البحث
التسامح عند الإختلاف
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم الأحزاب:
” لا يُصَلّيَنّ أحَد إلاّ في بَني قُريظة ”
فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم: بل نصلي لم يُرد منا ذلك . فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعَنّف واحدا منهم .
(رواه الشيخان)
الإختلاف متوقع بين بني آدم طالما إختلف الناس في قابلياتهم على الفهم . قال الله تعالى:
” ولا يَزالونَ مُختَلِفينَ إلاّ من رَحِمَ رَبّك ولذلك خَلَقَهُم ”
لكن الله تعالى دعى المسلمين إلى الإعتصام بحبل الله وعدم التفرق في الدين :
” ولا تكونوا كالّذينَ تَفَرّقوا وإختَلَفوا من بعد ما جاءَهُم البيّنات ”
فالله سبحانه وتعالى يريد ان يكون المسلمون يدا واحدة غير مختلفين يسامح بعضهم بعضا غير متعصبين لرأي شخصي أو إجتهاد ولا تبني آرائهم على تعصب لجنس أو نزعة قبلية أو عنصرية أو طائفية . وهكذا فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينما عرف بإختلاف صحابته في فهمهم لأمر أمرهم به هو ، رضي عن إجتهاد كلا الفريقين لأن كليهما إستند في فعله على أمر رسول الله ولم يستند لا إلى رأي رجل يخطئ ويصيب ولا إلى هوى نفسه أو مصلحة شخصية . كما أن كُلا من الفريقين رضي من الفريق الآخر بفعله فلم يخاصم أحدهما الآخر أو يجبره على إتباع رأيه فيحدث الشقاق وتباعد القلوب . وهكذا فإن الأختلاف في الإجتهاد مقبول . كما يشير الحديث إلى حرص الصحابة رضوان الله عليهم على معرفة الحق بإحتكامهم إلى أولي العلم منهم (وكان في حالتهم هذه هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه) الذي علمهم بأن هذا القدر من الإختلاف أمر متوقع ولا بد منه وهو مقبول وعليهم أن يقبلوه.
يعود إختلاف الفقهاء إلى عدد من الأسباب: أحدها هو إختلاف أفهام الناس من نص معين (آية من كتاب الله أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) كما كانت الحالة في إختلاف الصحابة في هذا الحديث ، وقد يكون سبب الإختلاف هو عدم ثبوت نص عند بعض بينما ثبت عند آخرين . وقد يكون الإختلاف سببه إختلاف الأقاليم والمواقع وأعراف الناس والتي على الفقيه أن يراعيها . كما أن الإختلاف يكون أحيانا نتيجة أخذ الأول بالرخصة والثاني بالعزيمة . وكل هذه الأسباب مقبولة وليست مدعاة للتناحر والتعصب والفِرقة . وما ظهرت الطائفية بين المسلمين إلا حينما تعصب أتباع المذاهب إلى فتاوى وتفاصيل وتركوا إتفاقهم على أصول الدين الرئيسة . وهكذا فالمؤمنون الصادقون يتعاونون فيما إتفقوا عليه ويعذر بعضهم بعضا فيما إختلفوا فيه.
إن إختلاف الصحابة المذكور في الحديث كان بالحقيقة نتيجة أخذ الفريق الأول بالنص الحرفي لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والفريق الثاني بالمفهوم العام حيث فهموا من النص أن المقصود الأصلي هو الإسراع في السير للوصول قبل نهاية وقت العصر وليس المقصود هو تأخير وقت الصلاة . ومثل هذا الإختلاف كثير الوقوع في فهم أحكام تفصيلية من آيات أو أحاديث صحيحة . وقد تكون أحيانا حجة التمسك بالنص أقوى أو التمسك بالمفهوم في حالات أخرى أقوى ، إلاّ أنه يجب على الدوام عدم الشذوذ والخروج في التأويل عن حد ما تحتمله اللغة العربية عند الإستنباط من النص وفي الوقت نفسه عدم التمسك بحرفية جامدة بعيدة عن روح الدين وأصوله السمحة.
لقد إختلف الفقهاء بعد جيل الصحابة فتكونت المدارس الفقهية ، ونشأت المذاهب المختلفة ، وكان أئمة تلك المذاهب على درجة عالية من التقوى والتسامح ، لكن بعض المتأخرين تعصبوا لأحد المذاهب وغالوا في إثبات صحة كل ما ورد في ذلك المذهب وخطأ كل ما ورد فيما سواه وتقديس كلام أئمة المذاهب كتقديس حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فظهرت الفرقة والتناحرات المذهبية التي تزدهر دائما في أوقات التدهور والإنحطاط. لقد كانت الفتن والخلافات المذهبية تعج بالعالم الإسلامي أيام الغزو الصليبي واحتلالهم القدس ، حتى أن الدماء سالت في بغداد في خلاف أتباع المذهبين الشافعي والحنبلي بسبب قنوت بعضهم في صلاة الفجر وعدم قنوت الآخرين . وما طرد الصليبيون إلاّ بعد يقظة المسلمين ونبذهم الخلاف والتعصب.
إن على المؤمن أن لا يتعصب لمذهب معين ، وله أن يتبع أحدها ، فذلك من اليسر في الدين ، لكن عليه أن لا يعتقد أن المذهب الآخر هو ضلال وخروج عن الدين ، وله أن يأخذ برأي المذهب الآخر إن عرف دليل الطرفين واقتنع بدليل أحدهما . كما أن للمؤمن أن يأخذ الحكم مباشرة من نصوص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون تقيد بمذهب معين شرط أن يكون على علم بدرجات صحة الحديث وعلله مع علم بأصول الفقه والناسخ والمنسوخ وأساليب اللغة العربية . ولقد ورد عن أئمة المذاهب الفقهية أنهم قالوا إن صح الحديث لديهم أخذوا به. وعلى من يأخذ الأحكام من الحديث مباشرة أن لا يتعصب لأستنباطه لأن من خالفه من أئمة المذاهب ربما كانت حجتهم قوية وراجحة ، فكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم.