البحث
الحديث الرابع: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم
الحديث الرابع: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم
عن مالك بن الحويرث -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: " أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن شبيبة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رحيمًا رفيقًا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا، سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، فقال ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم، وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم " أخرجه البخاري.
وأخرجه الحاكم من حديث أبي سعيد وقال: هو أول حديث في فضل طلاب الحديث، قوله: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فيه فضل الرحلة في طلب العلم، وأنتم وبخاصة من قدم من خارج البلد، قد أحييتم سنة المحدثين في رحلتهم في أقطار الأرض طلبًا للعلم، الله اسأل أن لا يحرمكم الأجر والثواب، وفيه الحرص على طلب العلو؛ لأن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- لأن مالكا وأصحابه كانوا شبيبة فرحلوا لطلب لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- والسماع منه، ففيه فضل الرحلة للتلقي من كبار أهل العلم، ويستحسن بعض أهل العلم أن لا يرحل الطالب عن بلده حتى يأخذ عن أشياخ بلده، قد أشار الخطيب أو غيره إلى أنه ينبغي للطالب أن يأخذ عن أشياخ بلده ثم يرحل طلبًا للقي أو للتزود.
وقوله: ونحن شببة متقاربون فيه حرص صغار الصحابة وشبابهم على طلب العلم، ناهيك عن كبارهم، بل قد قال بعض أهل العلم: وكثير من الصحابة طلبوا العلم وهم كبار وبخاصة من أسلم كبيرًا، لم يمنعه السن والشيب عن طلب العلم؛ ولهذا بعض الناس يتذرع ويتعذر بعدم طلب العلم باشتعال شيب رأسه، وهذا قد حرم نفسه، فقد يُحصِّل في أيام يسيرة مع صدق النية وقوة العزيمة، ما يضعف عنه من يقوم في سنين عددًا، وإذا بارك الله فلا منتهى لبركته عز وجل.
وقوله: فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة فيه أن العلم يحتاج إلى مثابرة وإلى مجاهدة للنفس، قال يحيى بن أبي كثير: لا يستطاع العلم براحة الجسد، لا بد من مجاهدة ومن تركِ الترفه والتنعم الزائد، كان أهل العلم يرحلون الأزمنة الطويلة في طلب إسناد حديث واحد أو في لقي رجل واحد، وكلكم يعلم رحلة شعبة بن الحجاج -رحمه الله- التي طوَّف فيها شهرًا كاملًا لتتبع إسناد حديث كان يرجو صحته، وكذا رحلة أبي حاتم الرازي، وأبي نصر المروزي وغيرهم، ومن قرأ كتاب رحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي، رأى نماذج عليا ومُثلًا تحتذى في قوة العزيمة والمثابرة.
وقوله أيضًا: فأقمنا عنده فيه أصل سكن طلبة العلم بجوار الشيخ، يعني سكن الطلاب بجوار الشيخ سنة ماضية، فمالك وأصحابه -رضي الله تعالى عنهم- أقاموا بجوار النبي صلى الله عليه وسلم من باب تسهيل الأخذ عنه. قوله: وكان رحيمًا رفيقًا، فيه عظيم خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- ومحبته لطلبة العلم: " بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ " يؤخذ من ذلك رحمة المعلم بتلاميذه، والترفق بمن تعلمه أيا كان، يستفاد أن تعليم العلم للناس وبخاصة من جاءك راغبًا مبتدئًا أن تترفق معه، وأن تتحبب إليه، كما كان ذلك هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: فلما رأى أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا فيه عظيم فطنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقوة فراسته، وفيه أيضًا أنَّ على المعلم أن يحرص على تفقد طلابه، وأن يلاحظ مشاعرهم، أن يرقب مشاعرهم، فبذا وذاك تعرف ما يدور بإذن الله في نفوس طلابك، رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- عليهم بوادر أو قرائن تدل على شوقهم واشتياقهم واشتهائهم للعودة إلى أهليهم، فقال ارجعوا، حقق ما في أنفسهم، قد يستحي الطالب منك، قد يكون محتاجًا، فيمنعه حياؤه وهيبتك من سؤلك المال، قد يكون مشتاقًا للرجوع لكن يمنعه الحياء، وكلما كان المعلم على حرص، وعلى تفقد، وعلى سؤال قد يوكل المعلم أحد الطلاب لتفقد مشاعر الطلاب لحاجياتهم، يمنعه الحياء، الحياء قد يمنع أحيانًا من سؤال المعلم، ألم يقل علي - رضي الله تعالى عنه - كنت رجلًا مذاء فاستحييت من سؤال النبي -عليه الصلاة والسلام- لمكان ابنته مني فأمرت المقداد فسأله، فالطالب قد يستحي من معلمه، وعلى المعلم أن يعنى بهذا الأمر بالتفقد والسؤال، والبحث من طرف خفي، قد يسد خلة محتاج أو يحقق رغبة محتاج بأمر يسير.
