البحث
الوقفة الرابعة: الشباب والقوة والفتوة:
لا شك أن فترة الشباب هي فترة القوة، فترة النشاط، فترة الفتوة، لكن في أي شيءٍ نستثمر هذا؟ في أي شيء ـ أيها الشباب ـ؟ كم من شابٍ غره شبابه، وسرته عضلاته، فسار يظلم الناس، ويعتدي على الناس، لماذا؟ أتذكر يوم كنت صغيراً، كيف كان أمرك؟ فلماذا تفعل هذا الآن؟ يوم أن تعاظمت في نفسك، إن الظلم ظلمات، لا تغرك قوتك في أن تعتدي على أحد، فإن من فوقك الرب الواحد الأحد {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}البلد5، لا يغرك مالك، فتظلم أحداً، فإن من فوقك الرب الواحد الأحد {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ }البلد7، اتق الله، اتق الله خالقك، فإن كنت قوياً، ففوقك من هو أقوى، وإن كنت عظيماً ففوقك من هو أعظم، وإن كنت غنياً ففوقك من هو أغنى، إياك أن يغرك عزك وقوتك وجاهك ومالك، فتنسى لقاء ربك يوم القيامة.
أخي الشاب، هذه القوة اجعلها في طاعة الله، هذه الحيوية والنشاط اجعلها في الدعوة لله، أما سمعت عن ذاك الشيخ الكبير؛ ورقة بن نوفل وهو يقول لرسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بداية هذا الدين، يقول: " يا ليتني كنت فيها جذعاً ـ أي شاباً فتياً قوياً ـ يا ليتني كنت حياً حين يخرجك قومك، لئن أدركني هذا اليوم لأنصرنك نصراً مؤزراً"، فأين قوتكم؟ إن لم تستثمروها في طاعة الله، وأين فتوتكم؟ إن لم تجعلوها فيما يرضي الله.
فتية صبروا لما آذاهم قومهم، ولما لم يستطيعوا أن يتحملوا فروا إلى الله، فجعلهم الله لمن بعدهم آية، وقال الله عنهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }الكهف13، وفتى كان أقوى منهم، صدع بالحق ولم يفر، بل وقف على التوحيد وحده، وما كان على التوحيد في زمانه إلا هو، وقام وكسّر أصنامهم، وناظرهم في باطلهم، وقال الله على لسان قومه: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }الأنبياء60، وصفه الله بأنه فتى، فيه فتوة الشباب، وقوة الشباب، ففي أي شيء تستثمرون قوتكم؟ وفي أي شيء تنفقون طاقتكم؟
أنسيتم شباب أحد؟ يا ألله! ما أجمل قصص شباب أحد! أصروا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا يخرج بهم إلى الموت، إلا يخرج بهم إلى القتال، جاء منهم شاب إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال: يا رسول الله، تجلس بنا في المدينة، والله لتخرجن بنا إلى الجنة، والله لتخرجن بنا إلى الجنة، فخرج بهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلما طارت الرؤوس، وتكسرت الجماجم، وتناثرت الأشـلاء، وتبعثرت الدمـاء، أحاط عشرة من شباب الإسلام بمحمد عليه الصلاة والسلام، أحاطوا برسول الأمة صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحولهم سيوف المشركين، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يرجع بهم شيئاً فشيئاً يصعد إلى الجبل، حتى يكون له قوة في أن ينتصر على القوم الكفار، قال عليه الصلاة والسلام: (من يتقدم فيردهم عنّا، وهو رفيقي في الجنة) فقال شاب من الأنصار، منكم ـ يا أهل اليمن ـ قال شاب من الأنصار: أنا يا رسول الله، طار لها، يبحث عنها، رفيق من؟ وأين؟ أنا مع محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة، أنا يا رسول الله، أنا يا رسول الله، فطار إليهم فما يزال يقاتلهم، ضربوه بسيوفهم، ورموه برماحهم، وهو يرد عن رسول الله ومن معه، حتى يصعدوا إلى الجبل، حتى سقط شهيداً، مضرّجاً بدماء شهادته، كاتباً قصة بطولته، لتشهد عند الله أنه رفيق محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (من يتقدم، فيردهم عنا، وهو رفيقي في الجنة) فقال شاب آخر: أنا أنا يا رسول الله، فتقدم، حتى دافع وردهم ما استطاع، فقتلوه، ثم تقدم الثالث، والرابع، والخامس، والسادس، حتى قُتلوا الثمانية من شباب الأنصار، فوصل صلى الله عليه وعلى آله وسلم للجبل، هؤلاء هم شباب الأنصار،
أنسيتم حنظلة بن أبي عامر يوم أحد؟ أين حنظلة؟ رفعته الملائكة في السماء، أين حنظلة؟ رآه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تغسله الملائكة بماء المزن في صحائف الفضة، قال: (إن صاحبكم تغسله الملائكة؛ فاسألوا صاحبته؟) فقالت امرأته: خرج جنباً يا رسول الله، أول ما سمع الهيـعة، قام من فراشه، ترك لذته، نسي زوجته، وحمل نفسه إلى الجنة، وغسلته الملائكة في السماء قبل أن تصعد روحه إلى الجنة، هؤلاء هم الشباب، حدّثتنا أحدٌ عن مصعب بن عمير؛ ذاك الشاب الذي كان في دعة ورفاهية، وكثرة مال وجمال، ثم أسلم، فشويّ ظهره بحصير، حتى دخّن جسمه، وهاجر الهجرتين، وجاء بالأنصار إلى رسول الله، وحمل لواء أحد، حتى قُتل، فما وُجدت البردة التي تغطي رأسه ورجله، هؤلاء هم الشباب، وأي شباب قال الله عنهم: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }آل عمران169، تريدون حياة كهذه الحياة ـ يا شباب ـ فأين نحن من هؤلاء؟
