البحث
عفوه عن المسيئين إليه من أعدائه
عفوه عن المسيئين إليه من أعدائه:
لقد بلغ الأمر فى الخصومة بينه وبين قريش حدا لم يصل يوما ما بين فريق وفريق فقد ألقوا عليه التراب وحاولوا قتله وأتهموا زوجه بالافك . واتهموه بأنه ساحر وكذاب ومجنون , وسقوا أصحابه كئوس العلقم خلال ثلاثة عشر حجة[1] ومع ذلك فلما أمكنه الله منهم عفا عنهم
، فقد لقي الرسول منذ اليوم الأول لدعوته خصوما وأعداء يكيدون له ويحسدونه ويحقدون عليه , ما وسعهم الكيد و الحسد والحقد وقد واجه ذلك كله بالصبر و الصمود و الإحسان لمن يسئ و العفو عمن يظلم .
وكان آل محمد من قريش , وأعمامه أول خصومه , وامتدت خصومة قريش له ثلاثة عشر عاما كاملا في مكة , فما كان يشغل قريشا إلا هذا الأمر الجديد الذي جاء به الرسول , فهي مصبحة وممسية وهو حديث سرها وجهرها , ونجواها في ناديها وقصتها التي لا تنتهي .
ولما انتقل الرسول إلى المدينة واجهته خصومة من نوع آخر , ممثلة في اليهود و المنافقين .
وبدأ الاضطهاد في مكة حين حوصر المسلمون فى الشعب ثلاث سنوات لا يباع لهم ولا يبتاعون , حتى اضطر أغلبهم إلى الهجرة للحبشة , واضطر محمد صلوات ربي وسلامه عليه بعد موت عمه أبى طالب إلى اللجوء للطائف يطلب المنعة , فلم يلق إلا لونا جديدا من العنت و الأذى .
وكان أبو لهب يمضى وراء رسول الله يحرض عليه كل من يستمع إليه , فلما عزم المسلمون على الهجرة دبرت قريش تلك المؤامرة الضخمة لقتل الرسول . وترصدوا له حول حجرته حتى علموا أن عليا هو النائم في فراشه و المتسجى ببرده .
وفى المدينة بدأ اليهود حملة من الحجاج والتأمر و الكيد و التكذيب , وأعانهم المنافقون الذين تظاهروا بالإسلام مبطنين له الكيد , محرضين على حرب المسلمين , وكان على رأس المنافقين عبد الله بن أبى بن سلول.
وكان الرسول حريصا على أن يُغضي الطرف عن هذه المؤامرات ويُعرض عنها آخذاً بالعفو آمراً بالمعروف، فلم يأذن بمواجهة هؤلاء المنافقين إلا بعد أن طفح الكيل وخيف على الدعوة نفسها[2]
وفي أُحد لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ألف مقاتل وسلك بمن معه من المؤمنين على البدائع في حرة بني حارث ، ومروا بحائط لمربع بن قيظي ، وكان منافقا ً؛ فلما سمع حِس رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين رفع حفنة من تراب وقال :< والله لو أعلم أن لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك>، فبدره سعد بن زيد بضربة شج بها رأسه، وابتدره رجال ليقتلوه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : < دعوه، لا تقتلوه،فإنه أعمى القلب ، أعمى البصر> [3]
وهذا موقف آخر في أُحد ، حين لم يدعُ على من تسببوا في جراحه فقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جريروابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه و البيهقي في الدلائل عن أنس أن النبيصلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في وجهه حتى سال الدم على وجههفقال: "كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله :"ليس لكَ من الأمر شيءأو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون "(آل عمران-128)، فقال صلوات الله عليه وسلامه شفقة بهم : < اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون > .
وموقف ثالث في أُحُد مع من مثَّل بجثمان عمه الحبيب سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى جثمان حمزة لولا أن تحزن صفيّة أخت حمزة ويكون سُنَة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع و حواصل الطير؛ ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلنَّ بثلاثين رجلا منهم وهنا صاح أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم<والله لئن ظفرنا بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مُثله لم يمثلها أحد من العرب >؛ و لم يكد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرغ من إلقاء وعيده هذا حتى جاءه الوحي وهو في مكانه لم يبرحه:<ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ>(النحل:125-126)
وكان نزول هذه الآيات خير تكريم لأسد الله ورسوله وسيد الشهداء الذي وقع أجره على الله ، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ،ونهى عن المُثلة بالقتلى[4] ثم اسلم وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه وحسُن إسلامه ، ثم عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم رغم كراهية النبي لفعله!
