍ تلبسه، وقالت: هجمَ عليَّ مثلُ هذا العيد[2] وعلى رأسي أربعُ مئة وصيفة[3] قائمة وأنا أزعمُ أنَّ ابني جعفرًا عاقٌّ لي.

♦♦♦♦♦


كانتْ أختُ أحمد بن طولون -صاحبِ مصر- كثيرةَ السَّرف في إنفاق المال حتى إنها زوَّجتْ بعضَ لُعبها[4] فأنفقتْ على وليمةِ عرسها مئة ألف دينار، فما مضى إلا قليلٌ حتى رُؤيتْ في سوقٍ من أسواقِ بغداد وهي تسألُ الناسَ.

♦♦♦♦♦


خُلِعَ بعضُ خلفاء بني العباس، وكُحلَ، وحُبسَ، ثم أُطلقَ فاحتاجَ إلى أن وقفَ يومَ جمعةٍ في الجامعِ وقالَ للناس: تصدَّقوا عليَّ فأنا مَنْ قد عرَفتم[5].

♦♦♦♦♦


اجتاز بعضُ الصالحين بدارٍ فيها فرحٌ، وقائلةٌ تقولُ في غنائها:

ألا يا دارُ لا يَدْخلْك حزنٌ *** ولا يُزري بصاحبك الزمانُ

ثم اجتاز بها عن قريبٍ وإذا البابُ مُسودٌّ، وفي الدار بكاءٌ وصراخ، فسأل عنهم؟ فقيل: مات ربُّ الدار. فطرق البابَ وقال: سمعتُ مِنْ هذه الدار قائلةً تقول كذا وكذا، فبكت امرأة وقالت: يا عبدَالله إن الله يغيِّرُ ولا يتغيرُ، والموتُ غاية كلِّ مخلوقٍ. فانصرَفَ مِنْ عندهم باكيًا.

♦♦♦♦♦


بعث أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في خلافته وفدًا إلى اليمن فاجتازوا في طريقهم بماء مِنْ مياه العرب عنده قصورٌ مشيدةٌ، وهناك مواشٍ عظيمةٌ ورقيقٌ كثيرٌ، ورأوا نسوةً كثيرةً مجتمعات في عُرسٍ لهن، وجاريةً بيدها دفٌّ تقول:

معاشرَ الحسّادِ موتوا كمَدا *** كذا نكونُ ما بقينا أبدا


فنزلوا بقربهم، فأكرَمَهم سيدُ الماء واعتذرَ إليهم باشتغاله بالعُرس، فدعوا له وارتحلوا، ثم إنَّ بعضَ أولئك الوفد أرسلهم معاوية إلى اليمن، فمروا بالقرب من ذلك الماء، فعدلوا إليه لينزلوا فيه، فإذا القصور المشيدة قد خربتْ كلها، وليس هناك ماء ولا أنيس، ولم يبق من تلك الآثار إلا تلٌّ خرابٌ، فذهبوا إليه فإذا عجوز عمياء تأوي إلى نَقْبٍ في ذلك التل، فسألوها عن أهل ذلك الماء، فقالتْ: هلكوا كلهم. فسألوها عن ذلك العرس المتقدم فقالت: كانت العروس أختي، وأنا كنتُ صاحبة الدف. فطلبوا أن يحملوها معهم، فأبتْ وقالتْ: عزيزٌ عليَّ أن أفارقَ هذه العظام البالية حتى أصيرَ إلى ما صارتْ إليه. فبينما هي تحدِّثُهم إذ مالتْ فنزعتْ نزعًا يسيرًا ثم ماتتْ، فدفنوها وانطلقوا.

♦♦♦♦♦


حُمِلَ إلى سليمان بن عبدالملك في خلافته مِنْ خراسان ستةُ أحمالِ مسكٍ إلى الشام، فأُدخلتْ على ابنه أيوب وهو وليُّ عهده، فدخل عليه الرسولُ بها في داره، فدخلَ إلى دار بيضاء وفيها غلمانٌ عليهم ثيابٌ بياضٌ وحليتهم فضة، ثم دخل إلى دار صفراء فيها غلمانٌ عليهم ثيابٌ صفرٌ وحليتهم الذهب، ثم دخل إلى دار خضراء فيها غلمانٌ عليهم ثيابٌ خضرٌ وحليتهم الزمرد، ثم دخل على أيوب وهو وجاريته على سريرٍ فلم يعرفْ أحدَهما من الآخر لقرب شبههما، فوضع المسك بين يديه فانتهبه كلَّه الغلمانُ، ثم خرج الرسولُ فغابَ بضعة عشر يومًا ثم رجعَ فمرَّ بدار أيوب وهي بلاقعُ فسألَ عنهم؟ فقيل له: أصابهم الطاعون فماتوا.

