البحث
رقة القلب
مقدمة | ||||||||
بعض النفوس تكون في طبيعتها غليظة جافة، والبعض الآخر يكون في قلبه رحمة فطرية غير مصطنعة غير متكلفة، وكان أبو بكر رضي الله عنه من هذا النوع الأخير. لقد سمع أبو بكر وصايا حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، فحفظها، وعقلها وعمل بها: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا- وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ. كانت رقة قلبه رضي الله عنه تنعكس على حياته الشخصية، وتنعكس على علاقاته مع الناس. وتستطيع بعد أن تدرك هذه الحقيقة، حقيقة أنه جُبِل على الرحمة والرقة والهدوء أن تفهم كثيرًا من أفعاله الخالدة رضي الله عنه. - عن عائشة رضي الله عنها كما روى البخاري ومسلم، قالت: لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرةٍ وعشية، فلما ابتلي المسلمون (تقصد في فترة إيذاء المشركين للمسلمين في مكة) خرج أبو بكر مجاهدًا إلى أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه بن الدغنة، وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. سبحان الله، سيترك التجارة، والما، والوضع الاجتماعي المرموق، والبيت، والأهل، والبلد، والكعبة، بل أعظم من ذلك عنده سيترك رسول الله صلى الله عليه وسلم، هناك بعض الناس يحبون أن يعبدوا الله بالطريقة التي يرونها هم صحيحة، لكن أبو بكر كان يعبد الله بالطريقة التي يريدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من الممكن أن يبقى أبو بكر في مكة، ويعبد الله في سرية، ويتاجر، ويحقق المال الذي يفيد الدعوة، لكن رسول الله أراد له الهجرة؛ لأنه ليست له حماية في مكة؛ لأن قبيلته ضعيفة، وهي قبيلة بني تيم، فترك كل شيء وهاجر، وإلى أرض بعيد مجهولة غير عربية، إلى الحبشة، لكن الله أراد غير ذلك وأراد له البقاء في مكة فسخر له ابن الدغنة. قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ونلاحظ أنها نفس الصفات التي ذكرتها السيدة خديجة في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنا لك جار ارجع، واعبد ربك ببلدك. فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشيةً في أشراف قريش فقال لهم: أتخرجون رجلًا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبنائنا. لأن قلوب النساء، والأبناء قلوب رقيقة، وأبو بكر رجل رقيق، يخرج كلامه من القلب، فيصل إلى القلوب الرقيقة المفتقرة للمعرفة، لكنهم لا يخشون على الرجال فقلوبهم كانت قاسية، عرفت الحق، واتبعت غيره. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره (يعني لا يقرأ في الكعبة ولا في مجالس التقاء الناس ولا في السوق) ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين، وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه. لا يريد أن يكتم أمر الدعوة، تتحرق نفسه شوقًا لإسماع غيره كلام الله عز وجل، وتشفق روحه على أولئك الذين سيذهبون إلى النار إذا ماتوا على كفرهم تمامًا كرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه ربه بقوله: [لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] {الشعراء:3} . هكذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه،
|
الصديق وأسرى بدر |
ولما استشاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الأسرى في موقعة بدر، ماذا كان يرى في أولئك الذين عذبوهم وأخذوا أموالهم، وطردوهم من ديارهم، وحرصوا على حربهم، وكادوا يقتلونهم في بدر لولا أن الله من على المؤمنين بالنصر؟ انظر إليه وكأنه يتحدث عن أصحابه لا يتحدث عن الأسرى، بل كأنه يتحدث عن أصحابه وأحبابه، لقد قال: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ فيهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا. أما عمر بن الخطاب، فقد كان جوابه مختلفًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ فيرد عمر بن الخطاب فيقول، ولنتأمل كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو ملهم، ومحدث ومسدد الرأي، وفيه شدة واضحة على الكفر وأهله، وهي شدة محمودة في زمان الحرب. بل إن رأيه هو ذلك الرأي الذي يريده الله ووافق فيه عمر ما أراد الله عز وجل: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان- أحد أقرباء سيدنا عمر- فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل بن أبي طالب، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه، فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء أئمتهم وقادتهم. فيقول عمر بن الخطاب: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء. نلاحظ التقارب الشديد في الطباع بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، وإن كان الصواب في الموقف كان مع عمر. يقول عمر: فلما كان الغد غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. لله درك يا ابن الخطاب، عملاق آخر صنعه الإسلام رقة متناهية مختفية خلف الشدة الظاهرة، وقلب يذوب ذوبانا في حب رسول الله وتواضع جم وأدب عظيم، فقال رسول الله: لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، فَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابَهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ. ولماذا العذاب؟ وكأن بعض الصحابة أرادوا الدنيا بهذا الرأي، وينزل قول الله: [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67)لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {الأنفال:67، 68} . الكتاب الذي سبق هو قوله تعالى: [فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً] {محمد:4} . ويلخص هذا كله رسول الله بتعليق جامع بعد قضية أسرى بدر، واختلاف العملاقين الكبيرين في الرأي: إِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ قال: [فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {إبراهيم:36} . وَمَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى قَالَ: [إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {المائدة:118}. وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ قَالَ: [رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا] {نوح:26}. وَمَثَلُكَ مِثَلُ مُوسَى قَالَ: [رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ] {يونس:88} . ولا أحد يُخَطِّئ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعيسى عليه السلام في رحمتهما مع المذنبين، ولا أحد يخطئ نوح وموسى عليهما السلام في شدتهما في الحق. إذن هذه المواقف وكثير غيرها توضح مدى الطبيعة الرقيقة الحانية التي جُبِل عليها الصديق رضي الله عنه. هذه الرقة الشديدة والنفس الخاشعة، والطباع اللينة أورثت في قلب الصديق تواضعًا عظيمًا فاق كل تواضع. تعالوا نرقبه بإمعان وهو يودع جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، موقف عجيب، أسامة بن زيد دون الثامنة عشر من عمره، وهو جندي من جنود أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأبو بكر الصديق هو زعيم الدولة الأول، خليفة المسلمين يتجاوز في العمر الستين سنة، ومع ذلك يودع بنفسه جيش أسامة، وهو ماش على قدميه، وأسامة بن زيد يركب جواده، ولك أن تتخيل الموقف، أسامة على الجواد، وأبو بكر يسير بجواره على الأرض، قال أسامة: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: والله لستَ بنازل، ولستُ براكب، وما عليَّ أن أُغَبّر قدمي في سبيل الله ساعة. يا الله، يا لها من تربية راقية تربية على منهج النبوة، يربي نفسه على التواضع، ويربي أسامة بن زيد على الثقة بالنفس، ويربي الجنود على الطاعة لهذا الأمير الصغير، ثم هو يربي كل المؤمنين على حسن التوجه وعلى إخلاص النية ووضوح الرؤية، ثم هو يريد عمر بن الخطاب معه في المدينة، وعمر بن الخطاب في جيش أسامة، ومع أن أبا بكر الصديق هو القائد الأعلى لكل الخلافة إلا إنه يستأذن أسامة بن زيد قائلًا: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل. أسامة بن زيد 18 سنة، أي من عمر شاب في الثانوية العامة اليوم. وهو لا يتصنع التواضع، ولكن هذا جزء لا يتجزأ من شخصيته رضي الله عنه وعن أصحابه، وصلي اللهم وبارك على الذي علم هؤلاء مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال. |