ويبدو واضحاً أنه لم يكن يحقد على أعداءه بسبب أذاهم له،وإنما يرجو لهم الخير ويأمل في هدايتهم ، ويتضح ذلك في القصة التي حدثت قبل سرية عمرو بن أمية الضمري ....فمازال أبو سفيان يتحسر على فوته قتل النبي حين خاب أمله في أُحُد، ومن هنا فكر في فكرة خسيسة وهي إرسال من يغتال محمداً صلى الله عليه ، فقال لنفر من قريش بمكة:< ما أحد يغتال محمداً ؟ فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا> فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله وقال له: إن أنت وفيتني وخرجت إليه حتى أغتاله فإني هاد بالطريق خرَّيت معي خنجر مثل خافية النسر. قال: أنت صاحبنا. وأعطاه بعيرا ونمقه وقال: اطو أمرك فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد؛ فقال الأعرابي:< لا يعلمه أحد> فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا وصبح ظهر الحي يوم سادسه ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المصلى فقال له قائل: قد توجه إلى بني عبد الأشهل. فخرج الأعرابي يقود راحلته حتى انتهى إلى بني عبد الأشهل فعقل راحلته ثم أقبل يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده فلما دخل ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه إن هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريده فوقف وقال أيكم ابن عبد المطلب. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب فذهب ينحني على رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يساره فجبذه أسيد بن حضير وقال تنح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجذب بداخلة إزاره فإذا الخنجر فقال يا رسول الله هذا غادر. فأسقط في يد الأعرابي وقال دمي دمي يا محمد وأخذه أسيد بن حضير يلببه.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اصدقني ما أقدمك فإن صدقتني نفعك الصدق وإن كذبتني فقد أطلعت على ما هممت به قال الأعرابي: فأنا آمن قال: وأنت آمن فأخبره بخبر أبي سفيان وما جعل له فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير ثم دعا به من الغد فقال: قد آمنتك فاذهب حيث شئت أو خير لك من ذلك قال: وما هو؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال: <أشهد أن لا إله إلا الله وأنك أنت رسول الله ،والله يا محمد ما كنت أفرق من الرجال فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت ثم اطلعت على ما هممت به مما سبقت به الركبان ولم يطلع عليه أحد فعرفت أنك ممنوع وأنك على حق وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان> فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم وأقام أياما ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده ولم يسمع له بذكر.[5]
وقصة أخرى: ذكر ابن إسحاق في سياقه لغزوة بني قريظة ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلملما أمره جبريل عليه السلام بعد غزوة الخندق؛ بالخروج إلى بني قريظة لغدرهم، وخيانتهم، ونقضهم للعهد، أمر عليه الصلاة والسلام علياً أن يتقدم أمامه بالراية إلى بني قريظة، فسار علي بالراية حتى دنا من حصون القوم، فسمع مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلمبالطريق، فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخباث قال: ولِمَ؟ أظنك سمعت منهم لي أذى؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا"[6]
ومن أحاديث عفوه عن خصومه أنه في الحديبية ، كما روى أنس رضي الله عنه قال إن ثمانين نزلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح، يريدون أن يقتلوه [7]فأخذوا فأعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى سورة الفتح:
"وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُم وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً " آية 24- رواه مسلم والترمذي وأبو داود
و قصة " كعب بن زهير " ...ففي يوم الفتح الأعظم عفا عما فعله به أهله من قريش ، فعن علي بن محمد بن عبيد الله . عن منصور الحجبي عن أمه صفية بنت شيبة . عن برة بنت أبي تجراة قالت أنا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت فوقف على الباب وأخذ بعضادتي الباب فأشرف على الناس وبيده المفتاح ثم جعله في كمه .
قالوا : فلما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس وقد ليط بهم حول الكعبة فهم جلوس . قال <الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ماذا تقولون وماذا تظنون ؟> قالوا : نقول خيرا ونظن خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أقول كما قال أخي يوسف :< قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ >[8]
وفي يوم الفتح أيضاً خرج أناس هاربين ومن جملتهم كعب وأخوه بجير الذي كان شاعرا أيضا. ثمإن بجيرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسمع كلامه وآمن به وأقام عنده. فبلغ ذلك كعبا فشق عليه إسلام أخيه بجير فكتب إليه بأبيات يعتب عليه ويلومه،وأولها:
ألا بلغا عني بجيرا رسالة....فهل لك فيماقلت ويحك هل لكا
فلما وقف بجير عليها أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلمفقال عليه الصلاة والسلام: من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله ، وذلك عند انصرافه منغزوة الطائف التي كانت بعد فتح مكة. فكتب إليه يخبره : أن الرسول أهدر دمه , فان كان له حاجة فليذهب إليه فانه لا يقتل من جاءه تائبا. فبلغ ذلك كعب فأشفق على نفسه وقال قصيدة يمدحبها النبي عليه الصلاة والسلام ثم خرج إلى المدينة يريد الإسلام.
