1. المقالات
  2. أبطال في الإسلام
  3. : أخلاق النبي (الكرم)

: أخلاق النبي (الكرم)

11 2025/09/17 2025/09/18

تَخيَّل أَنَّك الآن تَجلِس وسط مَجمُوعة مِن النَّاس، وَ يَجلِس مَعكُم رَجُل صَاحِب مَنصِب رفيع وَمَكانَة عَالِية جِدًّا بيْنكم - وليكن حَاكِم المدينة أو الدَّوْلة ، وَكَان هذَا الرَّجل مَعرُوفا بَيْن النَّاس بِنبْل أخْلاقه وَسمُو رُوحه، لِدرجة أَنَّه كان يُؤثِر غَيرَه على نَفسِه، فَكَان يَقُوم بِتوْزِيع كُلِّ مَالِه على الفقراء والمساكين، وَيخدم كُلّ مَن يعْرفهم ومن لَا يعْرفهم، بِلَا تَميِيز بيْنهم، وَبلَا أيّ مُقَابِل مِنْهم.

وَبَينمَا أَنتُم جُلُوس معه إِذ فَجأَة وَدُون سبق إِنذَار دخل عليْكم رَجُل وَقَام بِالتَّوجُّه إِلَيه مُبَاشرَة وَشدَّه شَدَّة قَويَّة مِن ثَوبِه حَتَّى ظَهَر عُنُقه وَتَأثَّر مِن شِدَّة جَذبِه لَه!

ثُمَّ قال لَه بِكلِّ غِلْظَة:"يَا فُلَان؛ أَعطِني مِن المال الذِي تَملِكه!"

وَهنَا صار جميع الحاضرين مُتعجِّبين مِمَّا قام بِه هذَا الرَّجل الغلِيظ !

لِدرجة أنَّ أحدًا مِنْهم هَمّ بِقتْله مِن سُوء فَعْلته!

وَلكِنهم انْدهشوا جميعًا مِن مَوقِف الرَّجل النبِيل حِينهَا...

مَاذَا تَتَوقَّع أن يَكُون ردّه يَا تُرَى؟!

هل قام بِطرْده خَارِج البيْتِ؟

هل أمر بِرمْيه دَاخِل السِّجْن؟

هل ردَّ عليْه الإهانة بِإهانة مِثْلِها؟

لَا؛ بل بِكلِّ هُدُوء وَرَزانَة قام بِالالتفات إِلَيه ثُمَّ ضَحِك!

لَم يَزجُره، ولم يُعَنفه، ولم يُذكّره بِمكانته وَأنَّه كَيْف لَه أن يَتَحدَّث معه هَكذَا!

فقط ضَحِك..!

بل وَأمَر بِإعْطائه قدْرًا وفيرًا مِن المال. (1)

هذَا لَيْس رَجُلا خَيالِيا لَا وُجُود لَه فِي أيِّ مَكَان

بل هُو رَجُل حَقيقِي، وأنْتَ تَعرفُه، إِنَّه النبِي مُحمَّد صَلَّى اللَّه عليْه وَسلَّم!

فاتح القلوب .. الذِي كان يَلجَأ إِلَيه الصَّحابة لِيحْتموا بِه فِي الحُروب، وكانتْ لَه مَهابَة يخْشاهَا أعْداؤه عَبْر القُرون حَتَّى بَعْد مَوتِه! 

إِلَّا أنَّه رَغْم ذَلِك لَم يَغضَب لِنفْسه قطُّ إِلَّا إن انْتُهكتْ حُرمَة مِن حُرمات اللَّه فَكَان يَغضَب لَهَا.

فَكَان أَعدَل النَّاس، وأكْثرهم حلمًا، وأشدّهم كرمًا؛ لِدرجة أنَّ أقْوامًا كَامِلة كَانت تَدخُل الإسْلام بِسَبب كَرمَه!

عطاء من لا يخشى الفقر!

عِنْدمَا جاء رَجُل مِن البدْو إِلى رَسُول اللَّه وَطلَب مِنْه أن يُعْطِيه غنما تَملَأ مَا بَيْن جبليْنِ، فعلِم النبِي مقْصده مِن السُّؤَال، فَأمَر لَه بِأن يُعْطُوه كُلَّ مَا أَرَاد، فَرجَع هذَا الرَّجل إِلى قَومِه وَقَال لَهُم:

"أَسلِموا يَا قَوْم؛ فَإِن مُحمَّدًا يُعْطِي عَطَاء مِن لَا يَخشَى الفقْر!"

