البحث
ذكر حكم رسول الله في بيع الحصاة والغرر والملامسة والمنابذة
ذكر حكم رسول الله في بيع الحصاة والغرر والملامسة والمنابذة
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله عن بيع الحصاة وعن الغرر وفي الصحيحين عنه أن رسول الله نهى عن الملامسة والمنابذة زاد مسلم أما فأن يلمس كل منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما إلى الآخر ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه الآخر وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال نهى رسول الله عن بيعتين ولبستين نهى عن الملامسة في البيع والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا إلا بذلك والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر ثوبه ويكون بيعهما من غير نظر ولا تراض أما بيع الحصاة فهو من باب إضافة المصدر إلى نوعه كبيع الخيار وبيع النسيئة وليس من باب إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الميتة والدم
والبيوع المنهي عنها ترجع إلى هذين القسمين ولهذا فسر بيع الحصاة بأن يقول ارم الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم وفسر بأن بيعة من أرضه قدر ما انتهت رمية الحصاة وفسر بأن يقبض على كف من حصا ويقول لي بعدد ما خرج في القبضة من المبيع أو يبيعه سلعة ويقبض على كف من الحصا ويقول لي بكل حصاة وفسر بأن يمسك أحدهما حصاة في يده ويقول أي وقت سقطت الحصاة وجب البيع وفسر يتبايعا ويقول أحدهما إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع وفسر بأن يعترض من الغنم فيأخذ حصاة ويقول أي شاة أصبتها فهي لك بكذا وهذه الصور كلها لما تتضمنه من أكل المال بالباطل ومن الغرر والخطر الذي هو شبيه بالقمار
فصل
وأما بيع الغرر فمن إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الملاقيح والمضامين والغرر هو نفسه وهو فعل بمعنى مفعول أي مغرور به كالقبض والسلب بمعنى المقبوض وهذا كبيع العبد الآبق الذي لا يقدر على تسليمه والفرس الشارد والطير في وكبيع ضربة الغائص وما تحمل شجرته أو ناقته أو ما يرضى له به زيد أو يهبه أو يورثه إياه ونحو ذلك مما لا يعلم حصوله أو لا يقدر على تسليمه أو لا يعرف ومقداره ومنه بيع حبل الحبلة كما ثبت في الصحيحين أن النبي نهى عنه وهو النتاج في أحد الأقوال والثاني أنه أجل فكانوا يتبايعون إليه هكذا رواه مسلم غرر والثالث أنه بيع حمل الكرم قبل أن يبلغ قاله المبرد قال والحبلة الكرم الباء وفتحها وأما ابن عمر رضي الله عنه فإنه فسره بأنه أجل كانوا يتبايعون وإليه ذهب مالك والشافعي وأما أبو عبيدة ففسره ببيع نتاج النتاج وإليه ذهب بيع الملاقيح والمضامين كما ثبت في حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي عنه أن النبي نهى عن المضامين والملاقيح قال أبو عبيد الملاقيح ما في من الأجنة والمضامين ما في أصلاب الفحول وكانوا يبيعون الجنين في بطن وما يضربه الفحل في عام أو أعوام وأنشد
