البحث
خداع المظاهر
خداع المظاهر
دق جرس الهاتف قبل انتهاء الدوام بقليل في مكتب مدير الشركة، وهو على وشك مغادرة المكان.
- مكتب فلان. .؟
- نعم.
- عندكم موظف اسمه "س"؟
- نعم.
- أنا عم الموظف "س" أريد مقابلتك؟
- غداً إن شاء الله.
- يا أخي! أنا ما زلت في الفندق منذ خمسة أيام أبحث عنك، والأمر لا يحتمل التأخير. . أين عنوان مكتبكم. . أرجوك أعطني من وقتك القليل.
وبعد دقائق. . دخل الرجل باب المكتب ووراءه امرأة تبكي.
قال المدير: يا أخي! ممنوع استقبال النساء في مكاتبنا.
لا عليك، إنها ابنتي، زوجة الموظف "س".
ما الأمر؟
قال الرجل: إن صهرنا "س" انقطعت أخباره عنا منذ سنة وسبعة أشهر. وترك زوجته وعدة أطفال، وقد تعبنا ونحن نسأل عنه، حتى قيل لنا: إنه شوهد في هذه المدينة، فأنا منذ خمسة أيام في الفندق مع ابنتي نتصل بكل شركة يحتمل أن يعمل فيها "س" وفقاً لاختصاصه وطبيعة عمله. . حتى وصلت إليك أخيراً بعد جهد ومعاناة لا يعلمها إلا الله تعالى. .
قال المدير: وسرعان ما مر في ذاكرتي شريط معرفتي بهذا الموظف. . كان ذلك قبل عامين. . عندما قابلني عارضاً خدماته. . وتوسمت فيه الخير بحسب ما بدا لي من مظهره ولباقته وأسلوب حديثه. .
وأصبح موظفاً في الشركة.
وكيثراً ما كنا نقدمه ليكون إمامنا في الصلاة في مصلى الشركة. . بل أستطيع القول بأنه أضحى هو الإمام.
واستوقفني هذا الشريط الذي استعرضته في نقطتين.
إحداهما: أن هذا الموظف جاء في يوم من الأيام يطلب إثباتاً من الشركة بأنه متزوج ليقدمه إلى صاحب البناء الذي يريد أن يستأجر فيه. .
والثانية: أن صاحب البناء جاء منذ أشهر إلى مكتبي ليقول لي: إن هذا الموظف غير متزوج، ولا يوجد معه أسرة، والجيران - وكلهم متزوجون - يشتكون منه، باعتباره عزباً يسكن بينهم.
وسارعت فأحضرت ملف الموظف، وأقنعت صاحب البناء بما يحويه الملف من أوراق تثبت أن الرجل ذو أسرة وله أولاد.
قال المدير: كان ذلك قبل أشهر مضت: والآن أستطيع أن أدرك أن ما ادعاه صاحب البناء كان صحيحاً. . وليست الأوراق دائماً معياراً للصدق ومطابقة الواقع.
مرَّ كل هذا الشريط في فكري وأنا أتناول سماعة الهاتف بغية الاتصال بالموظف المذكور.
كان غضبه شديداً عندما علم بوجود عمه وزوجته. . وقال لي: كيف تسمح لنفسك باستقبالهم هنا في مكاتب الشركة؟
وتم اللقاء بين الفريقين. . بعد سنة وسبعة أشهر.
هذا ما قاله المدير بالحرف
وهذه القضية تستوقف السامع لها ليمعن النظر في التناقض الفظيع الذي تحمله هذه الشخصية، وفي المجتمع كثير أمثالها.
إنه بسمته ومظهره، استطاع أن يكون في مقام إمام الصلاة في الشركة. وهو في حقيقته وداخلة ضميره لا يتحرك لامرأة وأطفال تركهم منذ تسعة عشر شهراً؟!
ولولا ظروف البحث ونشاط العم في ذلك، ربما مضى تسعة عشر شهراً أخرى وأخرى.
فإذا مات الضمير، وطويت صفحة محاسبة النفس. . فقد مات ذاك الإنسان.
هذه الصورة لم يتدخل الفكر في صياغتها ولم يكن لي سوى تسجيلها كما سمعتها.
إن النبي صلى الله عليه وسلم نصح أمته في شأن نظر الأب لابنته واختيار الزوج المناسب بقوله:
(إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ).
قال العلماء: ذكر الحديث أمرين:
الدين: وذلك لأن أداء الحقوق مدارها على الدين، فمن وجد الدين فيه، فلن يظلم أحداً، وسوف يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ويقبل لنفسه أن يكون مظلوماً لا أن يكون ظالماً.
وأما الخلق: فذلك لأن مدار حسن العشرة على الخلق.
فإذا كان الرجل حسن الأداء للحقوق، حسن المعاشرة، فذلك الرجل الذي يوصي به الرسول صلى الله عليه وسلم.
فما من شك بأن هذا الحديث من جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث جمع كل الأوصاف الخيرة في كلمتين.
ولكن تظل المشكلة قائمة في كيفية اختبار وجود هاتين الصفتين في الرجل الخاطب.
ذلك أن كلا الأمرين، له مظاهر تطفو على السطح، وحقيقة تظل وراء ستار حتى تكشفها المواقف.
وعلى والد الفتاة أن لا يغتر بالمظاهر التي قد يتلبس فيها الخاطب، بل ينبغي أن يبحث فيما وراء ذلك ويتريث في الأمر.
وقد روي عن سيدنا عمر أنه أراد أن يزكي بعض الشهود فقال للمزكي: هل عاملته بالبيضاء والصفراء؟ - يعني الفضة والذهب - قال: لا، قال: هل صحبته في السفر الذي يستدل به على مكارم أخلاقه؟ قال: لا، فقال: ما أراك تعرفه! رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد فظننت به خيراً.
تلك هي المقاييس التي يعرف بها الإنسان.
فينبغي على أهل الفتاة سؤال من يتعامل مع الخاطب بالبيضاء والصفراء.
وسؤال من سافر معه، بل ولا مانع من اختراع سفر لهذا الخاطب بصورة غير مباشرة واستطلاع أحواله من وراء وراء. .
إن أفظع الذنوب إثماً، أن يتخذ الدين والتظاهر به وسيلة للتدليس والوصول إلى المآرب.
وما أصعب مهمة الوالد - هذه الأيام - في اختيار الخاطب الصالح!! حتى لا يقع فيما وقع به صاحب قصتنا.
أما الزوج الذي خدع الناس بمظهره، حتى بلغ في تغريره لهم أن قدموه ليؤمهم في الصلاة، فإنه يتربع على قمة الجهل وإن كان يحمل شهادة جامعية!!
فأي جهل أكبر من جهل إنسان لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، وأي منكر أكبر من أن يضيع المرء أولاده، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ).
وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن امرأة تقوم الليل وتصوم النهار وتؤذي جيرانها فقال: (هِيَ فِي النَّارِ) هذا في الجيران، فكيف إذا كان هذا الإيذاء للأولاد والزوجة؟!