البحث
مقدمة مواعظ الإمام إبراهيم بن الأدهم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
يعد إبراهيم بن أدهم من كبار الزهاد الذين التزموا في زهدهم منهج الكتاب والسنة بعيداً عن النسك الأعجمي.
ولهذا لم يقطعه رهده عن المجتمع، كما لم يقطعه عن الحياة والعمل، فكان لا يأكل إلا من كسب يده, فقد عمل في بيع الحطب، وحصد للناس زروعهم مقابل أجر، وحرس البساتين.
وهو بهذا يعطي الصورة الصادقة لمفاهيم عديدة منها: الزهد، والورع، والتوكل.
في هذه الصفحات أقدم ما استطعت جمعه من مواعظه، ضمن سلسلة "معالم في التربية والدعوة" عسى الله أن ينفع بها، إنه نعم المسؤول؟
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
إبراهيم بن أدهم
إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد التميمي، ويقال له: العجلي
أصله من بلخ، ثم سكن الشام، ودخل دمشق
كان إبراهيم من الأشراف، وكان أبوه كثير المال والخدم
وتذكر الروايات: أن أول أمره، أنه كان يوماً في الصيد مع الغلمان والخدم، فبينما هو على فرسه يركضه، إذ هو بصوت يقول له: يا إبراهيم ما هذا العبث؟
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ }
سورة المؤمنون: الآية 115
فلما سمع ذلك نزل عن دابته ورفض الدنيا، وأخذ في عمل الآخرة
.وقد روى الحديث عن الأعمش، ومحمد بن زياد وأبي إسحاق السبيعي وغيرهم, وحدث عنه خلق كثير. منهم بقية، والثوري، وأبو إسحاق الفزاري، ومحمد بن حميد وغيره
جعل الزهد طريقه إلى الآخرة، وكان يأكل من عمل يده، وعمل في الحصاد، وكان له قدرة وجلد في ذلك، وعمل الفاعل - وهو أن يؤجر نفسه كل يوم لعمل ما - وعمل في حفظ البساتين وغير .ذلك
وكان لا يحسن تأجير نفسه، فكان يوكل ذلك إلا إخوانه. وفي هذا يقول: ما كانت لي مؤنة قط على أصحابي ولا على غيرهم، إلا في شيء واحد، ما كنت أحسن أكري نفسي في الحصادين، فيحتاجون إلى أن يكروني، ويأخذون لي الأجر، فهذه كانت مؤنتي عليهم.
وقد سعى وراء الرزق الحلال يتبعه من بلد إلى بلد، ويبحث عنه هنا وهناك.
قال خلف بن تميم: قلت لإبراهيم بن أدم: مذ كم نزلت بالشام؟ قال: منذ أربع وعشرين سنة، ما نزلتها لجهاد ولا لرباط، فقلت: لأي شيء نزلتها؟ قال: لأشبع من خبز حلال.
قال شقيق البلخي: لقيت إبراهيم بن أدم في بلاد الشام، فقلت له: يا إبراهيم تركت خراسان؟ فقال: ما تهنيت بالعيش إلا في بلاد الشام، أفر بديني من شاهق إلى شاهق، ومن جبل إلى جبل، فمن .يراني يقول: موسوس، ومن يراني يقول: هو حمال
ثم قال لي: يا شقيق، لم ينبل عندنا من نبل بالحج والجهاد، وإنما نبل عندنا من نبل، من كان يعقل ما يدخل جوفه - يعني الرغيفين - من حله.
وهذه الأقوال تبين مدى اهتمامه بأمر حل لقمته التي يتناولها. فإن لم يجد هذه اللقمة من حل، فربما بات طاوياً، وربما أكل الحشيش وأوراق الشجر
وكان يقبل الهدية ويثيب عليها بأكثر منها.
ومسلكه هذا في الزهد والورع لم يكن مجرد نظرية أخذت عليه عقله كفكرة جميلة، ولكنه عاشه سلوكاً، ونزل به إلى دنيا الناس.
