1. المقالات
  2. مواعظ الإمام إبراهيم بن الأدهم
  3. محاور الوعظ عند إبراهيم بن أدهم

محاور الوعظ عند إبراهيم بن أدهم

الكاتب : صالح أحمد الشامي
863 2021/01/12 2024/04/16

نشأ إبراهيم بن أدهم في بيت نعم وترف، فكان يعيش عيشة المترفين التي يعد الخروج إلى الصيد واحداً من مظاهرها. 

كانت الدنيا تحت يده، فكان إذا ركب حضر بين يديه نحو من عشرين شاكري .

 كما يقول عبدالعزيز بن أبي رواد، الذي نقل لنا هذا الوصف: 

وأراد الله له أمراً آخر، فألبسه ثوب الزهد فكان أحد الزهاد الكبار الذين التزموا في زهدهم الكتاب والسنة، ولهذا كان أحد المرابطين والمجاهدين في سبيل الله تعالى

وعندما نستعرض مواعظه ووصاياه نستطيع تبين الخطوط العريضة التالية التي استأثرت باهتمامه: 

1. الحلال من الطعام:

شغلت قضية البحث عن الطعام الحلال جانباً كبيراً من اهتمام إبراهيم، فهو ينتقل م بلد إلى آخر بحثاً عن ذلك.

ولنذكر جانباً من قصة سفره طلباً لذلك. قال:

ثم أقبلت إلى العراق، أرض ترفعني وأرض تضعني، حتى وصلت إلى العراق، فعملت بها أياماً، فلم يصفُ لي منها شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ عن الحلال، فقالوا لي: إذا أردن الحلال، فعليك ببلاد الشام، فصرت إلى بلاد الشام، فصرت إلى مدينة يقال لها:

 المنصورة - وهي المصيصة - فعملت بها أياماً، فلم يصف لي شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ فقالوا لي: إن أردت الحلال الصافي فعليك بطرسوس، فإن فيها المباحات والعمل الكثير، فتوجهت إلى طرسوس، فعملت بها أنظر البساتين وأحصد الحصاد. 

وهكذا نلاحظ مدى الجهد الذي بذله بحثاً عن الطعام الحلال. 

وقد عمل من نظر البساتين ومع ذلك فما كان يذوق ثمرها ولا يعرف طعمه لأن صاحب البستان لم يحد له شيئاً معلوماً. 

وعمل في حصاد زرع فجاء صاحب الزرع بطعام فلم يقبله لأنه لم يكن ضمن الاتفاق

وكما شعلت قضية الطعام الحلال جانباً من اهتمامه، فقد شغلت جانباً من مواعظه. فهو يقول:

أطب مطمعك ولا عليك أن لا تقوم بالليل وتصوم النهار. 

وينصح من يريد الدعاء بأكل الحلال فيقول:

تريد تدعو؟ كل الحلال وادع بما شئت.

والنصيحة بالفعل أبلغ من نصحية القول، وقد كانت أفعال إبراهيم كلها نصائح في هذا الباب وغيره.

ومن الدروس البليغة في هذا الموضوع: أنه لما سئل: لم لا تشرب ماء زمزم؟ قال: لو كان لي دلو شربت منه.

ولا شك بأن الدلاء كثيرة، وفي ذاك المكان لا يمنع أحد دلوه من أحد، ولكنه - وهو صاحب الورع - لا يشرب.

لأنه لا يعرف أصل هذه الدلاء, فربما كانت الشبهات تحيط بها، والإسلام يعطي الوسيلة حكم الغاية، ولذلك آثر عدم الشرب حتى يكون له دلو.

 توقي الحاجة إلى الناس:

وإذا كان هذا موقف إبراهيم من أمر حل الطعام، فإن موقف في التحرز عن حاجة الناس لا يقل عن ذلك. 

فهو يعظ الناس بالاكتفاء الذاتي. فعلى كل إنسان أن يسعى في تأمين حاجاته وحاجة من يعول دون أن يمد يده إلى الآخرين.

ومن فعل هذا فهو في درجة الصائم القائم. 

وهو القائل:

إن الصائم القائم المصلي، الحاج المعتمر الغازي، من أغنى نفسه عن الناس. 

وكان في سفينة أوشكت على الغرق فقيل له: ألا ترى ما نحن فيه من الشدة؟ فقال: ليس هذه شدة، وإنما الشدة الحاجة إلى الناس. 