ومنه بيع المجر فإن النبي نهى عنه قال ابن الأعرابي المجر ما في بطن الناقة الربا والمجر القمار والمجر المحاقلة والمزابنة ومنه بيع الملامسة والمنابذة وقد جاء تفسيرهما في نفس الحديث ففي صحيح مسلم عن هريرة رضي الله عنه نهى عن بيعتين الملامسة والمنابذة أما الملامسة فأن يلمس واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه هذا لفظ مسلم وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال نهانا رسول الله عن بيعتين ولبستين في البيع لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه ويكون ذلك بيعهما غير نظر ولا تراض وفسرت الملامسة بأن يقول بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا بأن يقول أي ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا وهذا أيضا نوع من الملامسة وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله والغرر في ذلك ظاهر وليس العلة تعليق شرط بل ما تضمنه من الخطر والغرر
فصل
وليس من بيع الغرر بيع المغيبات في الأرض كاللفت والجزر والفجل والقلقاس والبصل فإنها معلومة بالعادة يعرفها أهل الخبرة بها وظاهرها عنوان باطنها فهو الصبرة مع باطنها ولو قدر أن في ذلك غررا فهو غرر يسير يغتفر في جنب المصلحة التي لا بد للناس منها فإن ذلك غرر لا يكون موجبا للمنع فإن إجارة الحيوان والحانوت مساناة لا تخلو عن غرر لأنه يعرض فيه موت الحيوان وانهدام الدار دخول الحمام وكذا الشرب من فم السقاء فإنه غير مقدر مع اختلاف الناس في قدره بيوع السلم وكذا بيع الصبرة العظيمة التي لا يعلم مكيلها وكذا بيع البيض والبطيخ والجوز واللوز والفستق وأمثال ذلك مما لا يخلو من الغرر فليس كل سببا للتحريم والغرر إذا كان يسيرا أو لا يمكن الإحتراز منه لم يكن مانعا من العقد فإن الغرر الحاصل في أساسات الجدران وداخل بطون أو آخر الثمار التي بدا صلاح بعضها دون بعض لا يمكن الإحتراز منه والغرر في دخول الحمام والشرب من السقاء ونحوه غرر يسير فهذان النوعان لا يمنعان بخلاف الغرر الكثير الذي يمكن الإحتراز منه وهو المذكور في الأنواع التي نهى رسول الله وما كان مساويا لها لا فرق بينها وبينه فهذا هو المانع من صحة فإذا عرف هذا فبيع المغيبات في الأرض انتفى عنه الأمران فإن غرره يسير ولا يمكن منه فإن الحقول الكبار لا يمكن بيع ما فيها من ذلك إلا وهو في الأرض فلو لبيعه إخراجه دفعة واحدة كان في ذلك من المشقة وفساد الأموال ما لا يأتي به وإن منع بيعه إلا شيئا فشيئا كلما أخرج شيئا باعه ففي ذلك من الحرج والمشقة مصالح أرباب تلك الأموال ومصالح المشتري ما لا يخفى وذلك مما لا يوجبه ولا تقوم مصالح الناس بذلك ألبتة حتى إن الذين يمنعون من بيعها في الأرض كان لأحدهم خراج كذلك أو كان ناظرا عليه لم يجد بدا من بيعه في الأرض إلى ذلك وبالجملة فليس هذا من الغرر الذي نهى عنه رسول الله ولا نظيرا نهى عنه من البيوع
فصل
وليس منه بيع المسك في فأرته بل هو نظير ما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز والفستق الهند فإن فأرته وعاء له تصونه من الآفات وتحفظ عليه رطوبته ورائحته وبقاؤه أقرب إلى صيانته من الغش
والمسك الذي في الفأرة عند الناس خير من المنفوض وجرت عادة التجار ببيعه فيها ويعرفون قدره وجنسه معرفة لا تكاد تختلف فليس من الغرر في شيء فإن هو ما تردد بين الحصول والفوات وعلى القاعدة الأخرى هو ما طويت معرفته وجهلت وأما هذا ونحوه فلا يسمى غررا لا لغة ولا شرعا ولا عرفا ومن حرم بيع شيء أنه غرر طولب بدخوله في مسمى الغرر لغة وشرعا وجواز بيع المسك في الفأرة أحد لأصحاب الشافعي وهو الراجح دليلا والذين منعوه جعلوه مثل بيع النوى في والبيض في الدجاج واللبن في الضرع والسمن في الوعاء والفرق بين النوعين ظاهر ومنازعوهم يجعلونه مثل بيع قلب الجوز واللوز والفستق في صوانه لأنه من مصلحته ولا أنه أشبه بهذا منه بالأول فلا هو مما نهى عنه الشارع ولا في معناه فلم يشمله لفظا ولا معنى وأما بيع السمن في الوعاء ففيه تفصيل فإنه إن فتحه ورأى رأسه بحيث يدله على جنسه جاز بيعه في السقاء لكنه يصير كبيع الصبرة التي شاهد ظاهرها وإن لم يره ولم له لم يجز بيعه لأنه غرر فإنه يختلف جنسا ونوعا ووصفا وليس مخلوقا في وعائه والجوز واللوز والمسك في أوعيتها فلا يصح إلحاقه بها
