البحث
الحديث الثاني: إن المقسطين عند الله على منابر من نور
الحديث الثاني: إن المقسطين عند الله على منابر من نور
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن -عز وجل- وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا أخرجه مسلم.
إن المقسطين كلمتان مترادفتان قريبتان في الرسم واللفظ، المقسطون والقاسطون، المقسطون محمودون، والقاسطون غير محمودين، المقسطون العادلون: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ والقاسطون الجائرون الظالمون: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا .
وقوله: على منابر، فيه أن العدل رفعة في الدنيا بمرضاة الله تعالى، ورفعة في الآخرة بإكرام الله لأولئك المقسطين، برقيهم ورفعتهم على تلك المنابر، وقوله من نور فيه أن العدل نور في الدنيا وقرة عين لمن عدل، وجزاء ذلك نور في الآخرة، كما أن الظلم ظلم في الدنيا أو ظلام في الدنيا وظلام في الآخرة، الظلم ظلمات يوم القيامة.
وفي قوله: على يمين الرحمن زيادة في إكرامهم؛ فجهة اليمين جهة تشريف وتكريم، وكلتا يديه يمين، جاء في بعض الروايات: بيده الشمال، بعضهم ضعفها سندًا، وبعضهم قال على صحتها، فهذا الحديث كلتا يديه يمين في البركة والخير حتى لا يتوهم أن الشمال أضعف من اليمين، كما هو في غالب حق الآدميين، وفيه إثبات صفة اليدين لله تعالى.
والقاعدة العقدية عند أهل السنة والجماعة أن صفات الله تعالى لها أمور ثلاثة: إثباتها من الكتاب والسنة، والثاني: تنزيهها عن صفات النقص والعيب، والثالث: الإيمان بأنها حقيقة، وعدم تأويلها أو تكييفها أو تشبيهها، والقاعدة الأخرى: أن القول في صفة من صفات الله، كالقول في سائر الصفات، فهذه القاعدة، أي: الإيمان بصفات الله -جل وعلا- من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، حقيقة قاعدة مطردة في جميع الصفات، قد نص على ذلك أهل العلم، كشيخ الإسلام في التدمرية في قواعده المشهورة.
الذين يعدلون في حكمهم، فيه شمولية العدل في كل شيء: في القول، في الفعل، في النفع القاصر على نفسه، والنفع المتعدي لغيره: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا إذا كنت مأمورًا بالعدل مع أهلك ومع نفسك فمع الناس من باب أولى؛ ولذا من كمال الإسلام في مسألة العدل أن العدل في كل شيء حتى في الجوارح، ولهذا من لطائف ما يذكر، ما ذكره بعض شراح الحديث عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: نهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة ذكروا عللًا أنها مشية الشيطان، وذكروا من ذلك أن هذا فيه جور مع القدم الأخرى، وهذا القول لطيف يحكى في مسألة العدل.
لكن الشأن أن العدل في كل شيء: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ويزداد الأجر عظمًا، في العدل مع من خالفك وظلمك، قد يخالفك مخالف فلا تكون المخالفة سبيلًا إلى ظلمه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك .
العدل ثقيل على النفوس، وبخاصة مع المخالفين، لكن الإنصاف أن يجعل المسلم نصب عينيه: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا أو كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: قل الحق ولو قال به عدو بعيد، وقل بأن هذا باطل ولو قال به صديق قريب، أيضًا في قوله صلى الله عليه وسلم: وما وَلُو، أي: ما تولوا من ولايات، وما قاموا عليه من مسئوليات، نص أو خص هذا؛ لأن عدم العدل هنا يكون فيه الضرر متعديا، وأنت تعلم أن ظلم الاثنين أشد من ظلم الواحد، وأن ظلم العشرة أشد من ظلم الخمسة، ولهذا كان الوعيد للقاضي شديدا إن ظلم، كما أن الوعيد للحاكم السلطان شديد إن ظلم لعظم الضرر المترتب على ظلمهما سواء من القاضي أو من السلطان. كما جاء المدح لمن قضى ولمن حكم بالعدل وبخاصة في حق من يلي أمور الناس من القضاة والسلاطين.
وفيه أيضًا أن العدل متلازم مع الأمانة، العدل لا يكون أو لا يتصور إلا مع الأمانة فيما قضى؛ ولهذا قال بعض العلماء عند قوله تعالى: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ هذه الآية جعلت العمال على أربعة أقسام، قسمة عقلية لا بد منها:
إما أن يكون أمينًا بلا قوة، أو أن يكون قويا بلا أمانة، أو أن يكون لا أمانة ولا قوة، أو أن يكون أمينًا قويا، والعدل أو العادل لا بد فيه من شرطي الأمانة والقوة، بل لا يتصور أن يكون عدلا منفذا إلا بالقوة والأمانة، وفي ذلك أن على دعاة الخير وطلبة العلم أن يحكموا العدل على أنفسهم، قد تحمل على أحد العصاة المسلمين أمرًا في نفسك لخبر شاع عنه أو لمعصية تلبس بها وجهر بها، لكن هذا لا يمنع من العدل معه، وأن يقال أصاب في إصابته وأخطأ إذا أخطأ، أما أن يُستصحَب الحال في بغضه، فيُظلَم، ويجعل الأصل في كلامه الظلم، ويُنحَى عنه العدل فهذا من الجور؛ ولهذا جاء في بعض الروايات أن يهوديا اشتكى عليا إلى شريح، فدخل علي وخصمه عند شريح، فأجلس شريحٌ عليا مع خصمه، وكلكم يعلمها، فعجب اليهودي من هذا فقال: دين يأمر بهذا لا خير فيمن تركه، فأسلم.