ويحث الناس على العمل فيقول:

لا تجعل بينك وبين الله منعماً، وعد كل نعمة من غير عليك مغرماً.

فالنعمة من غير الله لا بد أن يمن عليك صاحبها بها، وأن يرى الفضل له.

ويسأل مرة عن حاله فيقول: بخير ما لم يحمل مؤنتي غيري.

ويفصل أمر المسألة حتى يحذرها الناس فيقول: هي نوعان.

مسألة على أبواب الناس، ومسألة يقول الرجل: الزم المسجد.

فمن جاءني بشيء قبلته، فهذه شر المسألتين، وهذا قد ألحف في المسألة

وهكذا نبه إلى نوع من المسألة غير منظور.

وقد كان رحمه الله يأكل الطين ولا يضع نفسه في موضع الحاجة إلى الناس.

3- الزهد:

ليس الزهد مظهراً ولباساً، وإنما هو سلوك وعمل.

ولا بد للزاهد من قوة إرادة تنبعث من قوة إيمان وفهم، حتى يستطيع الصبر على ما يستلزمه الزهد من سلوك.

ويضع إبراهيم بن أدهم بين أيدينا صفات الزاهد، وهو الخبير بها، فيقول:

إنه أشد الناس خوفاً من الله، وأحسنهم عملاً وأعظمهم رغبة بما عند الله، وأتقاهم له، وأسلمهم صدراً، وأكثرهم يقيناً.

والزاهد يعيش دائماً في ظل قوله تعالى:

{لِأَىِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ}

[سورة: المرسلات: 12- 15]

يوم يقال: {ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}

[سورة الإسراء: 14].

فهو قد رفع عقله عن الدنيا، فبدنه منظور بين ظهراني أهل الدنيا وقلبه معاين للآخرة، فأطفأ بصر قلبه ما أبصرت عيناه من حب الدنيا.

والزهد بالناس أمر متمم، لا يكون الزهد إلا به، فحب لقاء الناس من حب الدنيا، وتركهم من ترك الدنيا.

وهذا المعنى يفسر لنا ما ذهب إليه ابن أدهم من حب العزلة.

وإذا كان الزهد يتمثل بالزهد بالذهب الفضة، فإن الزهد بالرياسة أشد، لأن الذهب والفضة يبذلان لأجلها.

وإذا وصل الإنسان إلى مرتبة الزهد فإنه يصبح في سعادة، لو عرفها الملوك لقاتلوا عليها بالسيوف.

وما ذلك إلا لأنه أصبح يملك نفسه فيملي عليها ما يريد ولا تستطيع هي أن تتحكم به من خلال شهواتها.

4- الخوف:

والخوف عامل من عوامل النجاة، لأنه يدعو إلى الحذر والتبصر في عواقب الأمور. وليس في حياة المسلم أمر أكبر من أمر الآخرة.

فكأس الموت لا يقوى على تجرعه إلا خائف وجل طائع، كان يتوقعه.

ولهذا فهو يدعو الناس إلى أن يشغلوا قلوبهم بالخوف من الله.

وهو كثيراً ما قضى ليله بغير نون ولا قيام ويشرح لنا سبب ذلك فيقول:

لم يأخذني نوم، بل كنت جائلاً في أودية النار، أنظر عذاب أهلها، فكيف أنام؟.

5- العلم طريق العمل:

وهو يدعو إلى العلم، ولكن العلم ليس غاية في ذاته، ولكنه وسيلة إلى العمل وهو عندما يكون مقصوداً بهذا المعنى، فالزيادة منه استزادة في تحمل المسؤولية. فيقول:

أنت بما تعلم لا تعمل. فكيف تطلب زيادة العلم؟

ويصف لنا واقع كثير من الناس. عندما يدعونا إلى العلم بقوله:

اطلبوا العلم للعمل، فإن أكثر الناس قد غلطوا، حتى صار علمهم كالجبال وعملهم كالذر.

ومعظم الناس لا يعرفون حق العلم وفي مقدمة ذلك العمل به.

ولما كان معظم الذين يطلبون العلم عن هذه الشاكلة رغب إبراهيم عن مخالطتهم وعد ذلك عذراً في عدم متابعة طلب العلم فأوضح لنا أمره بقوله:

ما يمنعني من طلب العلم أني لا أعلم ما فيه من الفضل، ولكن أكره أن أطلبه مع من لا يعرف حقه.

