البحث
القرآن الكريم يوجه الحوار النبوي ويؤازره
إن القرآن الكريم هو دستور المسلمين وقائد حياتهم كلها نحو الخير، ولهذا أخبرت عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي بخبر جامع مبين حين سئلت عنها فقالت للسائل:" أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قالَ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ كَانَ الْقُرْآنَ " ([1]).
ولهذا لا يمكن فهم الحوار في السنة والسيرة دون العودة إلى حوارات القرآن التي تداخلت مع أحداث السيرة موجّهةً ومبينةً ومؤازرةً وهاديةً... سواء في الفترة المكية التي كانت المواجهة فيها مع كفار العرب ومشركيهم هي الظاهرة أو في الفترة المدنية التي أضيف إليها عبء المواجهة المباشرة مع اليهود والمنافقين والأعراب حول المدينة..
إن القرآن كان يساير الأحداث ويعقّب عليها كما حدث في غزوات بدر وأحد والأحزاب وفي أمور أخرى كثيرة، ومن ثم نجد أنفسنا بحاجة إلى فهم الحوار القرآني كأساس لفهم الحوار في السيرة النبوية.
وفي السطور القادمة سنذكر بإيجاز معالم الحوار في القرآن لتكون مدخلاً هادياً لفهم حوارات السنة النبوية، ويشمل ذلك المباحث الآتية:
1- مشروعية الحوار في القرآن.
2- من أهداف الحوار في القرآن.
3- طبيعة الحوار في بنية النص القرآنيّ.
4- الفرق بين حوارات القرآن وحوارات السنة النبوية.
5- القرآن وحوار الدعوة في مكة.
6- القرآن والحوار في المدينة النبوية.
***
1- مشروعية الحوار في القرآن:
شرع الله تعالى الحوار بوصفه وسيلة مثلى للدعوة إلى الله، دعوة البشر الذين كتب الله عليهم الاختلاف والتنوع، لكنه أراد لهم منهجاً واحداً ذا أصول عامة محددة هو منهج عبادته وحده سبحانه، لهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب، وجعل القرآن آخرها ومهيمناً عليها وشاملاً لما جاء فيها ليكون رسالة الله الأخيرة للعالمين بين يدي الساعة، وشرع الله للناس في كتابه التعارف ووسيلته الأولى التحاور، إن القرآن الكريم " يعتمد اعتماداً كبيراً على أسلوب الحوار في توضيح المواقف، وجلاء الحقائق وهداية العقل وتحريك الوجدان واستجاشة الضمير، وفتح المسالك التي تؤدي إلى حسن التلقي والاستجابة والتدرج بالحجة، احتراماً لكرامة الإنسان وإعلاء لشأن عقله الذي ينبغي أن يقتنع على بينة ونور " ([2]).
لقد فضل القرآن الحوار والمجادلة بالحسنى على السيف ابتداءً، ذلك أن الاقتناع الفكري يضمن بقاء المقتنع - غالباً - على الولاء لأنه قد صار مؤمناً بالقضية، أما الخضوع للسيف فهو خضوع مؤقت لا يضمن الاستمرار على الولاء، وهو خضوع ظاهري لا يدخل إلى أعماق القلوب والنفوس، لهذا كان الحوار والجدال منهج القرآن المختار بداية، فإذا وضح الحق ثم بقيت القلوب على عنادها كان اللجوء إلى السيف، لا حباً في الحرب، بل إحقاقاً للحق، وإنقاذاً لرقاب العباد من التردي في مهاوي الشيطان الذي أقسم ليغوينّهم وليضلنّهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين.
ذلك المنهج هو ما كانت تتبعه حضارتنا حين فتحت الأمصار ونشرت النور فأنقذت الملايين من الجور والكفر، ذلك كله يوجزه بكلمات بليغة دالة ربعيُّ بنُ عامر- يرحمه الله - في حواره مع رستم قائد الفرس وسط عسكره وفي زينته.. فحين سأله رستم: ماذا جاء بكم؟ قال ربعيٌّ:" الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلَنا بدينه إلى خلقه لندعوَهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضيَ إلى موعود الله.." ([3]).
وقد جاء الحوار في القرآن مناسباً كذلك لظروف الدعوة في مكة ثم المدينة، حيث ناسب في مكة ظروف الدعوة الفردية والقبلية التي غلبت على طابع الدعوة في مكة، أما في المدينة فقد كان الأمر أشبه بحوار الحضارات، حيث اتسع العمل الإسلامي وتنوعت محاوره ومجالاته لتأسيس دولـة جديدة، والكشف عن الفروق بين حوارات المرحلة المكية وحوارات المرحلة المدنية كشفٌ يضاف إلى رصيد إعجاز القرآن الذي يتجدد بتجدد الزمان.
