البحث
معاملات النبي
- ولكنك عند الله غال..!
عَبْد فقير، بَدوِي المنْشأ، بَشِع المنْظر، يَقِف على بِضاعة لَه؛ لِيبيعهَا فِي سُوق المدينة، وَإِذ بِشَخص يَأتِي إِلَيه مِن خَلفِه بِكلِّ هُدُوء، فيحْتضنه!
لِيلْتَفت بِبَعض بَصرِه لِينْظر، مِن يَا تُرَى هذَا الذِي يَحتَضِن ويمازح العبْد الفقِير الذِي يَنفر النَّاس مِنْه، ويبْتعدون عَنْه بِسَبب شَكلِه؟
لِيجده الرَّجل الذِي حنَّ لَه الجذْع، وَأَحبَّه الجبل، وبكى شوقاً عليه الجمل.
إِنَّه الرَّجل الذِي أَرسَله اللَّه رَحمَة لَه، وَلِي، ولك، وَلكُل العالمين
إِنَّه مُحمَّد رَسُول اللَّه ﷺ!
فمَا كان من هَذا العبْد الفقِير إِلَّا أن يَنتَهِز الفُرصة؛ لِيلْصق ظَهرَه بِصَدر النبِي، لِيمازحه النبِي ﷺ وَهُو مُحْتَضِن لَه قائلا:"مِن يَشتَرِي هذَا العبْد؟"
فَيرُد عليْه مُبْتسِمًا:"إِذًا تَجدنِي كاسدًا يَا رَسُول اللَّه"
أي: خاسرًا زهيدًا، لَا يَرغَب فِيّ أحد لِقبْح شَكلِي، وَلسُوء مُنَظرِي بَيْن النَّاس
لِيردّ عليْه النبِي:"وَلَكنَّك عِنْد اللَّه أَنْت غالٍ!"
فلَا يَهُم مَا يَعتقِده الآخرون فِيك؛ لِأنَّ مقامك حَيْث أقامك اللَّه، لَا حَيْث أقامك النَّاس.
هل وَجَدت عَبْر التَّاريخ مَلِكًا يَقُوم بِاحْتضان عَبْد فقير مِن عَامَّة الشَّعْب، ويمازحه ويصادقه، بل وَيعطِيه الهدايَا كُلمَا وَفدَ عليْه، وَيقُول عَنْه:"زَاهِر باديتنَا، ونحْن حَاضرُه."؟(1)
نَحْن أصْدقاؤه مِن الحضر، وَهُو صديقنَا مِن البادية
مُسْتحِيل!
فمَا بَالُك بِمن يَفعَل هذَا، وقدْره أَعظَم مِن كُلِّ المُلوك، وَأجَلّ مِن كُلِّ السَّلاطين،
وَالذِي قال فِيه رَبّه:
{إِنَّك لَعَلي خُلُق عظيم}
[القلم 4]؟
أنا ابن امرأة تأكل القديد..
إن النبِي ﷺ رَغْم رِفعَة مَكَانتِه، وَعلُو قَدرِه عِنْد جُلوسه بَيْن أصْحابه، ورغْم كَونِه مِثل البدْر بيْنهم، إِلَّا أنَّه عِنْد قُدُوم أحد عَليهِم، لَا يُمَيزه مِن بَينهِم مِن شِدَّة تواضعه، وقرْبه مِنْهم.
ورغْم ذَلِك عِنْدمَا أتى النبِي ﷺ رَجُل فكلَّمه؛ فَجعَل تَرْعُد فَرائِصُه!
أي: كان يَفزَع ويرْتَجف مِن هَيبَة النبِي، وَمَن ذَا الذِي لَا يَفزَع ويرْتَجف عِنْدمَا يُقَابِل النبِي، والأنبياء لهم من الجلالة والعظمة والهيبة ما لهم!!!
عَمرُو بْن العاص؛ وَهُو المحارب المقاتل كان يَقُول:"ومَا كان أحد أحبَّ إِليَّ مِن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْه وَسلَّم، ولَا أَجَل فِي عَينِي مِنْه، ومَا كُنْت أَطيق أن أَملَأ عَينِي مِنْه إِجْلالا لَه."(2)
هذَا مَا كان يقوله رَجُل قَائِد بطل مِن أَبطَال الإسْلام الَّذين كَانَت تَرتَعِب مِنْهم مُلُوك الفُرس والشَّام؛ فمَا بَالُك بِرَجل عَادِي؟
فمَا كان لِلنَّبيِّ ﷺ إِلَّا أن يَرُد عليْه قائلا لَه مُطْمئِنًّا لِقلْبه، مُهَدئا لِنفْسه، مُطَيبا لِروحه:"هَوّن عليْك فإنِّي لَسْت بِمَلك..."
أي أني لَسْت على صِفة المُلوك الَّذين يتجبَّرون، ويسْتعْلون على النَّاس بِمكانتهم.