♦♦♦♦♦


كان يزيدُ بنُ عبدالملك -وهو الذي انتهت إليه الخلافة بعد عمر بن عبدالعزيز- له جارية تسمى حَبَابة، وكان شديدَ الشغف بها، ولم يقدرْ على تحصيلها إلا بعد جهدٍ شديدٍ، فلما وصلتْ إليه خلى بها يومًا في بستانٍ وقد طار عقلُهُ فرحًا بها فبينما هو يلاعبُها ويضاحكُها إذ رماها بحبة رمانٍ أو حبة عنبٍ -وهي تضحك- فدخلتْ في فيها فشرقتْ بها فماتت، فما سمحت نفسُهُ بدفنها حتى أراحتْ[6]، فعُوتِبَ على ذلك فدفنها، ويُقال: إنه نبشها بعد دفنها.

 

ويُروى أنه دخل بعد موتها إلى خزائنها ومقاصيرها ومعه جاريةٌ لها فتمثلتْ الجارية ببيت:

كفى حزنًا بالواله الصبِّ أن يرى *** منازلَ مَنْ يهوى معطلةً قفرا

فصاح وخرَّ مغشيًا عليه، فلم يفق إلى أن مضى هويٌّ من الليل، ثم أفاق فبكى بقية ليلته ومِنَ الغد، فدخلوا عليه فوجدوه ميتًا.

♦♦♦♦♦


قال بعضُ السلف: ما مِنْ حَبْرةٍ إلا يتبعها عَبرة، وما كان ضحكٌ في الدنيا إلا كان بعده بكاء.

♦♦♦♦♦


مَنْ عرَفَ الدنيا حقَّ معرفتها حقرَها وأبغضها كما قيل:

أما لو بِيعتْ الدُّنيا بفلسٍ *** أنفتُ لعاقلٍ أنْ يشتريها

ومَنْ عرَفَ الآخرة وعظمَتها رغبَ فيها.

 

عبادَ الله:

هلموا إلى دارٍ لا يموتُ سكانُها، ولا يخربُ بنيانُها، ولايهرمُ شبّانُها، ولا يتغيرُ حسنُها وإحسانُها، هواؤُها النسيمُ، وماؤُها التسنيمُ، يتقلَّبُ أهلُها في رحمةِ أرحمِ الراحمين، ويتمتعون بالنظرِ إلى وجههِ كلَّ حين: ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [يونس: 10].

♦♦♦♦♦


قال عونُ بن عبدالله بن عتبة: بنى ملكٌ ممَّنْ كان قبلنا مدينة فتنوّق في بنائها[7]، ثم صنعَ طعامًا ودعا الناسَ إليه، وأقعدَ على أبوابها ناسًا يسألون كلَّ مَنْ خرجَ: هل رأيتم عيبًا؟ فيقولون: لا. حتى جاء في آخر الناس قومٌ عليهم أكسيةٌ فسألوهم: هل رأيتم عيبًا؟ فقالوا: عيبين. فأدخلوهم على الملك فقال: هل رأيتم عيبًا؟

فقالوا: عيبين.

قال: وما هما؟

قالوا: تخربُ، ويموتُ صاحبُها.

قال: فتعلمون دارًا لا تخربُ، ولا يموتُ صاحبُها؟

قالوا: نعم. فدعوه، فاستجابَ لهم، وانخلعَ مِنْ ملكه، وتعبَّدَ معهم.

 

فحدَّث عونٌ بهذا الحديث عمرَ بن عبدالعزيز، فوقع منه موقعًا حتى همَّ أن يخلع نفسَه مِنَ الملكِ، فأتاه ابنُ عمّه مَسْلمةُ فقال: اتقِ اللهَ يا أميرَ المؤمنين في أمة محمد فو اللهِ لئن فعلتَ ليقتتلُنَّ بأسيافهم[8]. قال: ويحك يا مَسْلمة حُمِّلتُ ما لا أطيق. وجعلَ يردِّدها ومسلمة يناشده حتى سكن.