وقوله: سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه فيه أن عناية المعلم لا تكن بالطالب فحسب، بل بأهله بالسؤال عن والديه، بالسؤال عن حاله عن أولاده إن كان له أولاد، بالسؤال عن أموره، فهذا يحبب الطالب إلى المعلم، ومن باب أولى لازم ذلك أن يحب الطالب العلم، فإذا علم الطالب أن المعلم يعنى به ويهتم ويسأل عنه كما كان النبي عليه الصلاة والسلام، زاد حب الطالب وتعلقه بمعلمه، أما إذا كان المعلم لا يسأل ولا يهتم ولا ينظر، فإن ذلك قد يكون سببًا رئيسًا في نفور الطلاب أو في عدم تحصيلهم أو في عدم أخذهم من معلمهم.
وقوله: ارجعوا إلى أهليكم فيه حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على إعطاء كل ذي حق حقه، ولهذا بعض من يطلب العلم يهمل أمر والديه، وأمر زوجته وأولاده، ويظن أنه بهجرته وبتركه لهم في أجر، هذا من الجهل، فصّل أهل العلم في ذلك، سأل أحدهم الإمام أحمد قال: يا أبا عبد الله الرجل يرحل لطلب العلم ويمنعه والداه ما يصنع؟ قال: أما ما لا بد له منه فليرحل، وما سوى ذلك فالوالدان، فليلزم الوالدين، بعض الناس يترك أولاده أضاع أولاده وأهله وجاء لطلب العلم، العلم يمنعك من هذا، العلم يأبى عليك هذا، ولهذا رد النبي -عليه الصلاة والسلام- ذلك الشاب الذي أراد الجهاد، جهاد تحت راية شرعية في وقت النبوة، ومع ذلك كله رده النبي عليه الصلاة والسلام، ألك والدان؟ قال: نعم، لعلمه بحاجتهما له، ففيهما فجاهد.
وقوله: فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم فيه أن على طالب العلم أن يزكي علمه بتعليم نفسه أولًا، وبتعليم من يعول من زوجة أو أولاد أو خدم أو ما شاكل ذلك؛ لأن بعض الناس كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه، لا ينفع نفسه ولا ينفع أهل بيته، ولا أقاربه، إنما علمه لغير أهل بيته، والأولى بك أن تبدأ بنفسك وتعلم من تعول.
وقوله: وذكر أشياء أحفظها ولا أحفظها من أمانة الصحابي في النقل أنه ذكر أشياء ونسي أشياء، وفيه أيضًا تواضع الصحابي، لو لم يقل لا أحفظها لم يعلم أحد لكن من أمانته في النقل أنه اعترف بأنه حفظ أشياء وغابت عنه أشياء، ومن لازم الخصال المحمودة، بل الواجبة في طالب العلم أن يكون أمينًا فيقول ما له به علم ويتورع، بل يكف عما ليس له به علم.
وقوله: وصلوا كما رأيتموني أصلي فيه تعليم العلم بالقول والعمل، المعلم قدوة في قوله وعمله، علمهم أشياء بقوله، وأمرهم أن يتعلموا من فعله صلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا كان بعض الصحابة يتقدم يصلي بهم، ويقول: والله ما تقدمت لأني الأحق ولكن لأريكم كيف صلى النبي صلى الله عليه وسلم، والقدوة الفعلية أبلغ، فطالب العلم كالغيث، مبارك أينما كان، في جميع شئونه، بأقواله وأفعاله ولباسه وصمته، وكلامه، ولهذا بعضهم يستفيد من الشيخ إذا كان الشيخ يتمثل السنة في أخلاقه في صلاته في لباسه، رأى ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- الربيع بن خثيم ، فقال لو رأى هذا نبي الله -عليه السلام- لأحبه، لسمته وخلقه وطيب شمائله.
وقوله: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم، فيه عظيم نفع العلم مع صاحبه، فيه عظيم نفع العلم لصاحبه في سفره وحضره، طالب العلم معه الزاد في كل مكان في السفر والحضر، في الحل والترحال، في الليل والنهار، العلم نور، أما الجاهل فيتعسر ويقع ويسقط، أما طالب العلم فعلمه نور في كل مكان،