1. المقالات
  2. أعمال القلوب
  3. الحسد وآفاته

الحسد وآفاته

الكاتب : محمد بن عبد الله الهبدان
تحت قسم : أعمال القلوب
2043 2016/05/04 2024/11/18

إنها قصة عجيبة وخبر يبعث على الدهشة! إنه خبر ذلك الرجل الذي لم يُعرف عنه كثير عمل صالح، حتى كاد أن يُحتقر لقلة عمله في الطاعات، فما كان يُعرف بقيام الليل، ولا صيام النهار، ولا كثرة تلاوة القرآن، ولا بنبوغ في العلم والفقه في الدين، ومع ذلك حاز على شهادة عالية، ومرتبة عظيمة، ولقد حاز تلك الدرجات العلى لأنه كان ممن إذا قال صدق!

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أتحب أن تنال ما نال من رفعة؟!. أتحب أن تنال المنزلة التي حصل عليها، وفاز بها؟!

إذن فلتستجمع ذهنك، ولتتأمل جيدًا في هذا الخبر

قال الراوي وهو أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: "كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ -أي تقطر وتسيل- قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى.

فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْت. قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا.

فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ؛ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ! فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ! فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!

فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ.

فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ (رواه أحمد).

نعم لا تطيقها النفوس البشرية! لا تطيق ماذا؟!

لا تطيق أن تكون قلوبها طاهرة من الحسد.

إن الإنسان جُبل على كره أن يرتفع عليه أحد، فإن رأى صديقه قد علا عليه تأثر، وود لو لم ينل صديقه ما ينال، أو يتمنى أن ينال منال ذاك الصديق لئلا يرتفع عليه.

ولا غضاضة في ذلك إن كان ذلك في صدره ولم يبده بقول ولا فعل، قال الحسن البصري: "ليس من ولد آدم أحد إلا وقد خلق معه الحسد، ولهذا يقال: ما خلا جسد من حسد، لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه".

إن ذلك الرجل استحق تلك الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأنه استطاع التغلب على هذا الطبع الذي فُطر الناس عليه، فإن رأى نعمة على أحد إخوانه ساده الرضا، وأحسّ بفضل الله على إخوانه، واستشعر فقر الخلائق إلى الله، وتمثل بالذكر المحمدي: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقي فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر» (صحيح ابن حبان؛ برقم: [861]).

ولكن الكثير من البشر، قد قتلوا أوقاتهم، وافنوا أعمارهم، بإظهار استنكارهم واستغرابهم من تلك النعم والفوارق التي خصّ الله تعالى بها بعض النّاس دون بعض، فقد تجد قائلهم يقول: لماذا ذلك الإنسان عظيم؟! ولم هذا الرجل غني؟! ولمَ ذاك جميل؟!

إن قولهم هذا إذا شرحناه على حقيقته سنجد أنّ هؤلاء يريدون لو أصبح أهل النعم محرومين، ويودون لو باتوا ضائعين مشردين، وإن لم ينطقوا ذلك بألسنتهم، لكن: لتعرفنه في لحن القول.

إنّ صدر الحسود يضيق، وقلبه يتفطّر ألمًا إذا رأى نعمة الله على أخيه، فيُعاني من البؤس واللأواء، مما لا يستطيع معه أن يبث ما يجده من الحزن والقلق، ولا يقدر على الشكوى إلا إلى الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء، أو من هو على شاكلته في الحسد.

فالحسود معذّب؛ لا ينقطع غمه، ولا يستريح قلبه، ولا تسكن ثائرته، ساخط على ربه وعلى الناس، معذب النفس، منغص البال، دائم الهم، فقاتل الله الحسود، لا يفعل الخير ولا يحبه لإخوانه، غاية أمنيته زوال نعمة الله عن عباده.