فَقَال أنس بْن مَالِك رَضِي اللَّه عَنْه رَاوِي الحدِيث:"إِن كان الرَّجل ليسلِم لَا يُريد إِلَّا الدُّنْيَا فما يُسلِم حَتَّى يَكُون الإسْلام أحبَّ إِلَيه مِن الدُّنْيَا ومَا عليْهَا."

(2)

هذَا فقط لِأَنه رأى جَانِبًا واحداً مِن جَوانِب خُلُق النبِي معه وَهُو الكرم.

مال البحْرين: لماذا لم يأخذ النبي منه شيئًا؟

"انْثِروه فِي المسْجِد

هذَا كان ردُّ النبِي على أَكثَر مالٍ جاء إِلَيه فِي حَياتِه مِن البحْرين!

لَم يَقُل:"ائْتوني بِه حَتَّى أَنظُر فِيه"، ولَا:"حَتَّى آخُذ مِنْه ثُمَّ أُقَسمه"

لأن المال لَم يُسَاوِ شيْئًا فِي نَظرِه، بل لَم يك شيْئًا أصْلا!

وحينَمَا انتهَى مِن صِلاته مع النَّاس، جَلس يُقَسمه، فَقَام بِتوْزِيع المال جَميعِه حَتَّى لَم يَبْق لَه شَيْء مِنْه، وَكَان هذَا مَنْهَجه فِي كُلِّ حَياتِه. (3)

ماذا لو ملكت جبلاً من الذهب؟! 

روى الصَّحابيُّ أَبُو ذرٍّ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّه رأى النبِي يَمشِي لَيْلا فِي المدينة، فظنَّ أَنَّه يُريد أن يَمشِي وَحدَه، فَجعَل يَمشِي مُتخفِّيًا فِي ظِلِّ القمر، حَتَّى لَا يَرَاه النبِي مُحمَّد صَلَّى اللَّه عليْه وَسلَّم، فالتَفتَ فرآه النبِي، فَقَال:"مَن هذَا؟" فَقَال صاحبه:"أَبُو ذرٍّ جَعلَنِي اللَّه فدَاك." فنادَاه النبِي حَتَّى يَمشِي معه، فَمشَى معه حَتَّى اسْتقْبلَا جبل أُحُد، وَهنَا وَقَف رَسُول اللَّه وَقدَّم لَه درْسًا فِي العطَاء فَقَال لَه:"يَا أبَا ذرّ؛ مَا يَسرنِي أنَّ عِنْدِي مِثْل جبل أُحُد هذَا ذهبًا فَتمُر عليّ ثَلاثَة أَيَّام وَعندِي مِنْه دِينار." (4)

تَخيّل جبل أُحُد الذِي يَبلُغ طُولُه أَكثَر مِن أَلْف مِتْر وَعرضُه ثَلاثَة كِيلو مِترَات يَقُول النبِي أَنَّه إِن تَحوَّل كُلُّه إِلى ذهب خَالِص فلن يَسعَد بِه ولن يَهنَأ إِلَّا عِنْدمَا يُنْفِقه كُلُّه فِي سبيل اللَّه!

هذَا كان حال النبِي عِنْدمَا يَكُون معه المال الكثِير، ولَا يَختَلِف حَالُه عِنْدمَا يَملِك القلِيل، فالكريم الحقيقيُّ لَيْس الذِي يُنفِق وَهُو معه الكثِير فقط، بل الذِي يُنفَق وَهُو لَا يَملِك إِلَّا القلِيل أيْضًا.

وهكذَا كان سَيدُنا مُحمَّد

لماذا اغتم وجه النبي؟! 

دخل النبِي فِي يَوْم على زَوجَتِه أُم سَلمَة رَضِي اللَّه عَنهَا وَهُو مُتَغير الوجْه، فَظنَّت أنَّ ذَلِك مِن وجع أحلَّ بِه. فقالتْ:"يَا رَسُول اللَّه؛ أَرَاك سَاهِم الوجْه (مُتَغير الوجْه)، أَذلك مِن وجع؟" فَقَال:"لَا، وَلَكنهَا مِن الدَّنانير السَّبْعة التِي أتتْنَا أَمْس، أمْسيْنَا ولم نُنْفقْهَا، نسيتُهَا فِي طرف الفرَاش" (5)

هل رأيْتم رَجُلا يَتَغيَّر وَجهُه لِدرجة أنَّ مَن يَرَاه يَظُن أَنَّه يَتَألَّم لِأَنه نَسِي أن يُعْطِي المال لِلفقراء وينْفقهَا فِي سبيل اللَّه؟ 

هَذِه كَانَت مُجرَّد نبذَة صَغِيرَة جِدًّا عن خُلُق وَاحِد مِن أَخلَاق نَبِي الإسْلام، الذِي عِلّمهَا لأصْحابه وزوْجاته والمسْلمين مِن بعْده، لِدرجة أَنهُم كَانُوا يتنافسون فِي الكرم فِيمَا بيْنهم!