والملاحظ أن أكثر حوارات القرآن مكية، وذلك يناسب حال الدعوة في المرحلة المكية حيث واجهت قوماً ذوي عناد وصلابة في الباطل وقوة في البيان ولذا نجد في القرآن المكي عموماً أموراً منها:
1- الإيجاز وقصر الآيات.
2- معالجة الموضوع الواحد أو القصة الواحدة من زوايا متعددة مع إيراد ذلك في سور متعددة كذلك، فيكون العرض للموضوع أو تكون الزاوية المعروضة منه مناسبة لطبيعة السورة التي ترد فيها، وهو من صور الإعجاز في القرآن.
3- كثرة المواضع الحوارية في السور المكية، وعلى سبيل المثال فإن سورة يوسف هي مجموعة من الحوارات المتتابعة يتخللها بعض المواضع السردية للانتقال من حوار إلى حوار.
لقد عظّم الله تعالى أمر الحوار، إذ حاور - هو سبحانه - بعضاً من خلقه ليعلمنا ضمناً أنه يفضل هذه الوسيلة للتعامل بين العباد، لقد حاور الله عز وجل الملائكة في شأن آدم، وهو قادر على قضاء الأمر دون إعلامهم، لكنه سبحانه يحب العدل ويأمر به، وحاور سبحانه إبليس محاورات متعددة متنوعة بشأن خلق آدم، وإبليس في ذلك كله يبارزه بالمعصية التي تستوجب الدمار والهلاك، ولكن الله عز وجل يحاوره ثم يُنظره، بل يعطيه مع ذلك القدرة على الوسوسة والغواية إلى يوم القيامة.
وحاور الله تعالى نوحاً في شأن ولده الذي أصر على كفره حتى أدركه الغرق فطلب نوح من الله أن ينجيه، فقال تعالى له ] قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [ (هود:46) .
وحاور الله تعالى إبراهيم حين أراد أن يعرف كيف يحيي الله الموتى، فحاوره سبحانه ولم يعنفه، بل دله على تجربة عملية يقوم بها بيديه، وحاور الله تعالى موسى حين طلب أن ينظر إليه، فما عنّفه سبحانه وما لامه، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل، ولكنه دلّه على تجربة عملية رآها رأي العين.
هكذا يعلمنا الله عز وجل، إنه هو الخالق القادر، ويحاور المخلوقين، فلماذا لا يحاور الخلق بعضهم بعضاً؟ إنه السبيل الأمثل للتواصل والتعارف والدعوة وتقريب المذاهب وتضييق الخلاف، وهو ما أمر الله به خلقه صراحة في قوله ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[(الحجرات:13).
وشرع الله عز وجل لأنبيائه الحوار مع أقوامهم، فما من نبيّ قصّ القرآن قصته وأحواله مع قومه إلا ذكر حواره معهم، وقد تعددت الحوارات في كثير من قصص الأنبياء، فنجد نوحاً عليه السلام يحاور قومه مرات ومرات، ويحاور ولده ساعة الغرق، وهو يشتد مع قومه في الحوار حتى يحسّوا منه ما يشبه الخصومة لكثرة ما يدعوهم، وهم لهذا يعدّون حواره ذاك معهم جدالاً فينادونه ] قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ (هود:32).
وتتعدد حوارات إبراهيم عليه السلام مع الملك ومع قومه ومع الملائكة المرسلين إلى قوم لوط، وهو يشتد في محاورة قومه حتى يضيقوا به ذرعاً فيتخطوا طور المحاورة والجدال إلى ما هو أشدّ، إلى المحاجة بالباطـل ] وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ [ (الأنعام:80).
وإبراهيم عليه السلام بما عُرف عنه من حلم ورحمة ] إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [ (هود:75) إبراهيم يتخطى طور الحوار إلى طور الجدال في أمر قوم لوط حين أخبرته الملائكة بأنهم ذاهبون لإهلاكهم، ولم يكن جداله معهم من النوع المذموم، إنما هو حوار اشتدّ فيه فسمي جدالاً ] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ [(هود:74).