إن الحسود بعمله هذا يكون قد سلك طريق إبليس، فما أوقع الشيطان في معصية الله إلا حسده لأبينا آدم، وما حمل قابيل على قتل هابيل إلا حسده لأخيه، وما منع المشركين والمترفين من اتباع الرسل إلا الحسد والكبر، وما حمل اليهود والنصارى على كراهية الإسلام وصرف أهله عنه إلا ما ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة من الآية:109].

ويقول الله سبحانه تعالى في ذم الحاسدين واستنكار فعلهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النساء من الآية:54]. وقال صلى الله عليه وسلم «ولا يجتمعانِ في قلبِ عبدٍ الإيمانُ والحَسَدُ» (صحيح الجامع؛ برقم: [7620]).

وقال صلى الله عليه وسلّم وهو ينهى عن هذا الخُلق الذميم: «لا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا» (رواه البخاري ومسلم).

وقال ابن سيرين: "ما حسدت أحدًا على شيء من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسد على الدنيا وهي حقيرة في الجنة؟! وإن كان من أهل النار فكيف أحسد على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟!".

ورُوى عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال لابنه: "يا بني، إياك والحسد؛ فإنّه يتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك".

وقد قيل قديمًا:

يا طالب العيش في أمن وفي دعة *** رغدًا بلا قتر، صفوًا بلا كدر
خلّص فؤادك من غل ومن حسد *** فالغل في القلب مثل الغل في العنق

وقال الآخر:

لما عفوت ولم أحقد على أحدٍ *** أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيته *** أدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه *** كما أن قد حشى قلبي محبات
الناس داء ودواء الناس قربهم *** وفي اعتزالهم قطع المودات

إنّ الحسد إذا دب في أمة من الأمم فاستشرى فيها فعلى أهلها السلام، لأن أعظم أخطار الحسد أنه يورث العداوة والبغضاء بين الناس، ويولد الأحقاد والضغائن، ويحمل صاحبه على محاولة إزالة النعمة من أخيه بأي طريق، ولو اقتضى ذلك قتله! كما قصّ الله تعالى عن ابني آدم في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].

وأخيرًا نفذ الجريمة وباء بالإثم والخسارة في الدنيا والآخرة: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:30].

فإذا كان هذا بعض أضراره فكيف بغيرها؟!

فإذا تعاطي الناس الحسد: فكيف تفلح أمة أفرادها متنافرون، متعادون، متحاسدون، يتمنى بعضهم لبعض زوال النعم، وحصول النقم؟!

إن الطريق الوحيد للسلامة من هذا الداء، أن تعلم أن الله قد قسم الأرزاق بين خلقه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف من الآية:32]. فوسع الله على أقوام، وقدر رزقه على آخرين، فجعل الخلق يتفاوتون في ذلك: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف من الآية:32]. فهو سبحانه بصير بخلقه، محيط بشئون ملكه، وتلك سنته في الأولين والآخرين {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح من الآية:23]. {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [ الأحزاب من الآية:62].

فعلى اللبيب أن يتجنب الحسد، فإنه من خلق الأراذل، ومن صفة الجهلاء، فان أبصرت قائمًا بالحق، فعضّده ويسر له السبيل حسب استطاعتك، وإن رأيت نعمة أسبغها الله على عبد من عباده، فاسع إلى مثلها بقلب طاهر، ووجدان نقي، لعلك أن تبلغها بإذن الله.

فعزيز النفس، إن أبصر غيره في أمر يُثنى عليه به، أو رآه في منزلة يُغبط عليها، فلا يجول في همّه أن يحسده على نعمته، أو يحط من منزلته، بل يسعى كل السعي لينال مثل مناله، ويرتقي مثل رُقيّه، فإن زادت فيه عزة النفس والإباء فلا يرضى لنفسه إلا بما فوق ذلك المقام، يقول الله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32].

وعودًا على بدءٍ: أتحب أن تنال ما ناله الصحابي الجليل الذي روينا خبره في أول حديثنا هذا؟!.

إذا كانت إجابتك بالقبول، فاعمل بعمله، والذي أشار إليه بقوله رضي الله عنه: "لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ".

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day