البحث
الحديث الحادي والعشرون: من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن
الحديث الحادي والعشرون: من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تطبب ولا يعلم منه طب، فهو ضامن أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم .
فيه ذم من ادعى ما ليس فيه، ذم من لبس ثوب غيره، ذم من ادعى علما ليس من أهله، وإذا كان هذا في شأن طب الأبدان، فما بالك بشأن طب ماذا؟ طب القلوب، وفيه أيضا شرف مهنة الطب، لما لها من النفع العظيم، ولما يجريه الله -جل وعلا- على أيدي الأطباء من أسباب الشفاء والعافية، بإذن الله وقدره.
قال الشافعي -رحمه الله تعالى- العلم علمان، علم للدين، وعلم للدنيا، فعلم الدنيا الطب، والعلم الذي للدين الفقه، وقال أيضا: ما أعلم علما أنبل بعد الفقه من الطب، ولكن أهل الكتاب غلبونا عليه، وكان الشافعي يتحسر على ما ضيع المسلمون من علوم الطب، وفيه أيضا وجوب الضمان لما أُتلف بدعوى التعالم، من أتلف شيئا فهو غارم له طبعا بضوابط، وهنا -نعوذ بالله- قد يؤدي الشخص بقتل مريض إذا كان جاهلا، وأعظم من ذلك من يدعي تقريب القلوب وإصلاح أحوال الناس، وليس له من العلم حظ، بل له من الجهل حظوظ كثيرة.
وفي ذلك من الفوائد أن على طالب العلم أن عليه أن يحذر أن يتكلم فيما لا يحسن فهذا حرام عليه؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب. وذكر الذهبي أن أهل المغرب كانوا لا يأخذون عمن لا يحسن فنه؛ ولذا ترى بعض الناس يتعالم في كل شيء، مع أنه عَرِيّ جاهل، فهذا أجرم في حق نفسه، وأجرم في حق أمته؛ ولهذا كان من منهج أهل العلم أن بعضهم يقصر، أو يكون جهده مركزا على علم أكثر فيتميز فيه، فإذا سُئل عن علم آخر لا يتقنه يتورع، بل يعترف بتقصيره، ذكر الذهبي في كتابه "تذكرة الحفاظ" في ترجمة الحليمي.
ذكر الذهبي حديثا ثم قال في إسناده نوح الجامع، ويسمى نوح بن أبي مريم، يكنى بأبي عصمة المروزي يسمى نوح الجامع، قال: جمع كل شيء إلا الصدق فهو كذاب، ثم قال: فكم من إمام في فن مقصر في غيره، فسيبويه إمام في النحو ما يدري ما الحديث، وأبو نواس رأس في الشعر عري من غيره، ومحمد بن الحسن إمام في الفقه وليس بذاك في الحديث، وعاصم إمام في القراءات تالف في الحديث، الشاهد: أن من الخطورة بمكان أن يتعالم الإنسان وبخاصة طلبة العلم إذا وثق الناس فيهم، فينبغي أن يقول لا أدري لما لا يعلم.
ولهذا مما وقع فيه بعض الناس أنه يتصدر على كل منبر في كل قضية، ولسان حاله سلوني سلوني، دخل علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- السوق وإذا برجل يفتي الناس وهو جاهل ويقص على الناس وهو جاهل، فقال علي: من أنت، قال علي: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: من أنت؟ قال أنا أبو يحيى. قال: أنت أبو اعرفوني. ثم طرده من السوق.
ولهذا مما جر على مجتمعات المسلمين من أسباب الخلل في المنهج الشرعي، ودعوة الناس عدم التفريق بين العالم وغير العالم، والله إن هذا الأمر من أعظم المصائب، يقول ابن الجوزي: وعند العامة أن كل من ارتقى المنبر فهو عالم، عند العامة، والأغرار، عدم التفريق بين العالم وغير العالم، هذا شاعر قريحته تنقدح غيرة على الإسلام، يشكر، هذا خطب مفوه، يشكر، هذا صاحب قلم سيال، يشكر، لكن لا بشعره ولا بقلمه ولا بفصاحته يترقى إلى منابر أهل العلم.
فمن الخلل العظيم عدم التفريق بين العالم وغير العالم، ولو أن كل إنسان لزم حده وقال لا علم لي سلوا أهل العلم لزال كثير من الشر، لكن الخلل أن يتكلم بعضهم في كل فن، وهذا من الجهالة وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا لما دخل الشافعي إلى بغداد قابله الإمام أحمد واستفاد منه، فجاء رجل إلى الإمام أحمد فقال: يا إمام أو يا أبا عبد الله إنه يقول كذا وكذا؟ فقال أحمد رحمه الله تعالى: إن هذا ليس من بابتك، إن هذا للفقه وإن الرجل فقيه فكن في الحديث.
فمن الجهالة بمكان أن لا نفرق بين العالم وغير العالم، إذا قال إنسان قصيدة شعرية مؤثرة جعلهم يحبونه الناس هو المفتي وهو المنظِّر وهو المؤصِّل، أو ارتقى الخطيب لفصحاته وخطب خطبة كما يقال قوية جعله الناس أو جعله بعض من يجهل التأصيل الشرعي لصفات العالم، جعلوه القدوة، والمنظر، والمقرر، وطلبة العلم أولى الناس بالتباعد عن هذه الأمور وبتبيينها للناس .