ولوط عليه السلام لـه حوارات متعددة ومتنوعة طولاً وقصراً مع قومه، ولكنهم يجادلونه ويصرون على المعصية التي اخترعوها غير مسبوقين إليها، وقد أصروا على عنادهم وكفرهم حتى اللحظات الأخيرة حين رأوا رجالاً حسني الصورة يدخلون بيته فاجتمعوا ببابه... ويصل بنا الحوار إلى مرحلة الذروة التي نرى معها العناد والفجور يناطحان الحق الواضح الصريح، هنا تكون المفاجأة ومن ثم العقوبة ]وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ. وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ. قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ. قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ. قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [ (هود: 77-81)
ولأن الحوار سيكون الوسيلة المثلى للدعوة إلى الله، والأنبياء أعلامها وقادتها فقد وهب الله تعالى أنبياءه حسن البيان، فأرسل كلاً منهم بلسان قومه ليبين لهم، ولأن موسى عليه السلام كُتب عليه أن يواجه طغيان فرعون، ومن بعده عناد بني إسرائيل وعتوهم عن أمر ربهم، فقد طلب منذ اللحظة الأولى لتكليفه بالرسالة زيادةَ القدرة البيانية لديه ليواجه بها معاركه الصعبة ] وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي [ (طه:27-28) بل إنه يطلب زيادة على ذلك عون أخيه هارون بتكليف من الله تعالى، لأن هارون أفصح منه بياناً ] وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [ (القصص:34) قال الزمخشري في بيان معنى التصديق هنا: " ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة، فذلك جار مجرى التصديق المفيد كما يصدّق القول بالبرهان.. وفضل الفصاحة إنما يُحتاج فيه لذلك، لا لقوله: صدقت " ([4]).
هكذا نجد القرآن يفضل أسلوب الحوار أولاً ليقيم الحجة على أعداء الله على مرّ التاريخ، ولا يكون هلاك أو عقاب إلا بعد حوار وإنذار متكرر، وهذا مما يجب أن تتعلم منه أمة الإسلام فتقيم حواراً متصلاً منظماً مع الأمم الأخرى لدعوتها إلى الله، وقبل ذلك دعوة العصـاة والمنافقين من أبناء أمتنا إلى الله تعالى.
2- من أهداف الحوار في القرآن:
تتنوع مقاصد الحوار وأهدافه في القرآن تنوع مقاصد القرآن نفسه، وهي تشمل أشياء لا يحدّها عند التحليل والاستقصاء حصرٌ، لأنه رسالة الله الخالدة والأخيرة إلى أهل الأرض ] مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [ (الأنعام:38) وبعض ما جاء في القرآن سرداً بلا حوار دار حوله الحوار في السنة النبوية كثيراً، كمواضيع الميراث والفقه والعبادات، فالحوار هو الوسيلة المفضلة في كتب الله وفي سنن رسله وأنبيائه للدعوة إلى الله تعالى، ولذا تتنوع المقاصد والأهـداف، حيث "لم يقتصر الحوار على نوع معين كالعقيدة أو الدين عامة، بل شمل كل أوجـه الحياة دينية كانت أو سياسية أو اجتماعية أو غير ذلـك " ([5]).
وقد ورد الحوار المباشر - أي بين أطراف تتحاور حواراً مباشراً- في القرآن الكريم في أربعين سورة، وهو قدر كبير من القرآن، خاصة إذا علمنا أن الحوار يرد في السور الطوال غالباً، ويقل في القصار، وهذه الطوال تمثل أكثر القرآن، إذ إن نصفه عند الآية الرابعة والسبعين من الكهف، والكهف هي السورة الثامنة عشرة منه.
والحوارات تتعدد كذلك في السورة الواحدة، ومجموع المواضع الحوارية في القرآن كـله حـوالي (172) موضعاً، وقد حصرت عدد الآيات في المواضع الحوارية فجاءت حوالي (921) آية بنسبة 14و76% من عدد آيات القرآن البالغ (6236) آية، هذا في مواضع الحوار المباشر فقط، أي في وجود طرفين متواجهين متحاورين مستعملين لفعل القول قولاً ورداً في الموقف الحواري، وثمة حوارات غير مباشرة لم تدخل ضمن هذا الحصر، وذلك كأن يقص الله تعالى قولاً عن الكفار أو أهل الكتاب أو المنافقين ثم يردّ عليه، فهو لون من الحوار، ولكنه حوار غير مباشر، وهو كثير في القرآن الكريم أيضاً.
وسنحاول هنا في نقاط موجزة أن نعدد ما يسعنا حصره من أهداف الحوار في القرآن الكريم.
ومن ذلك:
1- الدعوة إلى الله تعالى كما في دعوة نوح وهود وصالح وغيرهم من الأنبياء والدعوة إلى الله أي إلى توحيده وعبادته وحده، ومنها كذلك حوار يوسف مع صاحبي السجن.
