البحث
الرحمة بالبشر في الخطاب القرآني للنبي
استقى الرسول صلى الله عليه وسلم أخلاقَه من القرآن الكريم، وتربى بهدي من آياته، وقد قال الله تعالى في وصف رسوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4][1] وجاء في تفسير الآية: إنك لعلى دين عظيم وهو الإسلام، أو لعلى أدب عظيم.
كما نعتت السيدة عائشة - رضي الله عنها - المصطفى بقولها: " كان خلقه القرآن " وفي رواية: أجابت السيدة عائشة عن سؤال سعد بن هشام عن خلق الرسول، فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت: فإن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن. ومعنى هذا: أنه- عليه الصلاة والسلام - كان ممتثلاً للقرآن الكريم أمرًا ونهيًا وسجية له، وخلقًا تطبّعه وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعَلَه، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم، وكل خلق جميل[2].
وفي رواية أخرى، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان خلقه القرآن يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه. وردت على سؤال آخر، قالت: كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن ثم قالت: أتقرأ سورة المؤمنين إلى العرش، قال: نعم، قالت: هكذا كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [3].
ولننظر إلى تفسير ابن كثير - فيما رواه عن التابعين - للفظتي: "خلق عظيم"، نجده يحصره في دلالتين: الدين، وحسن الخلق. وإذا كانت الدلالة الثانية واضحة، وتتناسب مع جوهر بحثنا عن حسن الخلق والرحمة بالبشر، وقد رجّحها ابن كثير فيما رواه بعدئذ في وصف الرسول، وفي الشواهد من كلام السيدة عائشة رضي الله عنها ومواقف الصحابة. إلا أننا نرى أن الدلالة الأولى "الدين" تندرج ضمن المضمون الكلي للآية، وهذا نابع من مترادفات لفظة "الدِّين" والتي منها دلالات: الطاعة والعبادة، والذل والانقياد، وأيضًا: اسم لما يتعبد الله عز وجل به [4]. وبما أن التحلي بحسن الخلق وسيلة يتعبد به المؤمن لله تعالى، فإن ما أوردته الآية من لفظ " خلق عظيم " هو علاقة جزئية بالكل وهو الدين، الذي يشمل الطاعة والعبادة والانقياد.
ويعمّق الزبيدي - صاحب معجم تاج العروس - معنى " الدين " بوصفه مفهومًا شاملاً وذلك بإيراد أقوال منها، قول ابن الكمال: " الدين وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عن الرسول "، وقال غيره: " وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات " [5]. وبالطبع يكون خلق الرسول في طليعة ما يتلقاه المؤمن عن الرسول، وأن الخلق الحسن جزء لا يتجزأ من جماع الخير الذي يتلقاه أصحاب العقول، ويسعون إليه. وبذلك يكون الجمع لدلالة " خلق عظيم " في آية سورة القلم يأتي بين دلالتين: دلالة الدين بمعنى العبادة والطاعة والانقياد وهي دلالة شاملة، ودلالة الخلق العظيم الجزئية للرسول - عليه الصلاة والسلام - بوصفه مصدرًا ثانيًا للتشريع والتلقي في الإسلام، فالدلالة عامة وخاصة.
إن هذه الآية: " تحمل الشهادة الكبرى والتكريم العظيم...، وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم، ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود، ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصور، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود " [6]، فهذه الكلمة الربانية تبرز عظمة الرسول - عليه الصلاة والسلام - في عدة نواح: " تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال، يسجلها ضمير الكون، وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله. وتبرز من جانب آخر، من جانب إطاقة محمد - صلى الله عليه وسلم - لتلقيها، وهو يعلم من ربه هذا، قائل هذه الكلمة. ما هو؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة التي يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين. إن إطاقة محمد - صلى الله عليه وسلم - لتلقي هذه الكلمة من هذا المصدر، وهو ثابت، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل - ولو أنها ثناء - ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب.. تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن.. هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل "[7].