وأما بيع اللبن في الضرع فمنعه أصحاب أحمد والشافعي وأبي حنيفة والذي يجب فيه فإن باع الموجود المشاهد في الضرع فهذا لا يجوز مفردا ويجوز تبعا للحيوان إذا بيع مفردا تعذر تسليم المبيع بعينه لأنه لا يعرف مقدار ما وقع عليه البيع وإن كان مشاهدا كاللبن في الظرف لكنه إذا حلبه خلفه مثله مما لم يكن في الضرع المبيع على وجه لا يتميز وإن صح الحديث الذي رواه الطبراني في معجمه من حديث ابن أن رسول الله نهى أن يباع صوف على ظهر أو لبن في ضرع فهذا إن شاء الله وأما إن باعه آصعا معلومة من اللبن يأخذه من هذه الشاة أو باعه لبنها اياما فهذا بمنزلة بيع الثمار قبل بدو صلاحها لا يجوز وأما إن باعه لبنا مطلقا في الذمة واشترط كونه من هذه الشاة أو البقرة فقال شيخنا هذا جائز واحتج في المسند من أن النبي نهى أن يسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه فإذا بدا صلاحه وقال أسلمت إليك في عشرة أوسق من تمر هذا الحائط جاز كما يجوز يقول ابتعت منك عشرة أوسق من هذه الصبرة ولكن الثمن يتأخر قبضه إلى كمال صلاحه لفظه
فصل
وأما إن أجره الشاة أو البقرة أو الناقة مدة معلومة لأخذ لبنها في تلك المدة فهذا يجوزه الجمهور واختار شيخنا جوازه وحكاه قولا لبعض أهل العلم وله فيها مصنف قال إذا استأجر غنما أو بقرا أو نوقا أيام اللبن بأجرة مسماة وعلفها على أو بأجرة مسماة معه على أن يأخذ اللبن جاز ذلك في أظهر قولي العلماء كما في الظئر قال وهذا يشبه ويشبه الإجارة ولهذا يذكره بعض الفقهاء في البيع وبعضهم في الإجارة لكن إذا اللبن يحصل بعلف المستأجر وقيامه على الغنم فإنه يشبه استئجار الشجر وإن كان هو الذي يعلفها وإنما يأخذ المشتري لبنا مقدرا فهذا بيع محض وإن كان يأخذ مطلقا فهو بيع أيضا فإن صاحب اللبن يوفيه اللبن بخلاف الظئر فإنما هي تسقي وليس هذا داخلا فيما نهى عنه من بيع الغرر لأن الغرر تردد بين الوجود فنهى عن بيعه لأنه من جنس القمار الذي هو الميسر والله حرم ذلك لما فيه من المال بالباطل وذلك من الظلم الذي حرمه الله تعالى وهذا إنما يكون قمارا إذا أحد المتعاوضين يحصل له مال والآخر قد يحصل له وقد لا يحصل فهذا الذي لا يجوز في بيع العبد الآبق والبعير الشارد وبيع حبل الحبلة فإن البائع يأخذ مال والمشتري قد يحصل له شيء وقد لا يحصل ولا يعرف قدر الحاصل فأما إذا كان معروفا بالعادة كمنافع الأعيان بالإجارة مثل منفعة الأرض والدابة ومثل لبن المعتاد ولبن البهائم المعتاد ومثل الثمر والزرع المعتاد فهذا كله من باب وهو جائز ثم إن حصل على الوجه المعتاد وإلا حط عن المستأجر بقدر ما فات من المنفعة وهو مثل وضع الجائحة في البيع ومثل ما إذا تلف بعض المبيع قبل التمكن من في سائر البيوع فإن قيل مورد عقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان ولهذا لا يصح استئجار ليأكله والماء ليشربه وأما إجارة الظئر فعلى المنفعة وهي وضع الطفل في وإلقامه ثديها واللبن يدخل ضمنا