فلما وصلإليها نزل على رجل من جهينة يعرفه، فأتى به إلى المسجد ثم أشار إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم وأمره أن يقوم إليه ويستأمنه. فقام كعب إلى النبي عليه الصلاةوالسلام حتى جلس بين يديه فوضع يده في يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لايعرفه، ثم قال يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنتقابل منه إن أنا جئتك به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم، فقال كعب: يارسول الله أنا كعب بن زهير، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : الذي يقول ما قال،فوثب عليه رجل من الأنصار فقال يا رسول الله دعني والله أضرب عنقه، فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: دعه عنك فقد جاءنا تائبا نازعا، أي خارجا من الكفر، ثم أنشدكعب بن زهير قصيدته "بانت سعاد" بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسمعفلما وصل إلى:
إن الرسول لسيف يُستضاء به*** مهنَّد من سيوف الله مسلول
ألقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بُردته التي كانت عليه.
وقد بذل معاوية بن أبي سفيان لكعب في هذه البردة عشرة آلاف منالدراهم، فقال كعب : ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، فلمامات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا من الدراهم فأخذها منهم.[9]
* * *
وطلب عمر من النبي أن يخلع ثنيتي سهيل بن عمرو فلا يقوم خطيبا فلم يقبل النبى صلى الله عليه وسلم وقال لعمر رضي الله عنه : <لا أمثِّل به فيمثَّل الله بي >
وعسى أن يقوم مقاما لا تذُمُّه وقد كان . فلما ارتدت العرب وهم أكثر أهل مكة . وخافهم عتاب بن أسيد عامل النبي . قام سهيل فحمد الله وأثنى عليه . ثم ذكر وفاة النبي وقال . ان ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة فمن رأينا ضربنا عنقه .
ويتجسد عفوه صلى الله عليه وسلم حين كان في غزوة ذي أَمَر ، وثيابه صلى الله عليه وسلم مبتلة من المطر الغزير الذي نزل بهم ، فجلس تحت شجرة ونشر ثيابه لتيبس من البلل ، فرآه المشركون المعتصمون برؤوس الجبال خالياً وحده ، فنزل رجل منهم يقال له غورث ، أو دعثور بن الحارث ، نزل بإيعاز من إخوانه المشركين، وكان أشجعهم وأقدرهم على القتال ، فمشى حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد سل سيفه ، وقال:<ما يمنعك مني؟> فقال صلى الله عليه وسلم: < الله!! > فسقط السيف من يده ،فأخذه النبي الكريم وقال:< من يمنعك مني؟"> قال دعثور:<لا أحد ، وأنا أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ووالله لا أُكثر عليك جمعا ً أبداً، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً فرجع إلى قومه ، فقالوا له : < ويلك مالك؟> فقال لهم : < نظرت إلى رجل طويل فدفع في صدري فوقعت لظهري، فعرفت أنه مَلَك ، وشهدت أن محمداً رسول الله ، ووالله لا أُكثر عليه جمعاً، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام ،وقد نزل في هذه الحادثة وفي نظائرها قوله تعالى : <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِالمؤمنون >(المائدة-11) "[10]
وهكذا نراه صلى الله عليه وسلم قد عفا عنه بعد أ ن تمكن منه ، لأن إسلامه كان أحب إليه من قتله !!!
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يوصي الجنود بأعدائهم ، ويضع لهم ضوابط القتال في الإسلام، التي توضح أخلاقه حتى مع أعداءه:
روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ، وَباللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلًا صَغِيرًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَغُلُّوا، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ، وَأَصْلِحُوا، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
ويقول فيما رواه الإمام مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اغزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا الْوَلِيدَ، وَلَا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ.
