1. المقالات
  2. السيرة النبوية صور تربوية وتطبيقات عملية - محمد مسعد ياقوت
  3. مع عَمْرُو بْن عَبَسَةَ

مع عَمْرُو بْن عَبَسَةَ

 

مع عَمْرُو بْن عَبَسَةَ
 
هذا درسٌ في فقه الداعية لبيئة الدعوة، وطبائع العباد، ومعادن الرجال . درسٌ في الذاتية، والرغبة الجادة في البحث عن الحقيقة. درسٌ في طبيعة المراحل الأولى للدعوة. درسٌ في أصلين كبرين ينبغي على المسلم أن يثقل نفسه فيهما .
 
***
 
قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِىُّ :
 
كُنْتُ وَأَنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلاَلَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَىْءٍ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِى فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ؛ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُسْتَخْفِيًا، جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، فَتَلَطَّفْتُ؛ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ مَا أَنْتَ ؟
 
 قَالَ : « أَنَا نَبِىٌّ ».
 
 فَقُلْتُ : وَمَا نَبِىٌّ ؟
 
قَالَ : « أَرْسَلَنِى اللَّهُ ».
 
 فَقُلْتُ: وَبِأَىِّ شَىْءٍ أَرْسَلَكَ ؟
 
 قَالَ : « أَرْسَلَنِى بِصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لاَ يُشْرَكُ بِهِ شَىْءٌ »
 
قُلْتُ لَهُ :  فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا ؟
 
 قَالَ : « حُرٌّ وَعَبْدٌ ».
 
 ... فَقُلْتُ : إِنِّى مُتَّبِعُكَ.
 
قَالَ : « إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلاَ تَرَى حَالِى وَحَالَ النَّاسِ ؟ وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ، فَإِذَا سَمِعْتَ بِى قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِى ».
 
قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِىُّ : : فَذَهَبْتُ إِلَى أَهْلِى، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الْمَدِينَةَ، وَكُنْتُ فِى أَهْلِى، فَجَعَلْتُ أَتَخَبَّرُ الأَخْبَارَ، وَأَسْأَلُ النَّاسَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ؛ حَتَّى قَدِمَ عَلَىَّ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ ـ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ـ فَقُلْتُ :  مَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِى قَدِمَ الْمَدِينَةَ ؟
 
 فَقَالُوا : النَّاسُ إِلَيْهِ سِرَاعٌ، وَقَدْ أَرَادَ قَوْمُهُ قَتْلَهُ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ. فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنِى ؟ قَالَ : « نَعَمْ أَنْتَ الَّذِى لَقِيتَنِى بِمَكَّةَ ».
 
 قَالَ : فَقُلْتُ بَلَى. فَقُلْتُ : يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى عَمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ وَأَجْهَلُهُ[1].
 
***
 
الذاتية في البحث عن الحقيقة
 
حينما تتقد شعلة الإيمان؛ يتحرك الإنسان في كل مكان، يبحث، يجوب، لا يهدأ له بال حتى يصل إلى الحقيقة الكاملة، فهذا الرجل ( عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ ) من أهل الفطرة السليمة، اكتشف بنفسه فساد واقعه، وبطلان عبادة الأوثان والمعتقدات الجاهلية المختلفة؛ حتى إنه كان يعتقد أن الناس في انحلال مريع، حيث وصل بهم الفساد إلى أن عبادوا ما نحتته أيديهم !
 
إن هذا الوسط الفاسد، دفع هذا الرجل الحر الإيجابي إلى الحركة والبحث عن سبيل المهتدين، وفور سماعه لأخبارٍ تقص من شأن رجل يدعو إلى نبذ عبادة الأوثان ـ سرعان ما ارتحل الرجلُ راحلته متوجهًا إلى مكة.
 
وكانت الملاحظة الأولى له؛ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مستخفيًا ..
 