فهو كنقع البئر في إجارة الدار ويغتفر فيما دخل ضمنا وتبعا ما لا يغتفر في والمتبوعات
قيل الجواب عن هذا من وجوه أحدها منع كون عقد الإجارة لا يرد إلا على منفعة فإن هذا ليس ثابتا بالكتاب ولا ولا بالإجماع بل الثابت عن الصحابة خلافه كما صح عن عمر رضي الله عنه أنه حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين وأخذ الأجرة فقضى بها دينه والحديقة هي النخل إجارة الشجر لأخذ ثمرها وهو مذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلم له في الصحابة مخالف واختاره أبو الوفاء بن عقيل من أصحاب أحمد واختيار فقولكم إن مورد عقد الإجارة لا يكون إلا منفعة غير مسلم ولا ثابت بالدليل ما معكم قياس محل النزاع على إجارة الخبز للأكل والماء للشرب وهذا من أفسد فإن الخبز تذهب عينه ولا يستخلف مثله بخلاف اللبن ونقع البئر فإنه لما كان ويحدث شيئا فشيئا كان بمنزلة المنافع
يوضحه الوجه الثاني وهو أن الثمر يجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية فيجوز أن يقف الشجرة لينتفع أهل الوقف بثمراتها كما يقف الأرض لينتفع أهل بغلتها ويجوز إعارة الشجرة كما يجوز إعارة الظهر وعارية الدار ومنيحة اللبن كله تبرع بنماء المال وفائدته فإن من دفع عقاره إلى من يسكنه فهو بمنزلة من دابته إلى من يركبها وبمنزلة من دفع شجرة إلى من يستثمرها وبمنزلة من دفع أرضه من يزرعها وبمنزلة من دفع شاته إلى من يشرب لبنها فهذه الفوائد تدخل في عقود سواء كان الأصل محبسا أو غير محبس ويدخل أيضا في عقود المشاركات فإنه إذا دفع شاة أو بقرة أو إلى من يعمل عليها بجزء من درها ونسلها صح على أصح الروايتين عن أحمد فكذلك في العقود للإجارات
يوضحه الوجه الثالث وهو أن الأعيان نوعان نوع لا يستخلف شيئا فشيئا بل إذا ذهب جملة ونوع يستخلف شيئا فشيئا كلما ذهب منه شيء خلفه شيء مثله فهذا رتبة وسطى المنافع وبين الأعيان التي لا تستخلف فينبغي أن ينظر في شبهه بأي النوعين به ومعلوم أن شبهه بالمنافع أقوى فإلحاقه بها أولى يوضحه الوجه الرابع وهو أن الله سبحانه نص في كتابه على إجارة الظئر وسمى ما أجرا وليس في القرآن إجارة منصوص عليها في شريعتنا إلا إجارة الظئر بقوله ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف ) الطلاق 6 قال شيخنا ظن الظان أنها خلاف القياس حيث توهم أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة وليس كذلك بل الإجارة تكون على كل ما يستوفى مع بقاء أصله سواء كان عينا أو منفعة أن هذه العين هي التي توقف وتعار فيما استوفاه الموقوف عليه والمستعير بلا عوض المستأجر وبالعوض فلما كان لبن الظئر مستوفى مع بقاء الأصل جازت الإجارة كما جازت على المنفعة وهذا محض القياس فإن هذه الأعيان يحدثها الله شيئا بعد وأصلها باق كما يحدث الله المنافع شيئا بعد شيء وأصلها باق ويوضحه الوجه الخامس وهو أن الأصل في العقود وجوب الوفاء إلا ما حرمه الله ورسوله المسلمين على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا فلا يحرم من الشروط إلا ما حرمه الله ورسوله مع المانعين نص بالتحريم ألبتة وإنما معهم قياس قد علم أن بين الأصل والفرع من الفرق ما يمنع الإلحاق وأن القياس الذي مع من أجاز ذلك أقرب إلى مساواة لأصله وهذا ما لا حيلة فيه وبالله التوفيق