2- النصح والإرشاد مع إظهار الشفقة، وهو فرع من فروع الدعوة، ولكنه يكون مع من هم أمس رحماً بالداعي، كما في دعوة نوح ولده، ودعوة إبراهيم أباه بالحسنى دون لوم أو تعنيف.
3- التعليم والتأدب كما في حوار الخضر مع موسى، حيث كان الرجلان مؤمنين، لكن الحوار معهما فيه نماذج للتعليم وآداب تلقي العلم، ولذلك قال النبي r:" يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَـبَرَ حَتَّى يُقَـصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا " ([6]).
4- اللوم والتأنيب كما في حوار موسى وهارون عند عودة موسى بألواح التوراة ليجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل.
5- التهديد والوعيد كما في حوار موسى والسامريّ.
6- إظهـار المعجزة كما في حوار عيسى عليه السلام مع أمه وبني إسرائيل.
7- التعليم والخضوع لأمر الله كما في حوار إبراهيم مع ولده الذبيح.
8- إظهار الحق والفصل فيه كما في حوار ابني آدم وحوار موسى مع قومه بشأن البقرة وحوار خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها مع النبي r.
9- التوبيخ وإقامة الحجة على المحاور لطرده من رحمة الله كما في حوارات المولى سبحانه مع إبليس.
10- التأديب والإرشاد إلى الصواب كما في محاورة نوح مع الله عز وجل بشأن ولده حين أدركه الغرق.
11- الدعوة إلى الله مع الإصلاح الاجتماعي بالدعوة إلى إقامة العدل في البيع والشراء كما في دعوة شعيب قومه، ودعوة لوط قومه لترك الفاحشة.
12- إقامة الحجة على المحاور بالبرهان العقلي كما في محاورة إبراهيم للملك ومناظرته قومه في شأن الشمس والقمر.
13- التبشير بالفرج والخير من عند الله كما في حوار الملائكة مع سارة امرأة إبراهيم حين بشروها بإسحاق.
14- الشفقة على الخلق رغبة في تأخير عذابهم لعلهم يؤمنون كما في حوار إبراهيم بشأن قوم لوط، ولم يكن بغرض رفع العذاب عنهم كما قد يظن، بل لتأخيره لعلهم يسلمون.
15- إخفاء الحقيقة والكذب كما في حوارات إخوة يوسف مع أبيهم في مواضع من السورة.
16- التذكير بالله في أصعب اللحظات، كما في حوار يوسف مع امرأة العزيز حين راودته عن نفسه.
17- طلب التمكين من السلطة إذا رأى المرء من نفسه القدرة على ذلك كما في حوار يوسف مع الملك بعد خروجه من السجن وطلبه أن يكون على خزائن الأرض.
18- العفو والصفح كما في حوار يوسف مع إخوته بعد ظهور الحقيقة.
19- الدعوة إلى الاستمساك بعقيدة التوحيد كما في حوار يعقوب مع بنيه عند الموت.
20- الدعوة إلى الصبر في أحوال الظلم والاضطهاد كما في دعوة موسى قومه إلى الاستعانة بالله والصبر على ظلم فرعون وقومه حتى يجعل الله لهم مخرجاً.
21- الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله كما في حوار موسى مع قومه لدخول الأرض المقدسة.
22- طلب زيادة الإيمان بتظاهر الأدلة كما في حوار إبراهيم مع ربه حين سأله: كيف تحيي الموتى، وكما في طلب موسى رؤية الله عز وجل، وكما في قصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وكان رجلاً مسلماً كما يدل عليه سياق القصة، وكذا طلب الحواريين المائدة من عيسى عليه السلام.
23- التثبت من البشرى لكونها مفاجأة، وذلك كما طلب زكريا آية من ربه على بشرى الولد.
24- الدعوة إلى الله باستعمال الأدلة العقلية والنقلية معاً كما في حوار مؤمن آل فرعون وقومه.
25- طلب الجائزة كما في حوار السحرة مع فرعون قبل إسلامهم.
26- تفويض الأمر لله وحـده كما في حوار السحرة مع فرعون بعد إسلامهم.
27- إظهار الكبر والغرور بمتاع الدنيا كما في حوار قارون مع قومه.
28- الإدلال بعلم جـديد لا يعرفه المحاور كما في حـوار الهدهد مع سليمان.
29- المشاورة، كما في حوار بلقيس مع قومها حين ورد إليها كتاب سليمان.
30- دفع الاتهام والتبرئة كما في حوار مريم مع بني إسرائيل حين رجعت إليهم برضيعها.
31- مؤازرة النبي r بالقصص القرآني الواقعي المبني على الحوار كوسيلة دعوية فاعلة وأداة لغوية تبعث على تنشيط الفكر وإظهار مكامن النفوس.