***
 
تخفي وصبر
 
كان حال النبي ـ صلى عليه وسلم ـ في غالب المرحلة السرية وفي بعض المرحلة الجهرية هو التخفي، وهذا لاتخاذ دار الأرقم التي كانت في المرحلتين السرية والجهرية؛ وكان العمل فيها سِرّيًا على كل حال، كيما يواصل النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عملية التكوين الداخلي للجماعة المسلمة، إضافة إلى وجود شريحة كبيرة من المسلمين تخفي إسلامها . والإعلان عن هويتها في هذه المرحلة سيضر بها وربما يضر بالدعوة نفسها؛ حيث تصبح الدعوة أحرج وضعًا حينما تُكشف جميع أوراقها، أو تتقرش قوتها في بقعة بعينها . .
 
***
 
أما الملاحظة الثانية لعمرو بن عبسة، فهي تشير إلى جرأة قريش على النبي – صلى الله عليه وسلم ـ  وأن قومه جرءاء عليه، وهذا يدلل على أن قدوم عمرو بن عبسة كان بعد إعلان جهرية الدعوة، إذا لم يتجرأ الناسُ على النبي ـ صلى عليه وسلم ـ في السنوات السرية الثلاث.
 
ومن ثم تدل هذه القصة على حالة التخفي التي اتخذها المسلمون لمحاولة امتصاص الغضبة التي غضبتها قريشٌ فور الإعلان عن الإسلام، إذ شرع كل رائد في قومه بالتنكيل بالمسلمين الضعفاء.
 
ويبدو من ذلك أيضًا أن عمرو بن عبسة دخل مكة في ساعة حرجة جدًا؛ عمليات تعذيب بشعة تُمارس على المسلمين، سواد الضعفاء في تخفٍ وكتمان؛ يبطنون الإيمان ويظهرون الكفر، القيادة الإسلامية تتحرك بحذر شديد، تتم الفعاليات التربوية خفيةً في دار بعيدة عند الصفا، ودخول رجل غريب عن مكة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه خطورة على الدعوة والداعية والمدعو. هكذا كانت الصورة والله أعلم .
 
***
 
العقيدة والأخلاق
 
ودخل عمرو بن عبسة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتلطف في الدخول، وهذا التلطف إنما هو من أدب طالب العلم في دخوله على العلماء، وهو من أدب مريدي الإصلاح في دخولهم على أولى الفضل والخبرة ...
 
كانت إجابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تتفق ـ دومًا ـ وطبيعة السائل والواقع، فقد قال له ـ ردًا على سؤاله: " وَبِأَىِّ شَىْءٍ أَرْسَلَكَ " ـ:
 
« أَرْسَلَنِى بِصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لاَ يُشْرَكُ بِهِ شَىْءٌ »
 
هذا هو تعريف الإسلام في هذه المرحلة، وهذا هو التعريف الذي قدمه ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الرجل الذي قصد التعرف على الإسلام، وهو في تشوق واضح لمعرفة كل قول وفعل في هذا الدين الجديد .
 
إن الذين يسكبون النصوص الإسلامية جملةً واحدة في آذان الناس؛ لهم على خطأ، ولهو من الحمق والرعونة .
 
إن الذين يبدئون بالفروع دون الأصول، ويجتزئون من الدين، فيُظهرون غير الأوْلى، ويجرون الناس في متاهات ضبابية في خلافيات الفقه، ومسافات جليدية في تقعرات المتون، لهم على شر، لهم على شر، لهم على شر !
 
فالأصل في عرض الدعوة والترويج لسلعة الله الغالية ـ هو التبسيط والتشويق؛ كما ترى من رد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا منحه وجبة أولية تَعَرّفَ فيها الرجلُ على أصلين كبيرين في الدين، وأمهله وشوّقه؛ على أن يلتقي به بعد أن يظهر الدين وتقوم الدولة فيعلمه ما بقي، وقد كان، فقد جاء عمرو بن عبسة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة المنورة، حيث دولة المسلمين، فأوضح له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمور الصلاة .
 
 
 
وكان حق العباد وحق الله هما الأصلان . فذكر من الأول صلة الأرحام، وذكر من الثاني محاربة مظاهر الشِرك .
 