"إِنَّما أنَا ابْن امرأَة تَأكُل القدِيد." (3)
أنَا اِبْن امرأَة؛ لِيذَكّره فِي زمن كان ولَازال النَّاس يَسْتعرون مِن ذِكْر أُمَّهاتهم؛ أَنَّه بِكلِّ بَساطَة ابن امرأَة، وَأنَّه ابن مَخلُوق وليْس بِخالق؛ حَتَّى لَا يُعامِله مُعَاملَة الإله.
تَأكُل القدِيد: هو اللحم المجفف المخزون من الذبح القديم، لِيخْبِره أَنَّه لَم يَكُن عِنْدهم دَرجَة الرَّفاهية التِي تَكُون فِي أَبنَاء المُلوك، فكانوا لَرُبمَا يَأكُلون اللَّحْم المخْزن مِن ذبائحهم، وليْس الطَّازج.
الرَّجل العظِيم لَا يَحْتاج أن يَتَكلَّف أَمَام النَّاس لِيظْهر عظمته، بل عظمته لَا تَظْهَر إِلَّا بِمَدى بساطَته، وتواضعه، وَحُبه وخدْمَته لِلنَّاس، وهكذَا كان رسول اللهﷺ.
ماذا فعل النبي مع المرأة العجوز؟!
كَانَت تَأتِي للنبي امرْأة عجوز لَديْهَا مُشْكِلة فِي عقْلهَا؛ لِتطْلب المساعدة قَائِلة:
"إِنَّ لِي إِلَيك حَاجَة."
فماذَا كان ردُّه عليْهَا؟ هل ينْهرهَا؟ هل يَطرُدها؟ هل يَنشَغِل عَنهَا، ويكلِّف غَيرَه بِهَا؟
أبدًا!
بل يَقُول لَهَا بِكلِّ ودٍّ:"يَا أُمّ فُلَان، خُذِي أيَّ الطُّرق شِئْتِ، فَقومِي فِيه حَتَّى أَقُوم معك." (4)
قُولي لِي أَيْن المكَان الذِي تُريدِين مِنِّي أن آتي معك إِلَيه؟ وَهيَّا بِنَا لِننْطَلق؛ لِنَحل لَك كُلّ مَا تُعانِينه.
مُبَادرَة عَمَليَّة فَورِية بِلَا تَوَان ولَا تَرَاخ لِقضاء حَاجَة النَّاس دُون تمْييز بينهم؛ فتجده يَمشِي فِي حَاجَة المرْأة والرَّجل، الأبْيض والأسْود، الكبِير والصَّغير، الغَنِي والفقير.
وكانتْ مِن وصايَاه لَنَا أَلَّا نَنظُر لِمن فوْقنَا، وأن نَنظُر لِمَن هُم دُوننَا؛ فنرْضى بِحالِنَا. (5)
وأن نُحِب المساكين، ونتقَرَّب مِنْهم، ولَا نَتَكبَّر عَليهِم. (6)
وأن نَصِل رُحمَنا، وَنبِر أَهلَنا، وَإِن كَانُوا مُعادِين لَنَا. (6)
وَألَّا نَخَاف فِي اللَّه لَومَة لَائِم، ولَا مُعَادَاة ظَالِم. (6)
وَألَّا نَقُول إِلَّا الحَق، وَإِن كان مُرًّا. (6)
وأن نُكْثِر مِن الذِّكْر؛ لِيكون قَلبُنا رطْبًا. (7)
هذَا مَا علَّمنَا إِيَّاه مُحمَّد صَلَّى اللَّه عليْه وَسلَّم.
فَلذَا إِن كُنْت تُريد أن تَعرِف أَكثَر عَنْه فتابعْنَا، ويسْعدنَا أن تَتَواصَل مَعنَا إِن كان لَديْك أيُّ سُؤَال، أو اسْتفْسار، أو حَتَّى شُبهَة، سَتَجدنَا دائمًا موْجودين لِمساعدتك لِلوصول إِلى إِجابَات حقيقية لِكلِّ أَسئِلتك.
المراجع
- مجمع الزوائد - الهيثمي - الجزء التاسع - صفحة 371 https://dorar.net/hadith/sharh...
- صحيح مسلم - مسلم - حديث رقم 121 https://dorar.net/hadith/sharh...
- السلسلة الصحيحة - الألباني - صفحة 1876 https://dorar.net/hadith/sharh...
- صحيح مسلم - مسلم - حديث رقم 2326 https://dorar.net/hadith/sharh...
- سنن الترمذي - الترمذي - حديث رقم 2513 https://dorar.net/hadith/sharh...
- تخريج المسند لشعيب - شعيب الأرناؤوط - صفحة 2141 https://dorar.net/hadith/sharh...
- 5صحيح الترمذي - الألباني - حديث رقم 3375 https://dorar.net/hadith/sharh...