البحث
الحـوار النبويّ في مكة
في السنة النبوية نجد الحوار الأسلوب الأمثل للدعوة إلى الله تعالى والتعليم والتنظيم، إذ " بفضل الحوار كان رسول الرحمة يوقظ النفوس اللوامة ويكسب أصحابها شحنات من الإيمان والعزم والتصميم يستطيعون بفضلها مقاومة القوى الشيطانية وتهذيب الشهوات البشرية وبسط سلطان العقل والإيمان على أقوال المؤمنين وأعمالهم، وبفضله كان يقيم الحجة والبرهان على المشركين وأهل الكتاب وغيرهم " ([1]).
ولم تكن لدى النبي إجراءات معقدة لبدء الحوار أو ممارسته ولا شروط مسبقة، كان حواره مع عمقه وتناوله أدقَّ القضايا وأخطرها.. كان يسيراً رفيقاً يسرَ الإسلام نفسه ورفقَه بالناس، إنه قد جاء لإنقاذهم من النار وإدخالهم في رحمة الله، وأساس دعوته أنها مبنية على الرحمة ] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [ (الأنبياء: 107) ولا يمكن لرسالة بنيت على الرحمة إلا أن تسلك في دعوتها كذلك مسلك الرحمة بالخلق على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم، والحوار أحد مسالك الرحمة بالإنسان، فهو يفتح أمامه الباب للمعرفة والتعلم والتدبر ليكون على بينة من أمره، وهكذا سلك النبي r في دعوته مسلك الحوار كوسيلة ناجحة لدعوة الناس وتعليمهم، ولم يفرق في ذلك بين كبير وصغير، أو حر وعبد، أو رجل وامرأة، أو ملك ورعية... لقد حاور الملوك والأمراء كما حاور العبيد، وحاور المسلمين والمشركين واليهود والنصارى، وحاور الرجال والنساء... بل إن لفظ " التحاور" ورد في القرآن في حوار النبي مع امرأة مسلمة في أول سورة المجادلة.
وقد حاور النبي كلَّ من عرفهم وقابلهم من الناس، ولم يُعرف عنه أنه امتنع عن مقابلة أحد أو محاورته حتى ولو كان أشد الناس عداوةً لـه كاليهود، أو كان قد أهدر دمه كعكرمة بن أبي جهل أو كعب بن زهير، لقد رجعا تائبين فقبل منهما وعفا وأصلح، إن " المستقصي للحديث النبوي الشريف يجد أنه جعل الحوار ركيزة قوية من ركائز الدعوة إلى الله والإعلام بدينه للإقناع العقلي والاطمئنان القلبي لتثبيت العقيدة والخلق وما يفيد الناس في دنياهم وآخرتهم " ([2]).
إن طبيعة الدعوة إلى الله تعالى تقتضي الخروج إلى الناس ومحاورتهم أو مجادلتهم - والجدال درجة أشدّ من الحوار - بالحسنى ؛ ذلك لأن الداعي لا يتوقع أن يذعن أكثر الناس إلى وعظه لمجرد كونه داعياً حتى لو كان نبياً مرسلاً لقد عرفنا من قصص الأنبياء مع أقوامهم صوراً شتى من الحوار والجدال، وانتهى أكثرها بالتكذيب الصريح كما قال الله عز وجل ] ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [ (المؤمنون:44) لكن ذلك التكذيب لم يمنع الرسل الكرام من محاورة أقوامهم وجدالهم بالحسنى حتى اللحظة الأخيرة قبل الإهلاك أو المفارقة، الإهلاك كما حدث مع قوم نوح وهود وصالح، أو المفارقة كما حدث مع إبراهيم حين فارق قومه وأباه إلى الأرض التي بارك الله فيها، ومع محمد r حين خرج إلى المدينة مهاجراً إلى ربه.
إن الدعوة إذا لم تظهر للناس ومعـها حججها أو معجزاتها ونظامها الكامل للحياة فلن تنجح، هكذا تدّرج الأنبياء بالدعوة، ولكن المرجّح أن تكون للدعوة أطوار تمرّ بها، كالفترة السرية التي مرّت بها دعوة النبي في مكة، وهذا يمثل طور الكمون أي طور البداية والتأسيس، وذلك كما يروي الطبري:" فجعل رسول الله r يذكر ما أنعم الله عليه وعلى العباد به من النبوة سرّاً إلى من يطمئن إليه من أهله ".
يتلو ذلك الجهر بالدعوة ] فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [ (الحجر:94) وهنا يبدأ الصراع ويكون معه الحوار والجدال والمحاجّة والامتراء أو المواجهة.. قال الطبري:" ثم إن الله عز وجل أمر نبيه محمداً r بعد مبعثه بثلاث سنين أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادي الناس بأمره، ويدعو إليه، فقال لـه (فَاصْدَعْ.. الآية) وكان قبل ذلك - في السنين الثلاث من مبعثه إلى أن أُمر بإظهار الدعاء إلى الله - مستتراً مخفياً أمره r وأنزل عليه ] وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [ (الشعراء: 214-216) ([3]).
وقد سجلت كتب السيرة والسنة كثيراً من حوار دعوته r للناس وتعليمه ووعظه وتنظيمه للمجتمع المسلم... كل ذلك بالقول اللين الحسن والرغبة الصادقة في نفع الناس في دينهم ودنياهم، فالحوار عنده r منهج تربويّ دعويّ للدعوة والهداية والبناء الصالح للعالم كله، دنيا وأخراه.