أصلٌ أخلاقيٌ، وأصلٌ عقائديٌ . وعلى هذين المحورين دارت التربية النبوية في دار الأرقم، أخلاق وعقيدة، وعلى هذين المحورين ركّز القرآن المكي؛ آيات تهذب النفوس بمكارم الأخلاق، وآيات تطهر القلوب من عبادة الأوثان.
 
هكذا كان الشغل الشاغل للمرحلة المكية كلها؛ التربية الإسلامية الراسخة على أصلين كبيرين الأخلاق والعقيدة .
 
فيا ويح هؤلاء الذين أضاعوا المنهج التربوي، وشغلوا طلاب الإصلاح بترهات من هنا وهناك، وأقحموا الشباب في مسائل لا تنفع، وتفاهات لا تجمع، وبين عشية وضحاها يتحول العربيد إلى فقيه مجتهد يقول : نحن رجال وهم رجال !
 
***
 
صراحة وهِمّة
 
قال : " ... وَكَسْرِ الأَوْثَانِ " ..
 
قالها أيام الإيذاء والتعذيب . قالها ولم يخش إلا الله . قالها لأن الأصول ثابتة، والتوحيد لا يتغير، والعقيدة واحدة في كل المراحل وفي كل الظروف . قالها لأنه لا يجوز التخلي عن أصول العقيدة أو المساومة عليها أو إخفائها أو سترها، أو إظهار شيء و إخفاء شيء منها.
 
" ...َكَسْرِ الأَوْثَانِ "..  قالها .. ويحمل في قلبه همةٌ تناطح الجوزار؛ ويعجب البعض؛ أنّى له ذلك وقد عجت الجزيرةُ العربية بهذه الأوثان، ورسخت في عقول الناس رسوخ الجبال، فلها يذبحون، ولها ينذرون، وفي سبيلها ينفقون، ولا تركع العربُ إلا لها؛ فهم لها يُصلّون..
 
إنها الهمة العالية التي تحدوه إلى إظهار كل أصول الدين رغم هذه الوثنية المطبقة.  ورغم هذه الأوثان المنحوتة التي انتشرت، والأصنام المنجورة التي كثرت؛لم ييأس، ولم يتراجع، ولم يستثقل صعوبة المهمة.
 
هكذا  كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له همة على هامة النجم، همةٌ تعزل السماك الأعزل سموا ، وتجر ذيلها على المجرة علوا .
 
***
 
التعمية عن المؤمنين
 
قال عمرو بن عبسة :  فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا ؟
 
 قَالَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : « حُرٌّ وَعَبْدٌ ».
 
وهذه توريةٌ على الأرجح؛ إذا لا يُعقل أن عدد من أسلموا ـ خلال مرحلة الدعوة السرية ـ محصور في شخصين، حر وعبد !
 
 وقوله : حر وعبد ينسحب ـ من الناحية اللغوية والبلاغية ـ على جمع غفير من الأحرار والعبيد؛ إذ هذا الجمعُ يتألف من حر وعبد !
 
ولماذا التورية ؟ ولماذا لم يخبره بعدد أفراد الجماعة؟ ولماذا لم يُصرح له بأسماء أشراف الدعوة الإسلامية ورجالاتها من أولي الحسب والمال ؟
 
إن طبيعة المرحلة المكية عامة وظروف الاضطهاد خاصة تقتضيان ذلك، خشية أن يتعرف المشركون على العدد الحقيقي للمسلمين، الأمر الذي يساعد الوثنية على احتواش المسلمين، فيترصدوهم، فيرصدوا لهم القوة المناسبة للانقضاد على أفرادها وانتشالهم زَرفات وواحدنًا، وضربهم ضربة قوي خبير .
 
وهو درس لرجال الدعوة، أن يكونوا ستارًا للمؤمنين، وحصنًا لضعفاء المسلمين؛ فليس من أخلاق قائد الدعوة أن يقذف برجاله أمام فوهة المدفع؛ متكلاً على إيمانهم وثباتهم، فيفتن المؤمنين، فيخسر ويخسرون .
 