يوضحه الوجه السادس وهو أن الذين منعوا هذه الإجارة لما رأوا إجارة الظئر ثابتة والإجماع والمقصود بالعقد إنما هو اللبن وهو عين تمحلوا لجوازها أمرا يعلمون والمرضعة والمستأجر بطلانه فقالوا العقد إنما وقع على وضعها الطفل في حجرها ثديها فقط واللبن يدخل تبعا والله يعلم والعقلاء قاطبة أن الأمر ليس كذلك وضع الطفل في حجرها ليس مقصودا أصلا ولا ورد عليه عقد الإجارة لا عرفا ولا ولا شرعا ولو أرضعت الطفل وهو في حجر غيرها أو في مهده لاستحقت الأجرة ولو المقصود إلقام الثدي المجرد لاستؤجر له كل امرأة لها ثدي ولو لم يكن لها لبن هو القياس الفاسد حقا والفقه البارد فكيف يقال إن إجارة الظئر على خلاف ويدعى أن هذا هو القياس الصحيح الوجه السابع أن النبي ندب إلى منيحة العنر والشاة للبنها وحض على ذلك وذكر فاعله ومعلوم أن هذا ليس ببيع ولا هبة فإن هبة المعدوم المجهول لا تصح وإنما عارية الشاة للإنتفاع بلبنها كما يعيره الدابة لركوبها فهذا إباحة للإنتفاع وكلاهما في الشرع وما جاز أن يستوفى بالعارية جاز أن يستوفى بالإجارة فإن موردهما واحد وإنما في التبرع بهذا والمعاوضة على الآخر والوجه الثامن ما رواه حرب الكرماني في مسائله حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عباد بن عن هشام بن عروة عن أبيه أن أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم دين فدعا بن الخطاب رضي الله عنه غرماءه فقبلهم أرضه سنتين وفيها الشجر والنخل وحدائق الغالب عليها النخل والأرض البيضاء فيها قليل فهذا إجارة الشجر لأخذ ثمرها ادعى أن ذلك خلاف الإجماع فمن عدم علمه بل ادعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب عمر رضي الله عنه فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهد المهاجرين والأنصار وهي قصة مظنة الإشتهار ولم يقابلها أحد بالإنكار بل تلقاها الصحابة بالتسليم والإقرار كانوا ينكرون ما هو دونها وإن فعله عمر رضي الله عنه كما أنكر عليه عمران بن حصين وغيره شأن متعة الحج ولم ينكر أحد هذه وسنبين إن شاء الله تعالى أنها محض القياس وأن المانعين منها لا بد لهم وأنهم يتحيلون عليها بحيل لا تجوز
الوجه التاسع أن المستوفى بعقد الإجارة على زرع الأرض هو عين من الأعيان وهو الذي يستغله المستأجر وليس له مقصود في منفعة غير ذلك وإن كان له قصد جرى في الإنتفاع بغير الزرع فذلك تبع فإن قيل المعقود عليه هو منفعة شق الأرض وبذرها وفلاحتها والعين تتولد من هذه كما لو استأجر لحفر بئر فخرج منها الماء فالمعقود عليه هو نفس العمل لا
قيل مستأجر الأرض ليس له مقصود في غير المغل والعمل وسيلة مقصودة لغيرها ليس له منفعة بل هو تعب ومشقة وإنما مقصوده ما يحدثه الله من الحب بسقيه وعمله وهكذا الشاة للبنها سواء مقصوده ما يحدثه الله من لبنها بعلفها وحفظها والقيام فلا فرق بينهما ألبتة إلا ما لا تناط به الأحكام من الفروق الملغاة وتنظيركم لحفر البئر تنظير فاسد بل نظير حفر البئر أن يستأجر أكارا لحرث أرضه ويسقيها ولا ريب أن تنظير إجارة الحيوان للبنه بإجارة الأرض لمغلها هو محض وهو كما تقدم أصح من التنظير بإجارة الخبز للأكل يوضحه
الوجه العاشر وهو أن الغرر والخطر الذي في إجارة الأرض لحصول مغلها أعظم من الغرر الذي في إجارة الحيوان للبنه فإن الآفات والموانع التي تعرض للزرع من آفات اللبن فإذا اغتفر ذلك في إجارة الأرض فلأن يغتفر في إجارة الحيوان أولى وأحرى
فصل
فالأقوال في العقد على اللبن في الضرع ثلاثة أحدها منعه بيعا وإجارة وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة
والثاني جوازه بيعا وإجارة والثالث جوازه إجارة لا بيعا وهو اختيار شيخنا رحمه الله
وفي المنع من بيع اللبن في الضرع حديثان أحدهما حديث عمر بن فروخ وهو ضعيف عن بن الزبير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا نهى أن يباع صوف على أو سمن في لبن أو لبن في ضرع وقد رواه أبو إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله من قوله دون ذكر السمن رواه البيهقي وغيره والثاني حديث رواه ابن ماجة عن هشام بن عمار حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا جهضم بن اليماني عن محمد بن إبراهيم الباهلي عن محمد بن زيد العبدي عن شهر بن حوشب أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال نهى رسول الله عن شراء ما في بطون الأنعام تضع وعما في ضروعها إلا بكيل أو وزن وعن شراء العبد وهو آبق وعن شراء المغانم تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض عن ضربة الغائص ولكن هذا الإسناد لا تقوم به والنهي عن شراء ما في بطون الأنعام ثابت بالنهي عن الملاقيح والمضامين والنهي شراء العبد الآبق وهو آبق معلوم بالنهي عن بيع الغرر والنهي عن شراء المغانم تقسم داخل في النهي عن بيع ما ليس عنده فهو بيع غرر ومخاطرة وكذلك الصدقات قبل وإذا كان النبي نهى عن بيع الطعام قبل قبضه مع انتقاله إلى المشتري وثبوت عليه وتعيينه وانقطاع تعلق غيره به فالمغانم والصدقات قبل قبضها أولى بالنهي وأما ضربة فغرر ظاهر لا خفاء به وأما بيع اللبن في الضرع فإن كان معينا لم يمكن تسليم المبيع بعينه وإن كان بيع موصوف في الذمة فهو نظير بيع عشرة أقفزة مطلقة من هذه الصبرة وهذا النوع له جهة إطلاق وجهة تعيين ولا تنافي بينهما وقد دل على جوازه نهي النبي أن في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه رواه الإمام أحمد فإذا أسلم إليه في معلوم من لبن هذه الشاة وقد صارت لبونا جاز ودخل تحت قوله ونهى عن بيع ما في إلا بكيل أو وزن فهذا إذن لبيعه بالكيل والوزن معينا أو مطلقا لأنه لم يفصل يشترط سوى الكيل والوزن ولو كان التعيين شرطا لذكره فإن قيل فما تقولون لو باعه لبنها أياما معلومة من غير كيل ولا وزن
قيل إن ثبت الحديث لم يجز بيعه إلا بكيل أو وزن وإن لم يثبت وكان لبنها معلوما لا بالعادة جاز بيعه أياما وجرى حكمه بالعادة مجرى كيله أو وزنه وإن كان مختلفا يزيد ومرة ينقص أو ينقطع فهذا غرر لا يجوز وهذا بخلاف الإجارة فإن اللبن يحدث ملكه بعلفه الدابة كما يحدث الحب على ملكه بالسقي فلا غرر في ذلك نعم إن نقص عن العادة أو انقطع فهو بمنزلة نقصان المنفعة في الإجارة أو تعطيلها يثبت حق الفسخ أو ينقص عنه من الأجرة بقدر ما نقص عليه من المنفعة هذا قياس وقال ابن عقيل وصاحب المغني إذا اختار الإمساك لزمته جميع الأجرة لأنه رضي ناقصة فلزمه العوض كما لو رضي بالمبيع معيبا والصحيح أنه يسقط عنه من الأجرة بقدر ما نقص المنفعة لأنه إنما بذل العوض الكامل في منفعة كاملة سليمة فإذا لم تسلم له لم جميع العوض وقولهم إنه رضي بالمنفعة معيبة فهو كما لو رضي بالبيع معيبا جوابه من وجهين أحدهما أنه إن رضي به معيبا بأن يأخذ أرشه كان له ذلك على ظاهر المذهب فرضاه مع الأرش لا يسقط حقه الثاني إن قلنا إنه لا أرش لممسك له الرد لم يلزم سقوط الأرش في الإجارة لأنه قد بعض المعقود عليه فلم يمكنه رد المنفعة كما قبضها ولأنه قد يكون عليه ضرر رد باقي المنفعة وقد لا يتمكن من ذلك