ولقد تجلى رأيه واضحاً في المناقشة التي وقعت بينه وبين أبي حنيفة - رحمهما الله - إذ قال أبو حنيفة لإبراهيم: قد رزقت من العبادة شيئاً صالحاً، فليكن العلم من بالك، فقال له إبراهيم: وأنت فليكن العبادة والعمل بالعلم من بالك، وإلا هلكت.

6- الأسلوب المجدي في التعليم:

وإذا كنا قد بينا في الفقرة السابقة مكانة العلم، وأنه يقصد للعمل، فإن على المعلم أن يسلك الطريق الأقرب لإيصال المعلومة إلى المتعلم:

ويأخذ ابن أدهم بأيدينا في هذا السبيل ويضع أمامنا وسيلتين:

الأولى - استعمال الأمثلة في تقريب الفكرة.

الثانية - التطبيق العملي فيما لا يكون نظرياً.

أما الأولى: فنستفيدها من قوله:

واعلم أنه إذا كان للكلام مثل، كان أوضح للمنطق، وأبين في المقياس وأنقى للسمع، وأوسع لشعوب الحديث.

ولا شك بأن ضرب الأمثلة يوصل الفكرة إلى الذهب في سهولة ويسر، كما أنه ادعى لتثبيتها واستقرارها فيه.

وقد استعمل القرآن ذلك في آيات كثيرة كثيرة، كما ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم الأمثلة المتعددة في أحاديثه الشريفة.

ولا يكتفي الإمام ابن أدهم بتوجيه المعلم لضرب الأمثلة، بل يطلب من المتعلم نفسه أن يفعل ذلك، فيقول له: 

مثل لبصرك حضور ملك الموت..

مثل له هول المضجع..

مثل له القيامة وأهوالها..

هذا التخيل والتمثيل لا شك بأنه ذو فائدة لا يستهان بها في تربية الإنسان وتعليمه.

وأما الوسيلة الثانية: فهي التدريب العملي حيث لا تجدي الأمثلة النظرية. ويمكن أن تكون الحادثة التالية مثالاً لذلك.

قال إبراهيم بن بشار: مضت مع إبراهيم بن أدهم في مدينة طرابلس، ومعي رغيفين مالنا غيرهما، وإذا سائل يسأل، فقال لي: ادفع إليه ما معك، فلبثت، فقال: مالك؟ أعطه، قال: فأعطيته، وأنا متعجب من فعله، فقال: يا أبا إسحاق، إنك تلقى غداً ما لن تلقه قط، واعلم أنك تلقى ما أسلفت، ولا تلقى ما خلفت، فمهد لنفسك، فإنك لا تدري متى يفجؤك أمر ربك. قال: فأبكاني كلامه وهون علي الدنيا. قالاً: فلما نظر إلي أبكي قال: هكذا فكن.

إن الأصل الذي قام عليه زهد إبراهيم بن أدهم:

إذا رزق آثر، وإذ منع شكر وحمد.

وهذه المعلومة لا فائدة من نقلها نظرياً، ولا بد من التطبيق الفعلي لها، وهكذا كانت الحادثة تدريباً لإبراهيم بن بشار.

ولما رأى إبراهيم بن أدم استغراب ابن بشار من تصرفه. . علل له ذلك. فكان درساً وأي درس.

ويمكننا أن نضيف هنا معلومة ثالثة: وهي ما وجه إليه من عدم إدامة النظر إلى الباطل. فكان في ذلك قوله:

"كثرة النظر إلى الباطل، تذهب بمعرفة الحق من القلب".

وهذا أمر مشاهد، فكثرة النظر إلى الباطل تجعله أمراً مألوفاً، غير مستنكر بعد أن يكون مألوفاً. . وهكذا السماع أيضاً. . مما يؤثر مع استمرار الزمن على فطرة المسلم فتختل الموازين لديه.

ولعله بهذه الموعظة يعلل الحكم الشرعي الذي جاء بتحريم العيش في بلاد الكفر ما لم يكن هناك ضرورة لذلك. . . إذ إن هذه المعايشة تؤثر على الإنسان من حيث لا يشعر فكان الحكم درءاً للمفسدة المتوقعة.

7- تصحيح المفاهيم:

الوعظ وسيلة غايتها الإرشاد إلى الخير، وهذا قد يكون بتعليم الجاهل، وتنبيه الساهي، وإيقاظ النائم. . ويكون أيضاً بتصحيح المفاهيم المغلوطة.

