البحث
حزمه صلى الله عليه وسلم مع الخائنين من أعداءه
سابعاً : حزمه –صلى الله عليه وسلم مع الخائنين من أعداءه:
على الرغم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عفوَّاً كريما حليماً ، وأنه لم يكن يستمرأ عداوة أحد أو الحقد عليه وقتله بيده،إلا أن صنفاً من الناس غلبت عليهم الشقاوة فلجوا في عماهم حتى واجهوا وقفة محمدية أصيلة أورتهم النار وكانوا أشقى البشر .... ففي غزوة أحد ، وبعد أن خالف المسلمون تعليمات الحبيب صلى الله عليه وسلم ودارت عليهم رحى الحرب وأخذوا يتساقطون واحداً تلو الآخر بين شهيد وجريح و مهزوم ، أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الموقف لم يعد في صالحه وأن قواته في المعركة تتحرك على غير هُدى ، فانحاز هو ومن بقي ثابتاً معه من خُلَّص أصحابه إلى طرف الجبل لعلهم يستطيعون فعل شيء في هذه اللحظة الرهيبة ،وتكالبت قريش آنذاك ونفثت غلها وحقدها القديم وأخذ رجالها يبحثون في كل اتجاه وبإصرار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى الرغم من المحاولات العديدة للصحابة الكرام أن يفدوه صلى الله عليه وسلم بأنفسهم ،ومهجهم إلا أنه صلى الله عليه وسلم قد أصيب إصابات مختلفة ، ولكنها – بحمد الله - لم تكن بالغة (فقد كُسرَت رُباعيته - صلوات ربي وسلامه عليه- وشُج وجهه الشريف، ودخلت بعض حلقات المغفر[1] في وجنته ، وسقط في حُفرة كانت ضمن حُفر عديدة حفرها أبو عارم الراهب ، ثم أخفاها مكرا ًومكيدة ، فلما سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحداها جُرحت ركبته )، وبينما هو والبقية الباقية معه من أصحابه يتحركون صوب الجبل ليسندوا ظهورهم إليه ويحتموا به ،إذا بفارس مذعور من فرسان مكه يجري بفرسه يتخطى الرجال ، يصيح بأعلى صوته : أين محمد أين محمد ، لا نجوت ُإن نجا
ونظر الجميع إلى هذا الفارس الهائج فعرفوه ، إنه أُبي بن خلّف ،ولقد خرج على فرسه من مكة يحادّ الله ورسوله ويتعهد لأهل مكة أن يبر بيمينه التي تقدمت قبل سنين سابقة فيقتل محمدا ًعلى فرسه الأصيل هذه ...ولم يكن من السهل أن يُترك هذا الفاجر ليصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعترض سبيله الشاب مصعب بن عمير رضي الله عنه يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ولكن أبي المندفع بقوة عاجله بضربة من سيفه فقتله دون أن ينال مصعب منه شيئا ً ،فقد كان عدو الله لابسا ًدرعا ًمن حديد فوق جسمه وبيضة من حديد فوق رأسه ، وكان على فرس ، بينما مصعب على الأرض، وعاد ثانيةً بعد دورة دارها حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، عاد يصيح بتحدٍّ واستفزاز:" أين محمد ، دلوني عليه ، لا نجوت ُإن نجا "
وهنا هب رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً –وكان قد جلس يستريح قليلاً من إصاباته – فتصدى له بكل شجاعة في ساعة عصيبة رهيبة على الرغم مما به من جراح وألم ، وتلفت النبي صلى الله عليه وسلم حوله يستعد له وينتظر وصوله إليه ، فقال لبعضهم في فداء المحب : أيعطف عليه رجل منا يا رسول الله ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم في إصرار بعد أن قرر مواجهته بنفسه : لا ، دعوه ، ولعله صلى الله عليه وسلم قد طافت بذهن آنذاك كلماته لهذا الفاجر : بل أنا أقتلك عليه إن شاء الله (بقصد على فرس أُبَيّ)
وترك الحاضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصدى له وهم على يقين أنه لن يفلت من يديه سليماً ، إذ لم يكن باس الرسول صلى الله عليه وسلم وغضبه إذا غضب مما يستطيع أحد الوقوف أمامه فلما دنا أُبي بن خلف تناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة ، ثم انتفض بها انتفاضة تطاير القوم عنه ومن حوله تطاير الشَعراء[2] عن ظهر البعير إذ انتفض بها ، ثم استقبله بسرعة بطعنة في عنقه بين الدرع والبيضة حيث كانت ُرجة ظهر منها بدنه ،دون أن يترك له فرصة للانقضاض أو الهجوم عليه ، فتدأدأ عن فرسه مرارا ًمنشدة الضربة وعنفها حتى ابتعد رسول الله صلى الله عليه وسلم متدحرجا ًفوق الأرض ،وتكاثر القرشيون حول أبي بن خلف بسرعة فاحتملوه وهم يرون أن لا بأس به أن لا داعي للخوف على حياته ، على الرغم من أنه كان يخور خوار الثور ، وأراد البعض أن يهدىء من روعه فقال له مشجعا ً: ما أجزعك وأشد خوفك ، إنما هو خدش غير كبير لم يظهر له دم ، فرد أُبي خائر القوى موقنا ًبما يقول : قتلني والله محمد ، فقالوا يردون عليه روحه : ذهب والله فؤادك والله إنْ بك من بأس ...ولكن أُبي أجاب مستذكرا ً: إنه قد قال لي بمكة : أنا أقتلك ، فو الله لو بصق عليَّ لقتلني !!!
