البحث
(بصائر) الاسراء والمعرج
إذا تأملنا في هذه الهجرة التي قام بها النبي (صلى الله عليه وسلم) الى الطائف، وما انطوت عليه من العذاب الواصب الذي أصابه (صلى الله عليه وسلم) من اهل الطائف وسفائها، ثم في شكل عودته الى مكة- فإننا نستخلص الأمور التالية:
1- ان ما كان يلاقيه النبي (صلى الله عليه وسلم) من مختلف الوان المحنة، لا سيما هذا الذي رآه في ذهابه الى الطائف؛ أنما كان من جملة اعماله البليغة للناس، فكما انه جاء يبلغنا العقيدة الصحيحة عن الكون وخالقه، واحكام العبادات والأخلاق والمعاملات، كذلك جاء ليعلم المسلمين ما كلفهم الله به من واجب السعي والحركة والبذل والتضحية من أجل الدين ثم الصبر، ويبين لهم كيفية تطبيق الصبر و المصابرة اللذين أمر الله تعالى بهما
في قوله: (يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)
(آل عمران: 200)
وليبين ان الصبر ومصارعة الشدائد في سيبل الله من أجل نصرة الحق والدعوة الى الله من اهم مبادئ الإسلام التي بعث بها الى الناس كافة
2- استقبل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تلك المحنة راضيا، وتجرع تلك المحن صابرا محتسبا؛ والا فقد كان بوسعه- لو شاء- ان ينتقم من السفهاء الذين آذوه، ومن الزعماء الذين أغروا به سفهاء هم، وردوه ذلك الرد المنكر؛ ولكنه (صلى الله عليه وسلم) لم يشأ ذلك، ودليل ذلك انه لما أتاه ملك الجبال يستأذنه في ان يطبق عليهم الاخشبين لم يفعل، بل كان صبره جميلا، فهو يرجو الله ان يخرج من أصلابهم من يوجد الله، وهذا من عمق يقينه (صلى الله عليه وسلم) ان النصر مع الصبر.
3- الشكوى الى الله تعالى تعبد، والضراعة له والتذلل على بابه تقرب وطاعة، وللمحن والمصائب حكم، من أهمها انها تسوق صاحبها الى باب الله وتلبسه ذل العبودية له، فليس إذا بين الصبر على المكاره والشكوى الى الله تعالى أي تعارض؛ بل الواقع ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يعلمنا في حياته كلا الامرين: فكان بصبره الجميل على المحن يعلمنا ان هذه هي وظيفة المسلمين عامة والدعاة الى الله خاصة، وكان بطول ضراعته والتجائه الى الله تعالى يعلمنا وظيفة العبودية ومقتضياتها.
4- تلمح في دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) عمق توحيده ومبلغ تجرده لله (عز وجل) فهو يستعذب كل هذا الأذى من اجل الله تعالى، غير انه مشفق من غضب ربه سبحانه ان يكون قصر في أمر من أمور الدعوة، فيناجيه (سبحانه وتعالى)
((ان لم يكن بك غضب علي فلا أبالي))
ويستعيذ بالله من غضبه وسخطه ان يحل به او ينزل عليه، ويسترضي ربه بكل أسباب رضاه فيقول:
((لك العتبى حتى ترضى ))
أي: لك مني يا ربي كل ما يرضيك عني، فرضوان الله تعالى هو الهدف الأعلى عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم يسأل الله العافية وهي مطلب رئيس لتبليغ الدعوة: ((غير ان عافيتك هي أوسع لي))
5- الدعاء من أعظم العبادات وأقوى الذخائر والعدد التي يعدها المؤمن لمجابهة أعدائه.
6- حياة قلب الداعية بلا حول ولا قوة الا بالله، ومعناها: لا تحول للمؤمن من حال الشدة الى الرخاء، ولا من الخوف الى الامن الا بالله تعالى، ولا قوة على مواجهة الشدائد وتحمل المكاره الا بالله جل وعلا؛ فلا تحول عما يغصبه، ولا قوة على ما يرضيه الا به (سبحانه وتعالى)
7- إذا تأملت في مشاهد سيرته (صلى الله عليه وسلم) مع قومه؛ وجدت ان ما كان يجده (صلى الله عليه وسلم) من الأذى في هذه المشاهد قد يكون قاسيا شديدا؛ بيد انك واجد في كل مشهد منها ما يعتبر ردا إليها على ذلك الايذاء وما يهدف إليه أربابه؛ كي يكون في ذلك مواساة وسلوى للرسول (صلى الله عليه وسلم) وكي لا يجتمع في النفس من عوامل التألم والضجر ما يدخل إليها اليأس.