شـبابٌ ذللوا سبـل المعـالي = وما عرفوا سوى الإسلام دينا
تعهـدهم فأنبـتـهم نبـاتاً = كريماً طاب في الدنيا غصونا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماةً = يدكون المـعاقل والحصـونا
وإن جن المسـاء فلا تراهم = من الإشـفاق إلا سـاجدينا
كذلك أخرج الإسـلام قومي = شباباً مخـلصاً حـراً أمـينا
وما عـرفوا الأغـاني مائعات = ولـكن العلا صيغت لحونا
فالله الله ـ يا شباب الإسلام ـ الله الله ـ يا شباب الإسلام ـ خالد رضي الله عنه يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (خـالد سيفٌ من سيوف الله، ونعم فتى العشـيرة) وأنت ماذا؟ عمـر فاروق الأمة رضي الله تعالى عنه، يقول عليه الصلاة والسلام: (دخلت الجنة، فإذا أنا بقصرٍ من ذهب، فقلت لمن هذا القصر؟ فقالوا: لشاب من قريش، فظننت أني أنا هو، فقلت: ومن هو؟ قالوا: عمر بن الخطاب) أولئك رجالٌ وشباب، سارعوا للجنة، بُشروا بالجنة وهم يسيرون في الأرض (إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار وسلمان) وأنت ـ يا عبد الله ـ أين أنت؟ أين شبابك؟ في أي شيء قضيته؟
آهٍ على زمان الشـباب خسرته = ما زلت أذكره ولسـت بناسي
آهٍ على زمان الشباب أضعـته = في منتدى الأصحاب والجلّاسي
لم أبنِ فيه سوى الندامة والشقا = وسبحت في بحر من الوسواسي
لم أبنِ فيه سوى التهور والأذى = وكأن شيـطاناً يجول برأسـي
ربـاه إني في الحـقوق مقـصر = والقلب من عظم الذنوب لقاسي
في حديث واثلة بن الأسقع قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يُجنّد الناس أجناداً، جند باليمن، وجند بالشام، وجند بالمشرق، وجند بالمغرب) يصبح الحال في آخر الزمان أن المسلمين جنود؛ جند باليمن، وجند بالشام، وجند بالمشرق، وجند بالمغرب، فقال رجل: يا رسول الله، خرّ لي إني فتى شاب؛ فلعلي أدرك ذلك فماذا تأمرني؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (عليك بالشام) رواه الطبراني.
أخي الشاب، أعرف ـ وإن قصرت في طاعة الله ـ لكني أعرف قوتك، واعرف فتوتك، وأعرف أبداً أنك لا ترضى أن يُهان الإسلام، ولا أن يُسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يُداس المصحف، ولا أن تًنتهك أعراض المسلمات؛ لأنك مهما عصيت الله وبعدت عنه، فإن دماء الإسلام تغلي في قلبك، فأقبل، أقبل، واستقبل بطـولة هذا الزمان، فقد أُهين المصحف، وسُب رسول الله، واغتصبت المسلمات، فأين إيمانك؟ ومتى عـودتك؟ والسـبب أنت وخطيئتك، هزمتنا بمعاصيك، هزمتنا يوم نمت عن صلاة الفجر، هزمتنا يوم قلت: لا أستطيع أن أترك الحـرام، لا أستـطيع أن أدع الحرام، كلما حدّثناك بالتوبة، كلما ذكّرناك بالأوبة، أخزاك الشيطان، وانهزمت معه، فاتق اللهِ، والله إننا لنعرف أن فيك قوة، ومهما كان فيك من تقصير أو ضعف، فلابد، لابد ـ إن شاء الله ـ من أوبة صادقة، ورجعة أكيدة، تنصر بها دين الله سبحانه وتعالى.
هذا شابٌ في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، روى قصته ابن خزيمة والبيهقي بسند صححه الشيخ الألباني، كان معاذ رضي الله تعالى عنه يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم العشاء، ثم يرجع بعد ذلك ويؤم قومه، فصلى ذات مرة، فأطال عليهم، وكان رجل من قومه من بني أسلم؛ يُقال له: سليم، فلما أطال، انصرف من الصف وأكمل صلاته، وأخذ راحلته وانطلق، فلما سلم معاذ أُخبر به، فقال: إن به نفاقاً، وهل هذا نفاق؟ اسمع القصة إلى آخرها، قال معاذ: إن به لنفاقاً؛ لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال الشاب: وأنا لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذكر له معاذ ذلك، فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما لك؟) قال: يا رسول الله، يطيل الجلوس عندك، ثم يأتينا ويطيل بنا الصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أفتّان أنت يا معاذ؟) وقال للفتى: (كيف تصنع أنت يا ابن أخي إذا صليت؟) فقال: يا رسول الله، اقرأ بفاتحة الكتاب، وأسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار، وإني لا أعرف دندنتك ودندنة معاذ، انظر للعمل، لكن انتظر النهاية، فقال عليه الصلاة والسلام: (إني ومعاذ حول هاتين ندندن) فقال هذا الشاب: لكن سيعلم معاذ إذا قدم القوم، وكانوا أُخبروا بأن العدو قد قُرب، فجاء القوم، واستشهد في سبيل الله، نعم، هذا الذي كان يصلي بفاتحة الكتاب، جاء القوم وصدق اللهَ، وقدم نفسه نصرةً لدينه.