وقفل الجيش القرشي إلى مكة حاملاً معه فتات النصر الذي اختلسه في أحد ،عائداً إلى قريش بعض جرحاها و مصابيها ، ولكن الطريق لم يطُل بأبي بن خف ، بل مات في سَرَف ، قبل مكة بقليل .
ولعل ذلك يذكِّرنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله " [3]
إلا أنه كان يأخذ على يد من ينقض العهد أو يغدر:
فعن أبي هريرة قال : قال أبو عزة يوم بدر : يا رسول الله ! أنت أعرف الناس بفاقتي وعيالي ، وإني ذو بنات ، قال : فرقَّ له ومنَّ عليه وعفا عنه ، وخرج إلى مكة بلا فداء ، فلما أتى مكة هجا النبي صلى الله عليه وسلموحرض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُسر يوم أحدٍ ، وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بضرب عنقه ، قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول : (( لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين ))أخرجه البيهقي في السنن الكبرى
ونلمح في هذا ما كان عليه الصلاة والسلام من الرحمة والرأفة ، ولكنه اتخذ موقف القائد الشجاع ، الذي لا يمكن أن يُخدع مرتين ، ويمثل هذا التربية الصارمة والشدة في موضعها.[4]
وفي غزوة الفتح: حدثنا محمد بن عبد الله عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم قال لما ولى أبو سفيان راجعا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة جهزينا وأخفي أمرك وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم خذ على قريش الأخبار والعيون حتى نأتيهم بغتة ويقال قال اللهم خذ على قريش أبصارهم فلا يروني إلا بغتة ولا يسمعون بي إلا فجأة قالوا : وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنقاب فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف على الأنقاب قيما بهم فيقول لا تدعوا أحدا يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه - وكانت الأنقاب مسلمة - إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ به ويسأل عنه أو ناحية مكة . قالوا : فدخل أبو بكر على عائشة وهي تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم تعمل قمحا سويقا ودقيقا وتمرا ، فدخل عليها أبو بكر فقال يا عائشة أهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو ؟ قالت ما أدري . قال إن كان رسول الله هم بسفر فآذنينا نتهيأ له . قالت ما أدري ، لعله يريد بني سليم لعله يريد ثقيفا ، لعله يريد هوازن فاستعجمت عليه حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو بكر : يا رسول الله أردت سفرا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم . قال أفأتجهز ؟ قال نعم . قال أبو بكر : وأين تريد يا رسول الله ؟ قال قريشا ، وأخف ذلك يا أبا بكر وأمر رسول الله [ بالجهاز ] ، قال أوليس بيننا وبينهم مدة ؟ قال إنهم غدروا ونقضوا العهد فأنا غازيهم . وقال لأبي بكر : اطو ما ذكرت لك فظان يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام وظان يظن ثقيفا ، وظان يظن هوازن.
--------------------------------------------------------------------------------
زرد يلبس على قدر الرأس تحت القلنسوة .[1]
نوع من الذباب يكون على ظهر البعير[2]
عبد الله نجيب سالم . مواقف إنسانية في السيرة النبوية ، ص 57- 61، بتصرف يسير .[3]
يحي عبد الله البكري، مصدر سابق..[4]