البحث
الحديث الأول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى
الحديث الأول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال رحمه الله تعالى:
عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه متفق عليه.
هذا الحديث من أشهر الأحاديث، وقد اتفق العلماء على صحته وقبوله، وأفرده بعضهم بمصنفات مستقلة لعظيم شأنه وجليل خطره، بل عده بعضهم ثلث الإسلام، وعده بعضهم ربع الإسلام، بل قد قال ابن مهدي -رحمه الله تعالى- في فضل أو في شأن هذا الحديث: "أرى أن كل من صنف مصنفًا أن يبدأ بحديث النيات" يعني بذلك هذا الحديث، وأهل العلم قد سلكوا هذا المسلك، فصدر كثير منهم مصنفه بهذا الحديث، وعلى رأس أولئك الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه.
ولهذا الحديث من باب الفائدة قصة يحسن أن تذكر ليعلم خبرها. ذكر بعض أهل العلم أن رجلًا يكنى أو رجلًا هاجر من مكة إلى المدينة بقصد أن يتزوج امرأة تكنى بأم قيس، فسمي مهاجر أم قيس، ولأجله جاء هذا الحديث، والصحيح والتحقيق أنه لا علاقة لهذا الرجل بهذا الحديث، وعلى قول من قال بأن ذلك الرجل هو سبب الحديث فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قوله صلى الله عليه وسلم: إنما، "إنما" هنا أداة حصر، وفي اللغة أساليب للحصر ومن أشهرها "إنما" أي إنما كل عمل بنية، لا عمل إلا بنية، ولهذا لا يتصور أن يعمل إنسان عملًا بلا نية، بخلاف المجنون، وبخلاف النائم، وبخلاف الصغير الذي لا يفقه، هؤلاء يتصرفون تصرفات لا تحكمهم نية، ولا مقصد لهم.
إنما الأعمال بالنيات، اعتبار النية في جميع الأعمال، وإنما لكل امرئ ما نوى، فيه كمال عدل الله جل وعلا، فيه كمال عدل الله، لكل امرئ ما نوى يعطي الله من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، ولا يظلم ربنا أحدًا، ولهذا من ما جاء في القرآن الكريم من الضوابط الكبيرة أن الجزاء من جنس العمل: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .
إذًا فمن كمال عدل الله أن من أحسن فله ومن أساء فعليه؛ ولذا كان من تعبيرات أهل السنة، يعطي الله من يشاء بفضله، ويعاقب ويحرم ويمنع من يشاء بعدله، ولا يظلم ربك أحدًا، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، فيه الترغيب في الإخلاص، وفيه أن من أراد الإخلاص أُعِينَ عليه ودُلَّ عليه وهدي إليه، فمن أخلص في نيته لله -جل وعلا- وعلم الله صدق نيته وطيب طويته، أعانه على بلوغ مقصوده وآجره على عمله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه، فيه الترهيب من الرياء، وأن من أراد بعمله الرياء فقد وكَلَه الله إلى نيته، وقد وكله الله -تعالى- إلى مراده، وفيه أيضًا موافقة السنة للقرآن الكريم.
من المعلوم أن للسنة مع القرآن وظائف، تارة تكون السنة مؤكدة، لما جاء في القرآن كهذا الحديث: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا هذا الحديث إنما الأعمال بالنيات من هاجر بقصد الخير، فله، ومن هاجر بقصد غير الخير فعليه، ولا يظلم ربك أحدًا، وفيه أن قبول العمل لا بد له من أمرين أو من متلازمين الصلاح أو الإخلاص في الباطن، والاتباع في الظاهر، الإخلاص في نيته، والاتباع في عمله، وإذا افترق أحد الأمرين عن الآخر حصل الخلل في العمل، فكم من عامل على غير إخلاص، وكم من مخلص على غير عمل؛ ولهذا لا بد من اجتماع هذين الأمرين الإخلاص والاتباع، وهنا مسألتان:
الأولى: النية عند الفقهاء أو عند العلماء لها اعتباران: الاعتبار الأول باعتبار المقصود، من العمل هل هو لله أو لغير الله، والاعتبار الثاني باعتبار تمييز العمل، تارة يكون العمل فرضًا، وتارة يكون نفلًا، وتارة تكون عبادة مالية، وتارة تكون عبادة قولية وهلم جرا، لكن يجمع هذا الأمر أن العمل لا بد أن يكون العامل فيه مخلصًا لله.