ولا أدل على ذلك من كثرة الأحاديث الحوارية في سيرة النبي r وسنته الشريفة، وحين ننظر في المائة حديث الأولى من صحيح البخاري نجد فيها حوالي (35) خمسة وثلاثين حواراً متنوعاً، منها ما كان بين النبي r وبعض صحابته عن أمور الإسلام وشرائعه، ومنها ما كان بين بعض الصحابة وبعض ومنها ما كان بين هرقل وأبي سفيان حول رسالة النبي r وصفته وإقرار هرقل بأنه هو نبي آخر الزمان وستبلغ دعوته موضع قدمي هرقل... ومنها حوار موسى مع قومه ثم قصة الخضر... وحوار جبريل مع النبي r حين جاء يعلم المسلمين أمور دينهم...
وهذا العدد الكبير من الحوارات في هذه المائة من الأحاديث يُظهر بجلاء أن الحوار كان الوسيلة الأولى المفضلة لدى النبي r وصحابته في الدعوة إلى الله تعالى والتعليم، فالحوار في السنة هو المنهج الذي اتبعته الدعوة إلى الله تعالى بالحسنى بكل تفصيلاتها ومراحلها.
وعلاقات المسلمين بغيرهم في مكة قامت كلها على الحوار، ولم تشرع الحرب قط في المرحلة المكية كما هو معلوم، وقد رفض النبي r لصحابته الإذن بالقتال آنذاك، بل أمرهم بالصبر والمحاورة والإقناع بالحسنى، وفي بيعة العقبة الثانية التي هاجر النبي r على إثرها حاول بعض الأنصار المبايعين مبادأة أهل مكة بالحرب فرفض النبي r ذلك كما قال ابن هشام:" ثم قال رسول الله : ارفضّوا إلى رحالكم، قال: فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق: إن شئتَ لنميلنَّ على أهل منى غداً بأسيافنا ! قال: فقال رسول الله r: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم، قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا " ([4]).
وقد آتى الحوار أكله الطيب، فأسلم مَنْ أسلم بهذه الطريقة اليسيرة المحببة إلى الناس، ولم يثبت قط أن أحداً من الناس أُجبر على ترك دينه والدخول في الإسلام، كيف والقرآن نفسه يبين ذلك بجلاء ] لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [ (البقرة:256).
فالرسالة الإسلامية إذاً كانت قائمة على الحوار ومهمتها البلاغ، بلاغ رسالة الله إلى الناس جميعاً ] مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ [ (المائدة:99) وهو بلاغ مقرون بالسلوك العملي وفق شرائع تلك الرسالة لإثبات القدوة الحسنة ودفع الشبهة عن إمكانية تحقق الرسالة في عالم الواقع، لئلا يحتجَ بعد ذلك أحد ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ (الأحزاب:21).
إن الحوار النبويّ يحمل في عباراته أصول العقيدة التي يدعو إليها ويدافع عنها إنه صورة واقعية حية للدعوة إلى الله تعالى وخوض غمار المكروه من أذى الناس وشرورهم التي يُجابَه بها الداعي إلى الله على بصيرة.
ولقد ضرب النبي محمد أحسن الأمثلة في حواره مع الناس في زمانه، إذْ آتاه الله جوامع الكلم، وجعله أفصح الناطقين بالضاد، وأعطاه القدرة على الحوار والجدال بالحسنى والإقناع - إن وجد أرضاً خصبةً - من أقصر طريق، لقد استعمل النبي r فن الحوار بالحسنى أحسن استعمال، وهدى الله تعالى على يديه في حياته المباركة آلافاً مؤلفة من البشر بكلمات قلائل، في عصر كان يعرف للكلمة قدرها وسحرها.
وحين ابتدأ رسول الله r دعوة قومه مصرّحاً بدعوته مجاهراً بها لم يقتصر على قريش، بل " كان يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب يدعوهم إلى الله وإلى نصرته، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به " ([5]).
ويذكر الطبري بعد ذلك خروجه r إلى قبائل كندة وكلْب وبني حنيفة وبني عامر بن صعصعة.. حتى قدّر الله تعالى لـه لقاء نفر من أهل المدينة عند العقبة، وبدأت حوارات الهجرة المباركة.
وضرب النبي أحسن المثل في فن التعامل بالحسنى مع الناس، حتى مع بعض المسلمين الذين كانوا في طور " تأليف القلوب " وصار باب " مداراة الناس أو " من يُتقى فحشُه " أو ما شابه ذلك، من الأبواب المعروفة في دواوين السنة النبوية ([6]).
وفي هذا الفصل نستعرض بعض حوارات الدعوة إلى الله تعالى في مكة، ولا شك أن بعضاً مما كان فيها من حوار الدعوة لم يسجل في كتب السيرة والسنة، لأن المرحلة المكية كما هو معلوم لم يكن فيها استقرار يساعد على التسجيل والتنظيم الكبير كما حدث في المدينة من توافر الصحابة واستقرار الأمر والسيادة على المدينة..
ومع ذلك سجلت كتب السيرة والسنة طرفاً من الحوار النبوي يضاف إلى رصيد الحوار القرآني في تلك الفترة كما أشرنا من قبل.
[1] - د/ محسن بن محمد بن عبد الناظر: حوار الرسول مع اليهود:5، ط1، دار الدعوة، الكويت 1409هـ - 1989م.
[2] - د/ تيسير محجوب الفتياني: الحوار في السنة: 11، منشورات مركز الكتاب الأكاديمي، عمان الأردن 1999م.
[3]- الطبري: تاريخ الطبري:2/306.
[4] - ابن هشام المعافري: السيرة النبوية: 1/305، تحقيق الدكتور: سهيل زكار، ط1 دار الفكر، بيروت 1412هـ - 1992 م.
[5]- الطبري: تاريخ الطبري:2/348، وابن هشام: السيرة النبوية: 2/19.
[6]- انظر في ذلك بالتفصيل كتاب: مداراة الناس لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، ط دار ابن حزم، بيروت د. ت.