32- إدارة بعض أطراف الحوار المباشر وغير المباشر مع الكفار وأهل الكتاب والمنافقين والأعراب...
33- الإنعام وإظهار الفضـل والسرور والحبور كما في حـوارات أهل الجنة.
34- اللوم والتأنيب مع العذاب الحسي والنفسي كما في حوارات أهل النار.
وهذا اللون هو الغالب على حوارات الآخرة مما يخص أصحاب النار، سواء كان ذلك في ساحة الحساب كما في حوار المولى مع عيسى بشأن اتخاذ بعض الناس إياه وأمه إلهين من دون الله، أو كان الحوار يدور في النار، وهي حوارات كثيرة متنوعة، منها ما يكون بين المولى سبحانه وأهل النار، ومنها ما يكون بين الملائكة وأهل النار، ومنها ما يكون بين أهل النار المستضعفين منهم في الدنيا والمستكبرين، وهو حوار يصل حد التخاصم ] إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ (ص:64) ومنها ما يكون بين المؤمنين والكافرين بعد استقرار كل من الفريقين في موضعه كما في سورة الأعراف.
وقد ذكرت من قبل أن مرادنا هنا ليس الحصر، وإنما التمثيل على ذلك بما يسعنا ذكره، ليعلم الناس سعة العلوم والأغراض التي أودعها الله عز وجل في كتابه المبين الذي ما فرط فيه من شيء.
3- طبيعة الحوار في بنية النص القرآنيّ:
يأتي الحوار في سور القرآن في ثلاث صور:
1- حوار في بنية القصة القرآنية.
2- حوار في بنية المثل القرآني، كمثل صاحب الجنتين وصاحبه المؤمن في سورة الكهف.
3- حوار في بنية السورة في غير القصة أو المثل، كحكاية أقوال للكفار وأهل الكتاب والمنافقين والرد عليها.
والحوار في القرآن لـه طبيعة القرآن نفسه، إذ هو بعض القرآن، ولذا سنجد الإيجاز أحيانا والإطناب أحياناً أخرى حسب حاجة السياق والسورة والجزء المعروض من الحدث أو القصة في السورة، ولذلك نرى أن بحث قصة ما كاملة لنبي من الأنبياء لابد لها من متابعة كل المواضع التي وردت فيها القصة في القرآن الكريم.
والحوار من حيث " الحجم " أكثر وروداً في القصص القرآني من السرد والمتأمل في قصة يوسف التي جاءت كاملة في سورة واحدة يجدها مجموعة من الحوارات المتتابعة (أحصينا فيها سبعة عشر حواراً) تتخللها مواضع سردية لربط الأحداث.
وحين نتابع الحوار القرآنيّ سنجد الأفكار أمامنا حية ظاهرة تتلاقى أو تختلف إن الحوار يظهر القوة والصراع والمقاومة من جانب كل طرف ليكسب المعركة إذا كان الحوار بين أطراف متعارضة متناحرة، ويظهر الأدب والخشوع والميل إلى الحق إذا كان بين أطراف متفقة على المبادئ التي يقوم حولها الحوار، فلكل حوار إذاً سياقه الخاص، يقول الأستاذ عبد الكريم الخطيب:" والحوار هو وحده من بين أساليب القول الذي يعتمد عليه فن القصص في خلق الحركة وتلوينها وتنويعها، فبالحوار تتبادل الشخصيات مواقعها، وتزايل أماكـنها، وتبدل أحوالها وأشكالها " ([7]).
والحوار في القرآن يقص ما حدث، إنه يعتمد على الحكاية، ولكن القرآن بدقته وبيانه المعجز يجعلنا نعيش الحدث لحظة بلحظة كأنما يحدث أمام أعيننا لأول مرة، إنه يحرك الأشخاص بالحوار الدال على المواقف، سواء كان الموقف صراعاً أم تعلماً حسب الهدف من الحوار، وهو يترك أثناء الحوار مجالات لعقل المتلقي ووجدانه للمشاركة في تصور الأحداث، إنه يترك بعض " الفجوات " السياقية اعتماداً على ذوق المتلقي وذكائه وحساسيته للأحداث ومن ذلك في قصة يوسف أن القرآن بعد أن ذكر قصة شراء المصريّ لـه ووصيته لامرأته بإكرام مثواه... يترك القرآن هذه الفترة من حياة يوسف ليتصورها الإنسان تصوراً، وفجأة نجد يوسف شاباً فتياً تراوده امرأة العزيز عن نفسه فيكون حوار الصراع والاتهام والسجن.