إن قائد الدعوة يتحرى دومًا التعمية عن رجاله؛ كما يظلل الأب على أبنائه .. ولهذا أَثرٌ بعيد في تعميق العلاقة بين القائد وجنده أو بين الأخ وأخيه؛ لِـما يراه الأخُ من تلهفِ أخيه عليه خشيةَ أن يمسسه سوء .
 
***
 
وسؤال عمرو بن عبسة ـ  " فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا ؟ " ـ يظهر لك طبيعة الجماهير وعامة الناس من الدعوات؛ وتأثرهم بالكم لا الكيف، إن العامة تغتر بالدكان الذي اقتظ حوله المبتاعون، وبالموقع الذي كثر زواره؛ وبالمنتدى الذي كثر رواده، يغترون بهذا، ولا يهتمون في الغالب الأعم بالمضمون أو بمدى مصداقية هذا الموقع وسلامة منهجه .
 
أما العقلاء المخلصون فيهتمون بمضمون الحق لا بظاهره وإن عزف عنه الناسُ أجمعون.
 
***
 
رجال ورجال
 
قال عمرو بْن عَبَسَة : فَقُلْتُ : إِنِّى مُتَّبِعُكَ !
 
فقَالَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلاَ تَرَى حَالِى وَحَالَ النَّاسِ، وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ، فَإِذَا سَمِعْتَ بِى قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِى ".
 
وهذا الرد يفيدك أن الدعوات تكون أكثر فعالية في البيئة الحرة، عندما تُرفع القيود، ويُطلق الدعاة يبلغون رسالات الله بكامل إرادتهم دون حظر أو منع؛ هذه هي أنسب بيئة لنمو الدعوات بين عامة الناس، وأفضل الأوقات لجذب الجماهير. أما من ينضم إلى الدعوة أثناء محنتها وفي وقت حظرها ـ فهم أولي العزم والصبر والثبات، وهم دومًا من يقيمون الدعوات، فلم نرَ في تاريخ الإنسانية دعوة قامت إلا على أكتاف من دخلوها في فترة محنتها، وصبروا على لأوائها، وكابدوا صعابها، وقاموا كثيرا في سبيلها، وناموا قليلاً من أجلها. فالأيادي الناعمة لا تبني الدول، والمترفون لا يصنعون حضارة . 
 
ولذلك لا تعجب إذا علمتَ أن مؤسسي الحركة الصهيونية تركوا رغد العيش في أوربا، وتركوا بيوتهم وأموالهم، وهاجروا متجردين من أجل فكرتهم، وكابدوا القتال في فلسطين من أجل إقامة دولتهم الباطلة، ونجحوا في ذرع هذا الكيان السرطاني في جسد الأمة الإسلامية .
 
ولا تعجب إذا علمتَ أن كارل ماركس ـ مؤسس الشيوعية ـ كان لا ينام إلا أربع ساعات، ثم يمضي آناء نهاره في الدعوة، وآناء ليله في الكتابه، وهو بين ذلك متقشف تقشف الزاهد العابد .
 
هكذا أهل الباطل في باطلهم، فأحرى بأهل الحق أن يتخلقوا بأخلاق نبيهم .
 
أما الذين يقطفون الثمرة سهلة دون تعب، فإنما يأكلون ويتنعمون في جهد من بذلوا وضحوا، وليس من يحمل الدعوة كمن تحمله الدعوة، وليس من أسس بنيان كمن لم يبذل شيئًا سوى العيش في ظلاله .. ليس صانع البئر كالشارب منه.
 
{... لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[ الحديد:10].
 
***
 
طاقة الناس وبيئة الدعوة
 
"أَلاَ تَرَى حَالِى وَحَالَ النَّاسِ " !
 
ليس من الحكمة تكديس أبناء الدعوة في بقعة خطرة؛ فهذا أجدر لضربها، بل كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسعى دومًا لإنشاء عدة قواعد للدعوة، فإذا ضُربت في قاعدة انبرت أخرى تحمل اللواء، وتم ذلك في إنشاء جالية إسلامية في الحبشة، ومحاولة إيجاد دعوة في الطائف، وإرسال مصعب إلى المدينة تمهيدًا لبناء المجتمع الإسلامي الجديد.
 