هذه هي أخلاق الحروب في الإسلام، ليس فيها قتل لمدنيين أو غير محاربين وليس فيها إبادة جماعية ولا تدمير عشوائي، فليس في تاريخنا ما يشبه ما حدث في هيروشيما ونجازاكي وفيتنام وكوريا ودوسلدورف بألمانيا. ليس في تاريخنا ما يشبه ذلك من قريب ولا من بعيد.
والرائع في قصة القتال في الإسلام أن هذه الضوابط والتشريعات الأخلاقية لم تأت نتيجة تطور معين في الحضارة الإسلامية على مدار السنين والقرون، إنما نزلت في أول تشريع القتال، ونزلت بهذا التكامل وهذا السمو وهذه العظمة مما يثبت بما لا يدع أي مجال للشك أن هذا المنهج رباني، وأن هذه التشريعات إلهية، وأنه لا مقارنة مطلقًا بين قوانين السماء المتكاملة والتامة وبين قوانين الأرض الوضعية والتي يعتريها النقص في كل بند من بنودها[أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {المائدة:50}.[11]
وقصة أخرى من قصص عفوه الكريم ، قصة عفوه عن حاطب ابن أبي بلتعة ، فقد روى علي رضي الله عنه قائلا ً: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اوالزبير والمقداد ، فقال : إنطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب ، فخذوه منها ، فانطلقنا حتى أتينا روضة خاخ ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، فقالت ما معي من كتاب ، قلنا لتُخرجِنِّ الكتاب أو لنقلبنَّ الثياب فأخرجوه من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه :من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ، يخبرهم أمراً من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلوات ربي وسلامه عليه : يا حاطب ما هذا ؟ فقال يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت امرأً مُلصقاً في قومي وكان مَن معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهليهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك منهم من النسب أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي ،ولم أفعل ذلك كفراً ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ولا ارتداد عن ديني ، فقال صلى الله عليه وسلم " إنه قد شهد بدراً وما يدريك ؟ لعل الله عز وجل اطَّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم (صحيح أخرجه أحمد )"[12]
ولما تآمر عليه المنافقون ليقتلوه وهو في طريق عودته من تبوك إلى المدينة ، وعلم بهم وقيل له فيهم،عفا عنهم وقال:" لا يُتحدَّث أن محمداً يقتل أصحابه!!! )[13]
وحين كان الكفار ينادونه ب" مذمم" بدلاً من "محمد"، وغضب أصحابه صلى الله عليه وسلم...كان يقول لهم:" دعوهم فإنما يشتمون" مُذمَّماً"، وأنا "محمد"!!! [14]
ولما دخل المسجد الحرام صبيحة الفتح ووجد رجالات قريش - الذين طالما كذَّبوه ، و أهانوه ،وعذبوا أصحابه وشردوهم- جالسين مطأطئي الرؤوس ينتظرون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتح فيهم،فإذا به يقول لهم:" يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟" قالوا:" أخ كريم ، وابن أخ كريم"،قال:" إذهبوا فأنتم الطلقاء!!!" فعفا عنهم بعد أن ارتكبوا من الجرائم في حقه وحق أصحابه ما لا يُحصى عدده!!!
"وبهذا فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم السَّبق و الريادة في مجال العفو العام ،الذي لم يكن معروفا من قبله !!!"[15]
و لما استقر بالنبي صلى الله عليه وسلم المقام في مكة بعد فتحها، بعث عدداً من السرايا حول مكة تدعو إلى الله عز وجل، ولم يأمرهم بقتال، وكان ممن بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فوطئ بني جذيمة وأصاب منهم، وقتل منهم، وانفلت منهم رجل فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلموأخبره الخبر فقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد))، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلمعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: ((يا علي، اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك))، فخرج علي رضي الله عنه حتى جاءهم، ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوَدَى[16] لهم الدِّماء وما أصيب لهم من الأموال، حتى إنه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، وبقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي رضي الله عنه حين فرغ منهم: هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا؛ احتياطا ًلرسول الله صلى الله عليه وسلم مما يعلم ولا تعلمون، ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر فقال: أصبت وأحسنت... الحديث([17])وأصل هذه الحادثة ذكرها البخاري في صحيحه.