♦♦♦♦♦


بنى بعضُ ملوكِ العرب الخورنقَ والسديرَ فنظرَ إلى ملكه يومًا فقال: هل علمتم أحدًا أُوتيَ مثلَ ما أوتيتُ؟

فقالوا: لا. ورجلٌ منهم ساكتٌ فقال: أيها الملكُ إنْ أذنتَ لي تكلمتُ.

فقال: تكلَّمْ.

قال: أرأيتَ ما جمعتَ أشيءٌ هو لك لم يزل ولا يزول، أم هو شيءٌ كان لمن قبلك وزال عنه وصار إليك وكذلك يزول عنك؟

قال: بل كان لمنْ قبلي وصارَ لي ويزولُ عني.

قال: فسُررتَ بشيءٍ تزولُ عنك لذتُهُ، وتبقى تبعتُهُ عليك، تكونُ فيه قليلًا وتُرْتَهنُ به طويلًا؟! فبكى وقال: أين المهربُ؟

قال: إمّا أنْ تقيم وتعمل بطاعة ربك، وإمّا أن تنخلعَ من ملكك، وتقيم وحدك، وتعبد ربك حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا فعلتُ ذلك فما لي؟

قال: حياةٌ لا تموتُ، وشبابٌ لا يهرمُ، وصحةٌ لا تسقمُ، وملكٌ جديدٌ لا يبلى.

فقال: فأي خيرٍ فيما يفنى؟ والله لأطلبنَّ عيشًا لا يزول أبدًا. فانخلع مِنْ ملكهِ، وسار في الأرض، وفيه يقول عديُّ بنُ زيد أبياته المشهورةَ السائرةَ:

أيها الشامتُ المُعيّرُ بالده
رِ أأنتَ المبرأُ الموفورُ
أم لديكَ العهدُ الوثيقُ مِنَ
الأيامِ بل أنتَ جاهلٌ مغرورُ
مَنْ رأيتَ المنونَ أخلدنَ أم مَنْ
ذا عليه مِنْ أنْ يُضامَ خفيرُ
أين كسرى كسرى الملوكِ أنوشر
وان أم أين قبلَهُ سابورُ
وبنو الأصفرِ الكرامُ ملوكُ ال
رومِ لم يبقَ منهمُ مذكورُ
وأخو الحَضْرِ إذ بناهُ وإذ دج
لةُ تُجْبى إليهِ والخابورُ
شادَهُ مَرْمرًا وجلَّله كل
سًا فللطيرِ في ذراهُ وكورُ
لم يهبْهُ ريبُ المنونِ فبادَ ال
مُلكُ عنه فبابُهُ مهجورُ
وتذكَّرْ ربَّ الخورنقِ إذ أش
رفَ يومًا وللهُدى تفكيرُ
سرَّهُ مالُهُ وكثرةُ ما يم
لكُ والبحرُ مُعْرِضًا والسديرُ
فارعوى قلبُهُ وقالَ وما غِب
طةُ حيٍّ إلى المماتِ يصيرُ
ثم أضحوا كأنهمْ ورقٌ جفَّ
فألوتْ به الصَّبا والدّبورُ
ثم بعدَ الفلاحِ والملكِ
والإمةِ وارتهمُ هناكَ القبورُ)[9]

 

 



[1] روى البيهقي في "شعب الإيمان" (213) عن علي بن أبي طالب في قول الله عز وجل:

﴿ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا ﴾ [الكهف: 82] قال: كان لوح من ذهب مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، عجبًا لمن يذكر أن الموت حق كيف يفرح!

عجبًا لمن يذكر أن النار حق كيف يضحك!

عجبًا لمن يذكر أن القدر حق كيف يحزن!

وعجبًا لمن يرى الدنيا وتصرفها بأهلها حالًا بعد حال كيف يطمئنُّ إليها!".

وروى الطبراني في "الدعاء" (1629) مثله عن ابن عباس.

[2] دخل عليَّ مثل هذا العيد.

[3] جارية.

[4] يقصد رصيفاتها اللائي كانت تلعب معهن أو جواريها؟ يُنظر.

[5] المقصود القاهر بالله. ويُنظر "تاريخ الخلفاء" ص 335.

[6] تغيرت رائحتها.

[7] بالغَ في إتقانها وتزيينها وتحسينها.

[8] فلا بد للناس مِنْ حاكم يضبط أمورهم، ويؤمن سبلهم، وإذا جمَعَ إلى القوة العدلَ فذاك الغاية.

[9] لطائف المعارف، تحقيق: ياسين محمد السواس، دار ابن كثير، ط5 (1420هـ-1999م)، ص 69-76.

 

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day