سباق الإنفاق: حين تفوق أبو بكر على عمر!

فِي غَزوَة تَبُوك قام عُمَر وَقَال أَنَّه يُريد أن يَسبِق صديقه أبَا بَكْر فِي الإنْفاق فِي سبيل اللَّه فِي هَذِه الغزْوة؛ فَقَام فَتَصدَّق بِنصْف مَالِه، فَذهَب فسأله النبِي ﷺ:"ومَا أبقَيت لِأهْلك؟"

قال:"مِثلَه."، وظنَّ هَكذَا أَنَّه اسْتطَاع أن يَفُوز على أَبِي بَكْر، وعنْدَمَا سأل النبِي أبَا بَكْر نَفْس السُّؤَال، مَاذَا أُبقَيت لِأهْلك؟

قال:"اللَّه وَرسُوله"(6)لِأَنه لَم يُنْفِق الربع ولا النِّصْف، إِنَّما أَنفَق مَالَه كُلّه فِي سبيل اللَّه، وَهنَا أَعلَن عُمَر أَنَّه لَن يُنَافسَه أبدًا مَرَّة أُخرَى! (6)

وهكذَا أيْضًا كَانَت الصَّحابيَّات، وَعلَى رَأسهِن أُم المؤْمنين عَائِشة رَضِي اللَّه عَنهَا التِي عِنْدمَا أَرسَل لَهَا الخليفة قِلادة ثَمِينَة بـ 100 أَلْف درهم قَامَت بِبيْعِهَا فِي يوْمهَا، وإنْفاقهَا كُلهَا فِي سبيل اللَّه حَتَّى أَنَّه لَم يَبْق لَهَا مِنهَا دِرْهم وَاحِد! (7)

وَهنَا قد يَتَساءَل أَحدُهم؛ مَا الذِي جعلهم بِمِثل هذَا العطَاء ونحْن لَا؟

الإجابة بِكلِّ بَساطَة: أَنهُم عَرفُوا قِيمة الدُّنْيَا، وعلموا أَنَّه مَهمَا عِشْنَا فِيهَا فَهِي فَانِية والآخرة هِي الباقية.

فَقهُوا قَوْل اللَّه:{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

[النحل 96]

فمهْمَا أنْفقوا مِن مالٍ، ومَهمَا أُعطُوا مِن عطايَا، فَعَطايَا اللَّه لَهُم فَوْق كُلِّ العطايَا، وكرمه عَليهِم أَعلَى مِن كُلِّ الكرم. 

عَلمُوا أنَّ المال الذِي بِيدهم لَيْس نَتِيجَة اجْتهادهم، بل هُو مِن فَضْل اللَّه تَعالَى عَليهِم، وَأنَّه أَعطَاه لَهُم لِيبْتليهم بِه، ولينْظر كَيْف يُنْفقونه؛ هل سيتَّبعون الشَّيْطان الذِي يَعدُهم الفقْر أم سيتَّبعون اللَّه الذِي يَعدُهم الأجْر؟

وهكذَا أَنْت...  يَجِب أن تَكُون فِي هذَا العالم المادِّيِّ الرَّأْسماليِّ.

فلَا تَسمَح لِنفْسك أبدًا أن تَكُون كُلّ غَايَتِك فِي الحيَاة هِي جَمْع الأمْوال وإنْفاقهَا فِيمَا لَا يُرضِى اللَّه!

حَرّر نَفسَك مِن عُبودِيَّة الاسْتهْلاك، وشراء مَا فَوْق الحاجات، واجْعل قُدوَتَك فِي ذَلِك الصَّحابة والصَّحابيَّات وسيِّد البشر وخاتم الأنْبياء.

المراجع

  1. صحيح البخاري - البخاري - حديث رقم 3149
  2.  صحيح مسلم - مسلم - حديث رقم 2312
  3.  صحيح بخاري - البخاري - حديث رقم 421
  4. صحيح البخاري - البخاري - حديث رقم 2389
  5.  المعجم الكبير - الطبراني - جزء 23
  6.  - صفحة 327صحيح الترمذي - الألباني - حديث رقم 3675


المقال السابق
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day