ونحن في الحوار القرآني لا نجد أشخاصاً يمثلون أدواراً أعدت لها الحوارات مسبقاً كما في الحوار الأدبي في القصة والمسرح والسينما، إننا في القرآن نلتقي مع الأشخاص صانعي الحدث، نتلقى الكلمات من أفواههم مباشرة، نسمع أصواتهم ونحس حركاتهم حية نابضة محملة بالآراء والمشاعر، إننا نسمع صوت يوسف وهو يقول لامرأة العزيز ] مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [ (يوسف: 23) ثم نسمع صوتها باكية شاكية إلى العزيز، ونسمع ردّ يوسف وشهادة الشاهد من أهلها وبراءة يوسف الأولى، ثم حوار النسوة الذي انتهى بيوسف إلى السجن، إن القرآن يجعلنا نعيش مع الحدث كأنه يقع أمام أعيننا لحظة بلحظة، هذا مع ما نحس نحن من جلال وخشوع لتلاوة القرآن وتلقيه مما يجعل التأثير - إذا صلحت أجهزة الاستقبال عند الإنسان - أعـظم وأشد نفعاً، إن "حبكة الحوار واختيار الكلمات المناسبة لكل حال يتلبس بها المتحاورون هو الذي يبعث الحياة والحركة في القصة، وهو الذي يجعل للكلمات دلالة ذاتية تستغني عن التشخيص والتمثيل، وعن تهيئة الجو المناسب للحركة المسرحية التي تنقل الأحداث وتجسّمها " ([8]).
والحوار في القرآن كذلك متنوع، ذلك أن القرآن كتاب الله المقروء الذي يفسر ويحكم كتابه المنظور، أعني الكون بكل مفرداته، ولذا ما فرّط الله تعالى في كتابه من شيء من أصول العلوم والمسائل والحاجات الإنسانية على كثرة ذلك كله وتنوعه، وقد ذكرنا أن الحوار في القرآن لـه طبيعة القرآن نفسه لغوياً، ونضيف أن لـه طبيعة القرآن نفسه موضوعياً من حيث التنوع والشمول، فنجد حوار الملائكة مع المولى سبحانه في ابتداء خلق آدم، ذلك الحوار البديع الذي يعلمنا الله تعالى فيه أنه هو القادر القوي الخالق الذي لا رادّ لقضائه.. ومع هذا يحاور بعضاً من عباده في أمر قرّره هو وحده، ليعلمنا ضمناً أن الحوار هو أفضل وسيلة عملية ممكنة للدعوة إليه هدايةً وتعليماً وإرشاداً.
وفي القرآن حوارات المولى سبحانه مع إبليس، وهي حوارات عجيبة يقف فيها مخلوق ضعيف موقف العاصي الرافض صراحة لأمر الله، وفي عرفنا نحن البشر - بما لنا من نقص وخطأ - قد لا نرى إلا الهلاك المباشر لإبليس ساعة المعصية، ولكنّا هنا مع المولى الخالق سبحانه، الحليم الصبور، إنه يحاور إبليس الذي يراجعه الكلام ويطلب النظرة إلى يوم الدين، بل يقسم لله تعالى أنه سيغوي هذا المخلوق الذي كرمه الله عليه وذريته.. سيُغويهم حتى آخر لحظة في الحياة الدنيا، مع هذا كـله يحاوره المولى سبحانه وينظره إلى يوم الدين.
وفي القرآن حوارات الرسل مع أقوامهم، وحوارات الرسل مع أتباعهم وأولادهم، وحوارات المولى مع الجمادات كالسماوات والأرض، وحوار سليمان مع الهدهد، وحوار الأخ الظالم مع أخيه المظلوم الذي ينتهي بقتل المظلوم في حوار ابني آدم، وحوارات مواقف الحشر والحساب، وحوارات أهل النار فيها، وحوارات أهل الجنة فيها، وحوارات تدور بين الطرفين كل من مكانه كما في سورة الأعراف... هكذا يتنوع الحوار بتنوع موضوعات القرآن نفسه.