المسألة الثانية: إذا خالط العمل شيء يشوب الإخلاص، قال العلماء أو قال أهل العلم: ذلك على أحوال، إذا كان قصد العامل من أصل عمله الرياء فعمله حابط لا إشكال في ذلك، القصد الثاني: إذا عمل العمل لله، ثم صاحبه نية أخرى، مثال ذلك، رجل ذهب ليعلم العلم ويبصر الجهلاء احتسابًا، ثم داخله الرغبة في أخذ المال على هذا العلم، العلم لله -جل وعلا- وإنما أخذ المال أو داخلته هذه النية بعد نيته الأصلية، قالوا: لا يأثم، ولكن يقل أجره عما كان عليه.
الأمر الثالث: إذا عمل العمل لله، ثم صاحبه أو جاء الرياء قيل: إن دافعه ونازع نفسه في رده فهو مأجور وليس بمأزور، وإذا استرسل معه، وترك الزمام لنفسه فقد أثم باختياره، ويتحمل تبعته.
الحال الرابع أو القسم الآخر: لو عمل عملًا فأثني عليه ومدح عليه وكان ذلك بغير اختياره هل يأثم؟ لا يأثم؛ لأن ذلك من عاجل بشرى المؤمن إلا إذا زينت له نفسه ذاك ونسي فضل الله عليه، ولهذا قد يعمل العامل العمل ويكون وحيدًا لا يراه أحد، لا يطلع عليه زيد ثم يشيع خبره فيتناقل الناس خبره فيحمد ويمدح، ولكن لا يؤثر فيه مدح الناس ولا ثناء الناس، بل يزداد أو يزيده ذلك المدح إخلاصًا لله ولا يؤثر فيه في أن يشوبه عجب أو حب لثناء الناس أو مدحهم.
ولهذا من لطائف كلام أهل العلم أن إخلاص العامل كلما قوي كلما كان عمله أفضل، قال ابن القيم أو غيره: ربما يعمل العبد العمل في جوف الليل، لا يراه أحد فيكون حظه الوزر، وربما يعمل العمل ويكون عمله في حماليق أعين الناس يرقبونه من كل جهة، فيكون مخلصًا في عمله ذاك، والضابط هنا سلامة الباطن، قد يعمل الإنسان العمل، يقوم الليل لكن تعجبه نفسه أنا أحسن من فلان، ينتظر من الله جزاء وشكورًا كأنه يمن على الله -جل وعلا- تعجبه نفسه، ينسى بعض تقصيره لإعجابه بقيامه، فهذا آثم، لكن من عمل العمل والجموع تنظر إليه، وكانت نيته لله ومقصده لله وجاهد نفسه في أن يقيم العمل في الباطن والظاهر على الوجه الذي يرضي الله، فهو من خير وعلى خير وإلى خير.
المسألة الأخيرة: الهجرة، الهجرة أنواع تارة تكون الهجرة واجبة إذا كان في أرض سوء، في أرض كفر، لا يستطيع أن يقيم دينه ويستطيع أن يهاجر فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأيضًا مما تكون الهجرة فيه واجبة إذا علم المرء من نفسه أنه قادر على نشر خير وإزالة منكر لا يزول إلا به، وأمر بالمعروف لا يكون إلا بحضوره، وبالمثال يتضح المقال، فلان من الناس له قدرة علمية، أو قدرة سلطانية، يعلم أنه بذهابه إلى بلد ما فيه الشر والشرك أنه بذهابه سيزول ذلك الأمر وينقلب العسر يسرًا، والشر خيرًا، فهنا يجب أن يذهب لأنه قادر ولا يكون هذا إلا بحضوره بعلمه أو بسلطانه.
وأيضًا مما ذكر أهل العلم في الهجرة من هاجر لطلب علم، كمن يسافر، قالوا: هذا يؤجر عليه، ومن ذلك الرحلة في طلب العلم أو في طلب علاج لا يكون في بلد المسلمين، أو يكون في بلد المسلمين ولكن يعجزون عنه وسيترتب على بقائه مضرة، وهناك أقسام تدخل تبعًا في تلك الأقسام.