وقد عمل مرة في بستان فطلب منه صاحبه أن يحضر له عنباً، فأحضر له عنباً حامضاً. فقال له: من هذا تأكل؟ قال: ما آكل من هذا ولا من غيره، قال: لم؟ قال: لأنك لم تحد لي شيئاً من .العنب, وقد أثر هذا المسلك على نضارة جسمه, قال بشير بن المنذر: رأيت إبراهيم كأنه ليس فيه روح، لو نفخته الريح لوقع، قد أسود متدرع بعباء
.وهو لم يتزوج لأنه لا رغبة له في النساء، ثم هو لا يريد ظلم المرأة التي يتزوجها بسبب ذلك, ومع هذا يرى أن السعي على العيال أفضل من انقطاعه إلى العبادة, ومن هذا المنطلق فهو يسعى .على نفسه، ولا يقبل أن يكفيه غيره أمر معيشته
وقد رآه الإمام الأوزاعي مرة في بيروت وعلى عنقه حزمة حطب. فقال له: يا أبا إسحاق، إن إخوانك يكفونك هذا؟ فقال له: اسكت يا أبا عمرو،فقد بلغني أنه إذا وقف الرجل موقف مذلة في .طلب الحلال، وجبت له الجنة
وكان يميل إلى العزلة والبعد عن الناس. وأقواله في ذلك كثيرة.
وقد شارك في أعمال الجهاد والمرابطة في سبيل الله، وكان يحث غيره من العباد على ذلك، ومن ذلك رسالته إلى عباد بن كثير التي يقول فيها: اجعل طوافك وحجك وسعيك، كنومة غاز في .سبيل الله
فهو يرى أن أداء مناسك الحج المتنفل به، كلها لا تعدل في ثوابها ثواب نومة يغفي بها مجاهد في سبيل الله.
وقد جعل لسانه رطباً بذكر الله تعالى. بل وكان يشترط على من يريد مجالسته أن لا يغفل عن ذكر الله تعالى.
وقد اتخذ الخوف من قلبه مسكناً له، فكثيراً ما كان يصلي العشاء، ثم يضطجع إلى الصباح ويقول: إن حوف النار لم يدعني هذه الليلة أنام ولا أصلي ولا أتكلم، ثم يقوم إلى صلاة الصبح بوضوء العشاء
قال ابن كثير: ذكروا أنه توفي في جزيرة من جزائر بحر الروم، وهو مرابط، وأنه ذهب إلى الخلاء ليلة مات نحواً من عشرين مرة، وفي كل مرة يجدد الوضوء بعد هذا. وكان به البطن، فلما كان عشية الموت قال: أوتروا لي قوسي، فأوتروه، فقبض عليه، فمات وهو قابض عليه يريد الرمي به إلى العدو، رحمه الله
وقال ابن عساكر: المحفوظ أن إبراهيم بن أدهم توفي سنة ثنتين وستين ومائة
شهادات
قال سفيان الثوري: كان إبراهيم بن أدهم يشبه إبراهيم الخليل، ولو كان في الصحابة لكان رجلاً فاضلاً
وقال النسائي: إبراهيم بن أدهم ثقة مأمون، أحد الزهاد
وقال شقيق البلخي لإبراهيم: يا أستاذ، أنت أستاذنا
وقال يحيى بن يمان: كان سفيان إذا قعد مع إبراهيم بن أدهم تحرز من الكلام
وقال عبدالله بن المبارك: كان إبراهيم رجلاً فاضلاً، له سرائر ومعاملات بينه وبين الله عز وجل، وما رأيته يظهر تسبيحاً ولا شيئاً من عمل
وقال ابن كثير: إبراهيم بن أدهم، أحد مشاهير العباد، وأكابر الزهاد، كانت له همة عالية في ذلك رحمه الله
وقال مضاء بن عيسى: ما فاق إبراهيم بن أدهم أصحابه بصوم ولا صلاة، ولكن بالصدق والسخاء