4- الفرق بين حوارات القرآن وحوارات السنة النبوية:
لاشك أن ثمة فروقاً ظاهرة بين حوارات القرآن الكريم وحوارات السنة النبوية، فالقرآن يبدأ حواراته مع قصة خلق الإنسان نفسه كما في حوار الله تعالى مع الملائكة الكرام بشأن خلق آدم وإسكانه الأرض، ثم حواره سبحانه مع إبليس في مسألة السجود لآدم وتوابعها، وحوارات الرسل المتعددة مع أقوامهم على مر التاريخ، وهي حوارات تتناول مسألة العقيدة كأساس تنبني عليه كل مسائل الدين، ثم يتابع القرآن حواراته مع أهل مكة وحواراته العديدة مع أهل الكتاب في المدينة النبوية، ثم يتجاوز القرآن الحياة الدنيا إلى حوارات الآخرة وما أكثرها في القرآن الكريم كحوارات البعث والنشور والحساب والميزان وحوارات أهل الجنة وهي أقل من حوارات أهل النار التي تكثر فيه وتتنوع، كأنما توحي بترك أهل الجنة يعيشون بسلام في النعيم المقيم وتستمر حوارات العذاب في جهنم كصنف من أصناف العقوبات الكثيرة لأهل النار.
أما الحوار في السنة النبوية فهو ينصب بالأساس على الدعوة إلى الله عز وجل هاهنا في الحياة الدنيا ليسلم الناس لرب العالمين، ثم حوارات التعليم وتنظيم المجتمع المسلم، فالحوار في السنة يميل إلى التطبيق العملي على فترة الحياة الدنيا لأنها دار العمل للآخرة، أما حوار القرآن فهو شامل كما ذكرنا منذ بدء الخلق حتى الانتهاء إلى الجنة أو النار.. ولا يعني هذا خلو السنة من حوارات الآخرة، بل فيها كذلك حوارات عن الموت والقبر والبعث والحساب.. ولكنها ليست بكثرة حوارات القرآن عن الآخرة وتنوعها، وليس فيها التفصيل الدقيق الذي نجده في القرآن عن الآخرة ووصف الجنة والنار... وكأنما ركزت السنة على هذه الحياة الدنيا التي هي مجال العمل والكسب.
وحوارات السنة تستهدي بحوارات القرآن الكريم في مسائلها وآدابها وأهدافها كما قال تعالى ] وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [ (سـبأ:50).
5- القرآن وحوار الدعوة في مكة:
إن القرآن الكريم هو دستور المسلمين الأعظم في كل شئون دنياهم ودينهم وأخراهم، والسنة مفسرة له وشارحة، وفيها التطبيق العملي لآدابه وأخلاقه وتشريعاته... ومن ثم نجد القرآن الكريم يوجه دفة الحوار بين النبي r وبين خصومه سواء في مرحلة الدعوة في مكة، أو في مرحلة بناء الدولة في المدينة، وما واجهه النبي من كيد المشركين والمنافقين وأهل الكتاب.
وحين نتأمل حوارات الدعوة إلى الله في مكة نجد القرآن مشاركاً فيها، فالله عز وجل يعلم ويسمع ما يقول الكفار عن النبي r والإسلام وما يثيرونه من شبهات وتساؤلات واعتراضات... ومن ثم تتنـزل الآيات بالأسئلة التي يثيرونها والجواب عليها، فتقيم مبدأ الحوار معهم بصورة مباشرة.
وثمة طريق غير مباشر لإقامة الحوار كذلك في القرآن مع المعترضين والمكذبين والمعاندين، وذلك من خلال سرد قصص الأقوام السابقة مع رسلهم، فالشبهات والمشكلات واحدة أو متقاربة، ومن ثم تكون حوارات الرسل مع أقوامهم بمثابة الحوار كذلك مع المدعوين في عصر النبي r وبعده إلى يوم القيامة، فالمسألة واحدة وهي الإيمان بالله عز وجل وما يتفرع عن ذلك من مسائل كثيرة، فحوار نوح مع قومه يدور حول الإيمان بالله والعقيدة الصحيحة، وهي المسألة ذاتها التي شغلت الفترة المكية من الرسالة الإسلامية، ولا يزال العالم اليوم في حاجة إلى إقامة الحوار نفسه مع غير المسلمين في العالم المعاصر لدعوة الناس إلى الله تعالى.
ونستطيع أن نحصي مئات المواضع في القرآن المكي كان الحوار فيها صريحاً بين النبي r والمشركين، فكانت المسائل والشبهات تثار ابتداءً من المشركين ثم ينزل القرآن يسرد تلك الشبهات ويرد عليها بالحجة البينة كما يقول تعالى ] وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [(الفرقان:33) وفي سورة الأنعام المكية وحدها حوالي ستة عشر موضعاً من هذا اللون الحواري، وهو بيّن كذلك في سور: يونس والنحل والإسراء والكهف والفرقان والزخرف والحواميم السبع... وفي ظني أن هذا البحث يحتاج إلى دراسة خاصة مفصلة لتتبع هذه الحوارات القرآنية المكية ومقابلتها بأحداث السيرة النبوية، ومتابعة ذلك في القرآن المدني وتغير الحوار إلى محاجة أهل الكتاب، ولا أدل على ذلك من المسائل التي أثارتها سورة البقرة مع اليهود، وهي أول سورة نزلت بالمدينة.