يحلّق التعليق السابق للشهيد سيد قطب عن الآية الكريمة في أجواء مختلفة، إنها أجواء الوصف الرباني لخلق المصطفى، وقد توقف المعلق - رحمه الله - أمام بعدين: بعد القائل الواصف - جل شأنه وتعالى -، وبعد الموصوف - عليه الصلاة والسلام -، ما بين العظمة الربانية، وعظمة شخصية الرسول، ومن مظاهر هذه العظمة خلق المصطفى في تعاملاته وسلوكه. يسهب سيد قطب في معنى العظمة الأخلاقية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: " والناظر في هذه العقيدة كالناظر في سيرة رسولها، يجد العنصر الأخلاقي بارزًا فيها، تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء.. الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى: الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد ومطابقة القول للفعل، ومطابقتهما معًا للنية والضمير "[8].
جاءت الرحمة - في النص السابق - خلقًا ضمن أخلاق سامية أرستها العقيدة، وتحلى بها الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - ونلاحظ أن البعد الأخلاقي من الأصول التشريعية والتهذيبية للإسلام، ومن ثوابت العقيدة الإسلامية. والرحمة خلق أساسي وليس فرعيًا ضمن الأخلاق العظيمة التي نبعت من المنظومة الإسلامية، فهي تتجاور جنبًا إلى جنب مع أخلاق: الطهارة والأمانة والصدق والعدل وحفظ العهد... إلخ.
إن أخلاق الإسلام ليست روحية فقط، بل تجمعُ: القلبي والسلوكي، القولي والفعلي، وهذا ما جعل لها المصداقية العليا لدى جماعة المسلمين. وقد نظر بعض باحثي الأديان وبعض المستشرقين إلى الإسلام نظرة انشطارية: حيث وقفوا - برؤية جزئية قاصرة - متعجبين من البعد الاجتماعي والتنظيمي الذي وضعه الإسلام، وهم يقارنون بينه وبين النصرانية والديانات الوضعية الأخرى التي تعلي شأن الروحية والانعزالية، وهذا ما يأباه الإسلام لأنه يتعامل مع الإنسان كلاً متكاملاً، يجمع الروح والجسد، الفردية والجماعية [9].
وبدء هذه المصداقية من اتصاف الرسول الأعظم بها، وتكريم الله تعالى وثناؤه على خلق المصطفى - عليه الصلاة والسلام -، ثم ما رآه الصحابة وجموع المدعوين من اقتران القول والفعل في شخصية الرسول، بمواقف يشهد لها حديث العهد بالإسلام ومن سابق بالإيمان، بل ومن كفر ولازم الكفر عنادًا واستكبارًا.
وخلق الرحمة رآه المسلمون حيًا، فاعلاً في شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا تصدّقه الآية الكريمة: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21] [10]. فهذه الآية: " أصل كبير في التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأحواله...،أي هلاّ اقتديتم به وتأسيتم بشمائله"[11]
فالأسوة هي القدوة، والرسول كان الأنموذج الأنقى والأصفى لأصحابه، وهو في دعوته ليس منظّرًا فيلسوفًا بضاعته الكلام، بل مربيًا هاديًا داعيًا، قولا وفعلاً، وسلوكًا طيبًا في قدوته لأصحابه، والرحمة بالبشر خلق من أخلاقه العظيمة المُتأسَّى بها.
وروى البراء بن عازب، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وجهًا، وأحسن الناس خلقًا. وقال أيضًا: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "[12]
[1] سورة القلم، الآية (4).
[2] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، مصر، د. ت، ج4، ص 476، 477.
[3] شمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه، الإمام ابن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1386هـ، 1967م، ص58، 59
[4] القاموس المحيط، الفيروز أبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط5، 1416هـ، 1996م، 1546. وانظر: لسان العرب، مرجع سابق، ج1، مادة دين.
[5] تاج العروس من جواهر القاموس، السيد محمد مرتضى الزبيدي، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 1414هـ، 1994م، مج 18، ص218. ضمن تعليقه على معنى الدين.
[6] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، دون تاريخ، ج6، ص 3656.
[7] السابق، نفس الصفحة.
[8] السابق، ص3657.
[9] انظر: الإسلام والعالم المعاصر (بحث تاريخي مقارن)، أنور الجندي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1393هـ، 1973م، ص10، 11.
[10] سورة الاحزاب، الآية (21).
[11] تفسير ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص534.
[12] شمائل الرسول ودلائل نبوته، ابن كثير، ص59.