 
 
وليس من الحنكة  ـ أيضًا ـ فتح باب الانضمام إلى الدعوة ـ في مراحلها الأولى ـ على مصراعيه؛ بحيث يدخل الصالح والطالح، والواثق والمتردد، إن الدعوة تحتاج في مراحلها الأولى إلى الانتقائية، واختيار العناصر الأفضل، والمعادن الأخلص، فأنت ترى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَبِل إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي وكلّفه بمهمة الدعوة في قبيلة دوس،  بيد أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخّرَ قبول إسلام عمرو بن عبسة، وذلك لمعرفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمعادن الرجال، وشرفها، وفضلها، وقدرتها في تحمل الصعاب والبلاء، كما أن الطفيل كان سيد قومه وشاعرهم، ولم يذكر كُتاب السير أي سيادة لعمرو بن عبسة، فمن الحكمة النبوية عدم تكليفه بأي نشاط دعوي؛ إذ ربما فتنته قريش أو فتنه قومه، فيحيد ولا يعود، كما الظبية إذا برزت، كانت صيدًا لصائدٍ ، أما الأسد؛ فليس غنيمة سهلة، فلا تضيره وقفته على الربوة.
 
وعليك يا داعي الله أن تتخير من معادن القوم، وتنتق أطايب الرجال، ولا تكلف الناس إلا في حدود طاقتهم، ألم تعلم أن ربك قال : {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا .. }البقرة286
 
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }الأعراف42
 
***
 
"أَلاَ تَرَى حَالِى وَحَالَ النَّاسِ " !
 
هذه الكلمة التي تنفطر لها قلوب المؤمنين، تبين لك حالة الكرب التي عاشها سيد الداعين، هذا النبي الصابر المحتسب، لم يتعجل النصر، ولم يمتعض من القدر ، وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولى الناس بشرف سرعة الإجابة والتمكين، ولكنَّ الله يسن سننًا، وينظم نواميس، ويرسي معالمًا، ذلك لكيما نعلم أن تحرير العقول وبناء الأمم وإقامة الدول تحتاج إلى الصبر، ثم الصبر، ثم الصبر.
 
نعم، لقد كان حال الناس سيئة، سيئة في تصوراتهم، سيئة في أخلاقهم، سيئة في تعاملها مع منهج الله . كان حالهم الإيذاء والتكذيب، والرفض التعذيب ..
 
وكانت حالك ـ صلى الله عليك ـ حال الداعي الواثق من نصر الله، المتفهم لسنن الكون، المتبصر بحاضرك وطبيعة مجتمعك .. تعرف جيدًا حالك وحالهم!
 
 ***
 
يا قارئي ..
 
- اعرف حالك، وافهم قدراتك، فربمًا تظن فيك العجز وأنت القوي الأمين؛ فامض في سّرٍ مِن حِفْظ الله، وحِجاب من كلاءته في دعوته ورسالته، امض الآن! فاعص بالله وأطع بالله، غير مبالٍ في رضا الخالق بسخط المخلوق.
 
- واعرف حال الناس، تاريخهم وثقافاتهم، أنظمتهم وطبائعهم، خصالهم الحميدة ومسالبهم القبيحة، مفاتيح نفوسهم ومغاليق قلوبهم .. تفهَمْ موقفهم من الدعوة، في أي السبل بك يلتقون ، وفي أي الأفكار معك يتفقون .. واقرأ مقدمة ابن خلدون.
 
 
 
توصيات عملية
 
1- رَسّخ نفسك في بابي الأخلاق والعقيدة، علمًا وعملاً، قولاً وفعلاً ..
 
2- صل رحمًا واكسر صنمًا . زرْ والدَيْك أو قِفْ على قَبريْهما، واكسر عادة من عاداتك، عادة لا تفيد، أو عادة أثمُها أكبر من نفعها .
 
------------------------
 
[1] أخرجه مسلم ( 1967)
المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day