ومن مسائل الحوار في القرآن المكيّ:
1- الجدال حول التوحيد والألوهية.
2- الجدال حول النبوة.
3- الشبهات حول إنزال القرآن.
4- طلب المعجزات المادية.
5- الجدال حول التحليل والتحريم.
6- الجدال حول أخبار الغيب.
ولكل من هذه المسائل آيات كثيرة تتناولها بأساليب لغوية عديدة، وقد شارك القرآن فيها بتوجيه الحوار بالحسنى وإظهار الحقائق ودحض الشبهات، باللين أحياناً وبالشدة والوعيد أحياناً، ليجمع بين الوعد والوعيد وبين التشويق والتخويف كما هي عادة القرآن في دعوته ومواعظه، وسنذكر طرفاً من ذلك في مبحث قادم.
6- القرآن والحوار في المدينة النبوية:
وقد استمر السجال والحوار والجدال بين المسلمين والمشركين بعد الهجرة، وأضيف إلى ذلك عبء المواجهة المباشرة مع ثلاثة أصناف أخرى من معارضي الدعوة والدولة الناشئة، وهم أهل الكتاب من يهود ونصارى والمنافقون والأعراب المحيطون بالمدينة يتربصون بالمسلمين الدوائر، وقد أقام القرآن الحوار مع هؤلاء جميعاً إضافة إلى استمرار الحوار مع المشركين، وهكذا يمكن تصنيف حوارات القرآن في المدينة على النحو الآتي:
1- استمرار الحوار مع المسلمين أنفسهم للوعظ والتعليم والتنظيم...
2- استمرار الحوار مع المشركين.
3- الحوار مع اليهود والنصارى.
4- الحوار مع المنافقين.
5- الحوار مع الأعراب.
وهذه الفئات نفسها هي التي دار معها الحوار في السنة النبوية كذلك، وسنذكر ذلك في مواضعه.
ومع استمرار أعباء الحوار والجدال أضيف إلى ذلك أعباء الحرب التي لجأ إليها المسلمون أو اضطروا إليها للدفاع عن أنفسهم وتبليغ كلمة الله تعالى إلى الناس، فالحرب هي البديل حين لا ينفع الحوار، الحرب بشروطها وضوابطها المعلومة في الإسلام بطبيعة الحال.
والقرآن والسنة هما دستورنا نحن المسلمين، ومنهما نتعلم أن الأمة المسلمة إلى جانب تمسكها بالحوار ودعوتها إليه بوصفه الوسيلة المثلى للدعوة وحل المشكلات وتجنب الصراعات.. إلى جانب ذلك لابد أن تعدَّ العدة والقوة لحماية الحوار والانتقال إلى المراحل التالية لفشله، فلا ينبغي أن نركن إلى الحوار كحل وحيد لمشكلاتنا أو نستجديه ممن لا يعطيه أو لا يرغب فيه، أو يرغب فيه ولكنه لا يعطي فيه ثمرة تنفع، أو يُكره عليه فيجعله مطية يمرر عليها طموحاته وأطماعه كما يفعل اليهود في حوارهم الحاضر مع العرب بشأن فلسطين، فالحوار عندهم غطاء وتجميل للوجه القبيح أمام العالم بزعم إرادتهم السلام، وهم في واقع الحال يفضلون القوة ويلجأون إليها، بل في أثناء جولات التفاوض والحوار يعمل السلاح عمله في القتل والتدمير على مدار اليوم والأسبوع والسنة ! فهل ينفع الحوار مع عدو بهذه الصفة؟ لابد من القوة الحامية للحوار، والبديلة عنه إذا لم يجدِ نفعاً، قال الله تعالى ] وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ [ (الأنفال:60).
[1] - طرف من حديث رواه مسلم (1739) وأبو داود (1342) .
[2] - الندوة العالمية للشباب الإسلامي: في أصول الحوار:14.
[3] - محمد بن جرير الطبري: تاريخ الطبري: 3/520، ط6 دار المعارف، القاهرة د.ت.
[4] - الزمخشري: الكشاف: 3/409-410.
[5]- د/ عبد الحليم حفني: أسلوب المحاورة في القرآن الكريم: 29، ط3، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1995 م.
[6] - طرف من حديث طويل رواه البخاري (122).
[7]- عبد الكريم الخطيب: القصص القرآني في منطوقه ومفهومه: 119، دار الفكر العربي، القاهرة 1974م.
[8] - عبد الكريم الخطيب: القصص القرآني: 141.