فقد لا يجد بدا من الإمساك فإلزامه بجميع مع العيب المنقص ظاهرا ومنعه من استدراك ظلامته إلا بالفسخ ضرر عليه ولا لمستأجر الزرع والغرس والبناء أو مستأجر دابة للسفر فتتعيب في الطريق فالصواب لا أرش في المبيع لممسك له الرد وأنه في الإجارة له الأرش والذي يوضح هذا أن النبي حكم بوضع الجوائح وهي أن يسقط عن مشتري الثمار من بقدر ما أذهبت عليه الجائحة من ثمرته ويمسك الباقي بقسطه من الثمن وهذا لأن لم تستكمل صلاحها دفعة واحدة ولم تجر العادة بأخذها جملة واحدة وإنما تؤخذ فشيئا فهي بمنزلة المنافع في الإجارة سواء والنبي في المصراة خير المشتري الرد وبين الإمساك بلا أرش وفي الثمار جعل له الإمساك مع الأرش والفرق ما
والإجارة أشبه ببيع الثمار وقد ظهر اعتبار هذا الشبه في وضع الشارع الجائحة قبض الثمن فإن قيل فالمنافع لا توضع فيها الجائحة باتفاق العلماء قيل ليس هذا من باب وضع الجوائح في المنافع ومن ظن ذلك فقد وهم قال شيخنا وليس من باب وضع الجائحة في المبيع كما في الثمر المشترى بل هو من باب تلف المنفعة بالعقد أو فواتها وقد اتفق العلماء على أن المنفعة في الإجارة إذا تلفت التمكن من استيفائها فإنه لا تجب الأجرة مثل أن يستأجر حيوانا فيموت قبل من قبضه وهو بمنزلة أن يشتري قفيزا من صبرة فتتلف الصبرة قبل القبض فإنه من ضمان البائع بلا نزاع ولهذا لو لم يتمكن المستأجر من ازدراع لآفة حصلت لم يكن عليه الأجرة وإن نبت الزرع ثم حصلت آفة سماوية أتلفته قبل التمكن من حصاده ففيه نزاع فطائفة بالثمرة والمنفعة وطائفة فرقت والذين فرقوا بينه وبين الثمرة والمنفعة الثمرة هي المعقود عليها وكذلك المنفعة وهنا الزرع ليس معقودا عليه بل عليه هو المنفعة وقد استوفاها والذين سووا بينهما قالوا المقصود بالإجارة الزرع فإذا حالت الآفة السماوية بينه وبين المقصود بالإجارة كان قد تلف المقصود قبل التمكن من قبضه وإن لم يعاوض على زرع فقد عاوض على المنفعة التي يتمكن المستأجر من حصول الزرع فإذا حصلت الآفة السماوية المفسدة للزرع قبل التمكن من لم تسلم المنفعة المعقود عليها بل تلفت قبل التمكن من الإنتفاع ولا فرق بين منفعة الأرض في أول المدة أو في آخرها إذا لم يتمكن من استيفاء شيء من ومعلوم أن الآفة السماوية إذا كانت بعد الزرع مطلقا بحيث لا يتمكن من بالأرض مع تلك الآفة فلا فرق بين تقدمها وتأخرها
فصل
وأما بيع الصوف على الظهر فلو صح هذا الحديث بالنهي عنه لوجب القول به ولم تسغ وقد اختلفت الرواية فيه عن أحمد فمرة منعه ومرة أجازه بشرط جزه في الحال هذا القول أنه معلوم يمكن تسليمه فجاز بيعه كالرطبة وما يقدر من اختلاط الموجود بالحادث على ملك البائع يزول بجزه في الحال والحادث يسير جدا لا ضبطه هذا ولو قيل بعدم اشتراط جزه في الحال ويكون كالرطبة التي تؤخذ شيئا وإن كانت تطول في زمن أخذها كان له وجه صحيح وغايته بيع معدوم لم يخلق تبعا فهو كأجزاء الثمار التي لم تخلق فإنها تتبع الموجود منها فإذا جعلا للصوف معينا يؤخذ فيه كان بمنزلة أخذ الثمرة وقت كمالها ويوضح هذا أن الذين منعوه قاسوه على أعضاء الحيوان وقالوا متصل بالحيوان فلم يجز بالبيع كأعضائه وهذا من أفسد القياس لأن الأعضاء لا يمكن تسليمها مع سلامة فإن قيل فما الفرق بينه وبين اللبن في الضرع وقد سوغتم هذا دونه قيل اللبن في يختلط ملك المشتري فيه بملك البائع سريعا فإن اللبن سريع الحدوث كلما حلبه بخلاف الصوف والله أعلم وأحكم