البحث
لَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
14544
2019/07/22
2024/12/18
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "وَيْلَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ مِرَارًا ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ".
بُعِثَ الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – معلما ومتمماً لمكارم الأخلاق، بأسلوب رفيع لا يجرح المشاعر ولا تنقبض منه القلوب، فيأمر بالشيء فلا تجد في أمره به غضاضة ولا حرجاً، وينهي عن الشيء فلا تجد في نهيه عنه تحكماً ولا شططاً؛ وذلك لأن أمره ونهيه وحي سماوي، مبني على العدل المطلق والوسطية، التي تخلو تماماً من الإفراط والتفريط؛ ولأن الدين الذي جاء به قد وضع رعاية لمصالح العباد في العاجل والآجل، فإذا أمر بشيء، فإنما يأمر به لجلب منفعة دنيوية أو أخروية أو هماً معاً، وإذا نهى عن شيء، فإنما ينهى عنه لدفع مضرة دنيوية أو أخروية أو هماً معاً.
وقد اقتضت مكارم الأخلاق أن يعرف المرء لأخيه حقه وفضله، فيثنى عليه بما هو أهله، والثناء نوع من الشكر، ولا يخفى ما فيه من تطييب للنفوس وتهييج للعواطف وتحريض على المزيد من فعل الخير، ولكن الناس في هذا أصناف.
فمنهم من يحمله المدح على التكبر والغرور، والعجب والرياء وحب الظهور.
ومنهم من يدفعه المدح إلى التقاعد عن نيل المطالب العلية والركون إلى ما قد مدحه الناس به، فلا يزيد عليه، ويقول في نفسه: كفاني ما أنا فيه، فقد وصلت إلى مرتبة الثناء، وهي ما كنت أبغيه من عملي.
ومنهم من إذا مدح، خجل واستحيا ووجد من ذلك حرجاً شديداً في نفسه.
ومنهم من إذا مدح ربا الإيمان في قلبه، وحرص على المزيد من فعل الخيرات، وعمل جهده على أن يكون عند حسن ظن الناس به.
ومنهم من يؤدي به المدح والثناء إلى اعتزال الناس، خوفاً من الرياء والعجب والغرور، وذلك ليس من صالحه ولا من صالح إخوانه، فربما أدى به الأمر إلى فقدان أهم مبدأ من مباديء الإسلام وهو التعاون على البر والتقوى، والإنسان مدني بطبعه، لا يستطيع أن يعيش في معزل عن أبناء جنسه.
من أجل هذا نهى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن المدح في مواطن كثيرة وحذر من مغبته، لكن النهي لم يكن على إطلاقه في جميع الأحوال، بل في ذلك تفصيل، هنا مجال بحثه إن شاء الله تعالى.
اعلم أن الثناء نوع من الشهادة؛ ولذلك ذكر البخاري هذا الحديث في كتاب الشهادات، ولهذا وجب على المرء أن يتثبت مما يقول في الثناء، كما يتثبت مما يقول في الشهادة، فكل كلمة يقولها في حق أخيه مدحاً أو ذماً محسوبة عليه – إما أن يعاقب عليها أو يثاب.
والثناء – أيضاً – نوع من الشكر – كما قدمنا – واعترف بالجميل، وهو شيء يحد صاحبه عليه، بشرط أن يكون هذا الثناء في موضعه من غير مبالغة.
وهناك ثناء يعتبر من باب النفاق والكذب والخداع من أجل الحصول على غرض من أغراض الدنيا، وهذا ممقوت شرعاً وعقلاً وعرفاً.
والممدوح قد يكون أهلاً للمدح والثناء والإطراء، فلا يكون منهياً عنه حينئذ، بشرط عدم المبالغة فيه؛ فإن المبالغة أحياناً تكون نوعاً من الكذب.
وبشرط ألا يترتب على ذلك إحراج الممدوح أو حمله على الإعجاب بنفسه؛ فإن في ذلك هلاك دينه وإحباط عمله.
ولعل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أحس أن المادح قد بالغ في مدحه، وخشى على الممدوح من العجب والرياء والكبر، فنهاه عن هذا النوع من المدح والإطراء إذ غل على ظنه أنه يؤدي إلى قطع عنق صاحبه، فقال له: "وَيْلَكَ"، وهي كلمة زجر لا يقصد بها الدعاء عليه بالويل، فذلك ليس من شأن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مع أصحابه.
والعرب يقولونها على سبيل الزجر والإعجاب – أيضاً - .
وفي رواية قال: "ويحك"، وهي كلمة زجر أيضاً.
ومعنى قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: "قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ مِرَارًا" أخجلته وأحرجته، أو جلبت عليه من الآفات ما يكون سبباً في هلاك دينه.