8- ففي مشهد هجرته للطائف، وما قد اكتفها من العذاب المضني: عذاب الايذاء وعذاب خذلان الناس له؛ تجد ردا أليها واضحا على سفاهة أليك الذين آذوه ولحقوا به، واعتذارا له عن سفاهتهم وغلظتهم، تجد ذلك في مظهر الرجل النصراني (عداس) حينما جاء يسعى إليه وفي يده طبق فيه عنب، ثم انكب فجعل يقبل راسه ويديه ورجليه وذلك عندما أخبره (صلى الله عليه وسلم) انه نبي، وكذلك لما جاءته الجن واستمعت القرآن؛ ففرح واستبشر وازداد ثباتا وانطلاق.
9- لئن كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غير موجود بيننا اليوم، الا انه لا يتصور الدفاع عنه بالنحو الذي كان يفعله الصحابة (رضي الله عنهم) ولكن ذلك من الممكن ان يتحقق على نحو آخر: هو ان نضن على أنفسنا بالمحن والعذاب في سيبل الدعوة الإسلامية، وان نسهم بشيء من تحمل الجهد والمشاق التي تحملها النبي (صلى الله عليه وسلم) لننشر سنته وتبليغ دعوته، وتحقيق متابعته في النفس والاهل وكل من حولنا.
10-في القصة دليل على وجود الجن وانهم مكلفون، وان منهم من آمن بالله ورسوله ومنهم من كفر ولم يؤمن.
11- ترى موقع كل ما رآه النبي (صلى الله عليه وسلم) في سياحته هذه في الطائف، واثر كل هذا الذي عاناه في نفسه يتضح فيما قاله النبي (صلى الله عليه وسلم) لزيد بن حارثة (رضي الله عنه) حينما سأله زيد متعجبا: كيف تعود يا رسول الله الى مكة وهم أخرجوك؟ فأجابه في ثقة واطمئنان:
((يا زيد، ان الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وان الله ناصر دينه، ومظهر نبيه))
(1)زاد المعاد (3/33)
فإن كل ذاك الذي رآه وعاناه في الطائف، بعد القسوة والعذاب اللذين رآهما في مكة، لم يكن له أي تأثير على ثقته بالله تعالى او على قوة العزيمة الإيجابية في نفسه.
ولا والله، ليست هذه عزيمة بشر آتته الطبيعة مزيدا من التحمل وقوة الإرادة، ولكنه يقين النبوة كان ثابتا في قلبه (صلى الله عليه وسلم) فهو يعلم انه إنما ينفذ أمر ربه، وبسير في الطريق التي أمره الله ان يسير فيها: ومما لا ريب فيه ان الله بالغ أمره، وقد جعل الله لكل شيء قدرا.
12- لا تصدانك المحن والعقبات التي تكون في طريق الدعوة الإسلامية عن السير، ولا تبث فيك روح الدعة والكسل، او اليأس والإحباط ما دمت تسير على هدى من الايمان بالله وتوفيقه؛ فمن استمد القوة من الله جدير بألا يعرف لليأس والكسل معنى؛ إذ ما دام الله هو الآمر، فلا شك انه هو الناصر أيضا.
13- حفظ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لصنيع مطعم بن عدي يعلمك حفظ الجميل لمن أحسن إليك وان كان كافرا، فقد قال في أسارى بدر:
((لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء التتن لتركتهم له))
14- قد يحمي الداعية أحد أقربائه ممن ليسوا على منهجه، وفي ذلك فائدة للدعوة حين تكون مستضعفة؛ إذ يمنع الأشرار من العدوان على حياته او مسه بأذى، فعصبية القبيلة والعائلة قد يستفيد منها الداعية في حمايته وحماية دعوته إذا لم يسايرها على ما هي عليه من منكرات.
15- الزوجة الصالحة المؤمنة بدعوة الحق تذلل كثيرا من الصعاب لزوجها الداعية إذا شاركته في همومه وآلامه؛ وبذلك تحفف عنه عبء هذه المهموم، وتبث في نفسه الاستمرار والثبات، فيكون لها أثر بالغ في نجاح الدعوة وانتصارها.
(1)أخرجه البخاري (2970) ك: المغازي، باب: شهود الملائكة بدرا.