وفي هذه الفقرة نذكر أمثلة مما جاء في مواعظ إبراهيم في هذا الميدان:

  • السائل:

السائل الذي يطلب المعونة ينبغي أن تكون النظرة إليه نظرة احترام لا نظرة احتقار. فهو إنسان يحمل زاد الناس إلى الآخرة تطوعاً بدون مقابل، وقد يحمل لك ما تريد أن تبعث به إلى من سبقك من أهلك إلى الدار الآخرة، ولذلك سماه إبراهيم: رسول المقابر. فكان إذا جاءه السائل قال لأهله: هل توجهون إلى موتاكم شيئاً من الصدقة؟

فالسائل: يسدي إليك معروفاً إذ يحمل زادك إلى الآخرة. 

  • العز:

ليس العز بالجاه والسلطان وكثرة الأموال. . ولكنه يكون بطاعة الله. 

فالطائع لله هو العزيز، والعاصي هو الذليل ولذلك كان دعاؤه: اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك. 

  • الغني:

ليس صاحب الأموال والعقارات. . طالما يتطلع إلى زيادتها، هو الغني. ولكن الغني من استغنى عن طلب الزيادة ولم يعد يتطلع إلى زيادة ما عنده. 

  • مقام الفقر:

ليس الفقر مهانة أو مذلة، بل هو مقام اختاره الله لبعض عباده؟

فهو مخزون عند الله في السماء، ويعدل الشهادة، لا يعطيه إلا من أحب، كما قال الإمام إبراهيم بن أدهم. 

ولهذا لما جاءه رجل بعشرة آلاف درهم رفض قبولها وقال: أتريد أن أمحو اسمي من ديوان الفقراء؟ 

وجاءه مرة مملوك له يسأل عنه فلما رآه قال: إن إخوتك بعثوني إليك مع فرس وبغلة وعشرة آلاف درهم فقال له إبراهيم: إن كنت صادقاً فأنت حر وما معك فلك، اذهب فلا تخبر أحداً (1).

وما ذاك إلا الحرص على البقاء في ديوان الفقراء. 

8- أمر المسلمين:

لئن آثر إبراهيم الزهد بالناس ودنيا الناس، ومال إلى العزلة، فإن ذلك لم يقطعه عن المجتمع والاهتمام بشؤون المسلمين. 

بل لعل الهم الوحيد الذي كان يشغل باله هو أمر المسلمين. وهذا ما قاله إبراهيم لبقية بن الوليد:

ما أهتم إلا لأمر المسلمين (1).

وكانت عباراته تدل على هذا الهم. فمن ذلك قوله:

وأي دين لو كان له رجال. 

فالإسلام دين الله الخالد، ولكن الرجال لم يقوموا بحقه، ولم يرتقوا إلى مستوى المسؤولية المناطة بهم.

9- أمر الكلام:

صرف إبراهيم بن أدهم كثيراً من مواعظه في تنبيه الناس على ضبط اللسان، فهو العضو الأكثر خطراً على الإنسان. 

فهو ينبه إلى أن الكلام فعل، وعلى الإنسان أن يرجو منه ما يرجو من الفعل. ويخاف منه ما يخاف من الفعل فيقول:

"ينبغي لصاحب الدين أن يرجو من الكلام ما يرجو في الفعل، وأن يخاف منه ما يخاف من الفعل".

وينبغي للمسلم أن يبتعد عن الفضول ومن النماذج التي يمكن سوقها في هذا المجال موعظته التالية: 

لا تسأل أخاك عن صيامه، فإنه إن قال: أنا صائم، فرحت نفسه بذلك, وإن قال: أنا غير صائم حزنت نفسه، وكلاهما من علامات الرياء, وذلك فضيحة للمسؤول، واطلاع على عورته من السائل. 

ورأى رجلاً منعمساً في الكلام فقال له: هذا كلام ترجوه؟ قال: لا، قال: فتأمن عليه؟ قال: لا، قال: فما تصنع بشيء لا ترجو فيه ولا تأمن عليه؟

وبهذا يدعو إبراهيم إلى ضبط اللسان ومحاسبة الإنسان نفسه على كلامه. 

نكتفي بهذا القدر، وهناك محاور أخرى يجدها القارئ خلال المواعظ.


المراجع

  1. حلية الأولياء 7/ 383.
  2. حلية الأولياء 8/ 21. 
المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day