ولما خرج وحشي – الذي قتل سيدنا حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد – وقدم على رسول صلى الله عليه وسلم المدينة ، ليشهد بشهادة الحق قال : فلما رآني قال : أوحشي قلت : نعم يا رسول الله . قال : اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة ، قال : فحدثته فلما فرغت من حديثي ، قال : ويحك ! غيب عني وجهك ، فلا أرينك . قال : فكنت أتنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يراني ، حتى قبضه الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ذلكم هو ضبط النفس والعفو في أحسن صوره رجل لا يستطيع رسول الله أن ينظر إلى وجهه ؛ وهو قاتل عمه ، وهو عبد لا أصل له ولا عشيرة يعفو عنه ، وأحب شئ إلى المسلمين أن يروا دمه كما رأوا أحشاء حمزة الذي طعنه بحبته[18] (2)
ومن قصص العفو التي لا مثيل لها بين الناس عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سَلول ،فإن عبد الله هذا كان عدواً لدوداً بالمسلمين يتربص بهم الدوائر ويحالف عليهم الشيطان ويحيك لهم المؤامرات ولا يجد فرصة للطعن عليهم والنيل منهم إلا انتهزها ، وهو الذي أشاع قالة السوء على أم المؤمنين عائشة وجعل المرجفين يتهامسون بالإفك عليها ويهزون أركان المجتمع الإسلامي هزاً بهذا الاتهام الدنيء وتقاليد الشرق من قديم تجعل عِرض المرأة في الذروة من القداسة وتربط به كرامتها وكرامة أهلها الأبعدين والأقربين ولذلك كان حز الأمل قاسياً في نفس الرسول وأصحابه وكانت الغضاضة من هذا تلفيق الجرىء تملأ نفوسهم كآبة وغما حتى نزلت الآيات آخر الأمر تكشف مكر المنافقين وتفضح ما اجترحوا وتنوه بطهر أم المؤمنين ونقاء صفحتها ، ولقد أقيم الحد على من كانوا مخالب القط في هذه المأساة أما جرثومة الشر فإنه نجا ليستأنف كيده للمسلمين وسوق الأذى لهم ما استطاع وكتب الله الفوز لرسوله وجنده واكتسح الإسلام مخلفات القرون المخرفة وانحسر أعداؤه في حدود أنفسهم بل لقد دخلت عليهم من أقطارها وانكمش بن أُبي ثم مرض ومات بعدما ما ملأت رائحة نفاقه كل فج،وجاء ولده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه الصفح عن أبيه فصفح ثم طلب منه أن يُكفَّن في قميصه فمنحه إياه، ثم طلب منه أن يصلي عليه وأن يستغفر له ، فلم يرد له الرسول الرقيق العفوّ هذا السؤال ، بل وقف أمام جثمان الطاعن في عِرضه بالأمس يستدر له المغفرة ،لكن العدالة العليا حسمت الأمر كله:( إستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ) التوبة -80 " [19]
--------------------------------------------------------------------------------
حجة: أي سنة.[1]
أنور الجندي. أققباس من السيرة ا لعطرة ، ص 1113-115[2]
أبو بكر الجزائري، مصدر سابق، ص170-171[3]
محمد مهدي عامر،قصة كبيرة في تاريخ السيرة ،ص183-184[4]
أبو بكر الجزائري . هذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يا محب، ص188[5]
[6]عبد العزيز سليمان السلومي. دور علي بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوات وسرايا النبي صلى الله عليه وسلم : دراسة تاريخية توثيقة .-مجلة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة ، ع 20 ، متاح في : www.al-madinah.org/madina/docs/magazine_articles/20-6.doc
يلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد جاء وأصحابه يريدون أداءالعمرة وليس القتال .[7]
موسوعة السيرة ، متاح في : [8]
https://sirah.al-islam.com/display.asp?f=mga1593.htm
أنور الجندي. أقباس من السيرة العطرة ، ص116-117[9]
أبو بكر الجزائري، مصدر سابق ، ص165[10]
[11]راغب السرجاني. قصة الإسلام : فرض القتال على المسلمين /+, 1/5/2006، شوهد في 28/7/2007، على الموقع :
https://www.islamstory.com/article.aspx?articleid=1.2.5§ionid=0
عصام الدين سيد الصبابطي.- القاهرة : الدار المصرية اللبنانية ، 1991، ص 46[12]
أبو بكر الجزائري،هذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يا محب، ص341-342[13]
المصدر السابق،ص342-343[14]
[15]amin, el-sayed m .ahuman being before a prophet: muslim reflections on muhammad's character ,available from:
ودى: أي دفع لهم المال على سبيل الدِّية ( للقتلى الذين قتلهم خالد بن الوليد) [16]
([17])ابن هشام ، عبد الملك. السيرة النبوية.
المصدر السابق .[18]
محمد الغزاليخلق المسلم ،ج1 .- ص123-124.[19]