وموقف السيدة خديجة (رضي الله عنها) من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو المثل الأعلى لاستطاعة الزوجة المؤمنة بدعوة الخير ان تلعبه من دور كبير في نجاح زوجها الداعية، وثباته واستمراره في دعوته، وفقد مثل هذه الزوجة عند احتدام معركة الإصلاح خسارة كبيرة لا يملك معها زوجها الداعية الا ان يحزن ويأسى مع كمال استسلامه لقضائه وقدره.
16- الحزن على فقد القريب الحامي لدعوة الحق غير المؤمن بها، وعلى فقد الزوجة المؤمنة المخلصة، حزن تقتضيه طبيعية الإخلاص للدعوة، والوفاء للزوجة المثالية في تضحيتها وتأييدها؛ ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما مات أبو طالب: ((لأستغفرن لك ما لم أنه عنه))، فاقتدى المسلمون برسولهم يستغفرون لموتاهم المشركين حتى نزل قول الله ((عز وجل)): ((ما كان للنبي والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحب الجحيم)) (التوبة:113)؛ فامتنع النبي (صلى الله عليه وسلم)) عن الاستغفار لأبي طالب، كما امتنع المسلمون عن الاستغفار لموتاهم؛ استسلاما لله وطاعة لأمره.
17-الوفاء خلق أصيل من مبادئ الإسلام العظيمة؛ فقد ظل النبي (صلى الله عليه وسلم) طيلة حياته يذكر فضل خديجة (رضى الله عنها) ويترحم عليها، ويبر صديقاتها، حتى كانت عائشة (رضى الله عنها) تغار منها-تغار منها-وهي متوفاة! -؛ لكثرة ما كانت تسمع من ثناء النبي (صلى الله عليه وسلم) عليها، فعن عائشة (رضى الله عنها) قالت: ما غرت على احد من نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) ما غرت على خديجة وما رأتها؛ ولكن كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائك خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة! فيقول: ((إنها كانت وكانت
(1)متفق عليه؛ أخرجه البخاري (1294)، ك: الجنائز، باب: إذا قال المشرك عن عند الموت: لا إله إلا الله؛ ومسلم (141)، ك: الايمان، باب: أول الايمان قول: لا إله إلا الله. وكان لي منها ولد، وفي رواية لمسلم: ((إني قد رزقت حبها))
18- في توجه الرسول (صلى الله عليه وسلم) الى الطائف بعد ان أعرضت عنه مكة، دليل على التصميم الجازم في نفس الرسول (صلى الله عليه وسلم) على الاستمرار في دعوته، وعدم اليأس من استجابة الناس لها، فنراه بحث عن ميدان جديد للدعوة بعد ان قامت الحواجز دونها في ميدانها الأول.
19- في إغراء ثقيف صيانها وسفاءها بالرسول (صلى الله عليه وسلم) دليل على ان طبيعة الشر واحدة أينما كانت، وهي الاعتماد على السفهاء في إيذاء دعاة الخير.
20- في سيل الدماء من قدمي النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو النبي الكريم- أكبر مثل لما يتحمله الداعية في سبيل الله من أذى واضطهاد، ودعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) في البستان- ذلك الدعاء النوراني الذي لا يخرج الا من مشكاة النبوة- فيه تأكيد تصدق الرسول (صلى عليه وسلم) في دعوته، وتصميم على الاستمرار فيها مهما قامت في وجهه الصعاب، وانه لا يهمه الا رضا الله وحده؛ فلا يهمه رضا الكبراء والزعماء، ولا رضا العامة والدهماء ((ان لم يكن بك غضب علي فلا أبالي)) كما ان فيه استمداد القوة من الله باللجوء إليه والاستعانة به عندما يشتد الأذى بالداعية، وفيه ان خوف الداعية كل الخوف هو من سخط الله عليه وغضبه، لا من سخط أي أحد سواه.
عاد الرسول (صلى الله عليه وسلم) الى مكة ليستأنف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله، وبينا هو ماض في جهاده، وبينما هو يمر بهذه المرحلة، وأخدت الدعوة تشق طريقها بين النجاح والاضطهاد، وبدأت نجوم الامل تتملح في آفاق بعيدة؛ إذ وقعت له قصة الاسراء والمعراج...
(1)متفق عليه، أخرجه البخاري (3607) ك: المناقب، باب: تزويج النبي (صلى الله عليه وسلم) خديجة وفضلها (رضي الله عنها) ومسلم (2435) ك: فضائل، باب: فضائل خديجة (رضي الله عنها)