والمؤمن أحد رجلين في هذا الباب – أحدهما: أن يجد نفسه دون ما مُدِحَ به، فيستحي من الله؛ لأنه أعلم بحاله، وربما يستحي من الناس أيضاً إذا أظهروا الرضا بما قاله المادح، فيأخذ نفسه بما يرفع من شأنها، ويجد في العمل الصالح، ويبادر إلى التوبة والاستغفار، تخلصاً من هذا المدح الذي لم ير نفسه أهلاً له، وكان أبو بكر – رضي الله عنه – إذا مُدِحَ قال – كما رواه البيهقي في الشعب-: "اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون".
والثاني: أن يجد نفسه قد مُدِحَ بما فيه، فيزداد إيمانه بالله؛ فيشكره على نعمة التوفيق، ويشكر الناس على حسن الثقة ويبادلهم حُبَّاً بحب، وثناء بثناءٍ، ويعمل جاهداً على أن يكون مطيعاً لله في سره وعلانيته، مخلصاً له في أقواله وأفعاله.
فالأول: مَنهي عن مدحه في وجهه، والثاني: ليس منهياً عن مدحه في وجهه، بل يكون مدحه من المستحبات؛ شحذا لعزمه على الطاعة، واستنهاضاً لهمته في طلب المعالي، والأمور بمقاصدها – كما يقول علماء الأصول.
وقد أثنى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على كثير من أصحابه وبشرهم بالجنة؛ لحسن إسلامهم وإخلاصهم لله في القول والعمل.
فقد أثنى – مثلاً – على أبي بكر – رضي لله عنه وأرضاه – ثناءً ما أحسنه وأجمله.
خذ في ذلك ما رواه البخاري في صحيحه، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ"، قَالَ: فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خيلاً، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ"
وقد حَمَدَ الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لعمر غَيرته فقال – كما روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا امْرَأَةٌ تَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا القصر؟ فَقَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرْتُ غَيْرَته فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: أَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ".
وبالغ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في مدحه فقال: فيما رواه البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –: "لَقد كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنَّ يَكن فِي أُمَّتِي أحد، فَإِنَّهُ عُمَرُ"
ولا نطيلن القول في ثناء النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على أصحابه هنا؛ فهذ له موطن آخر، ومن أراد المزيد فعليه بكتب السنن والسير.
والذي يعنينا هنا أن نبين مدى حرص النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على سلامة قلب كل من المادح والممدوح من الزيغ والانحراف عن الصدق، الذي هو روح الإيمان وعماده، فقال للمادح بعد أن زجره زجراً لطيفاً معمما النصح له ولمن معه: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ ...إلخ" أي من كان – ولابد – مادحاً أخاه فليقل: أظنه على كذا وكذا من الخير، وأرجو أن يكون محسناً في كذا وكذا، دون أن يقطع بذلك؛ فإن في القطع ادعاء العلم بما قد خفى عليه أمره، فما يدريه أنه كما يقول، فسبحان من أحاط بكل شيء علماً، والله وحده هو الذي إذا مدح زان وإذا ذم شان، فليقف المادح هند حده مع الله بالأدب، وليقل بعد قوله: أحسبه كذا وكذا: "وَاللَّهُ حَسِيبُهُ" أي كافيه حسابه على ما فيه من خير أو شر.
قال تعالى: { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } (سورة النساء: 6)
وقال تعالى: { وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (سورة الأنبياء: 47).
وليقل بعد ذلك مباشرة: "وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ".
ومعنى: "لَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا": لا أقطع على عاقبة أحد ولا على ما في ضميره؛ لكون ذلك مغيباً عني.
وجيء بذلك التعبير بلفظ الخبر، ومعناه النهي: أي لا تزكوا أحداً على الله؛ لأنه أعلم بكم منكم.
وقوله: "إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ" تحذير من القول بغير علم، وذلك قاطع بن القول على الله بغير علم كبيرة من الكبائر.
والمادح إذا قال في مدح أخيه بالظن كان آثماً بقدر مبالغته في المدح والإطراء، وَعُدَّ من الكاذبين أو المنافقين.
والمدح – كما أشرنا من قبل – شهادة، فإذا لم يكن متحقاً من شهادته كان مزوراً، وأنت خبير بأن قول الزور من أكبر الكبائر، وقد مر بك صدق ذلك في حديث سابق.
والمدح – أيضاً – تزكية على الله، وهو أمر يتنافى مع الأدب حتى مع العلم ومع الصدق، فكيف إذا كان مع الظن والكذب!
{ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } (سورة النجم: 28).
والمؤمن صادق اللهجة، قوي الحجة، واضح المحجة، سره كعلانيته، لا يتلون بلونين، ولا يأتي الناس بوجهين.
نسأل الله السلامة والعافية