البحث
جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
3692
2019/12/11
2024/10/07
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: "ارْجِعْ عَلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا".
كانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة على كل مسلم قادر على نفقاتها وتبعاتها، فقد فتح الله بابها بعد بيعة العقبة الثانية للأنصار، وذلك بعد البعثة بثلاث عشرة سنة تقريباً، ولم يغلق بابها إلا بعد فتح مكة حين قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ".
وقد بايعه الأنصار على أن ينصروه إذا هاجر إليهم، ويمنعوه من عدوه كما يمنعون أنفسهم وأبناءهم ونساءهم، فهاجر إليهم بعد أن هاجر كثير من أصحابه.
وقد جاءه رجل يبايعه على الهجرة كما بايعه الكثير من أصحابه، فقال: يا رسول الله، جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ. فهزته هذه الكلمة من الأعماق، وملأت عليه مشاعره، فقال له بوحي من قلبه الكبير: "ارْجِعْ عَلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا".
فماذا يعني قوله هذا؟
والجواب: أن هذه الوصية تعني أمرين متلازمين يترتب على كل منهما آثار كثيرة.
الأمر الأول: أن إرضاء الوالدين مطلب شرعي لا هوادة فيه، وهو مقدم على الجهاد في سبيل الله كما سنبين في هذه الوصية.
والأمر الثاني: أن الهجرة قبل فتح مكة كانت واجبة على كل مسلم بشرط أن يتحلل أبويه من مغبة تركهما والتخلي عن خدمتهما.
ولا شك أن هذا ليس على إطلاقه كما ستبين هنا إن شاء الله.
وقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْجِعْ عَلَيْهِمَا" أبلغ من قوله: "ارْجِعْ إِلَيْهِمَا"؛ لأن الرجوع إليهما يفيد مجرد عودته إلى المكان الذي يقيمان فيه، وذلك يعرف من (إلى) الدالة على الغاية.
أما التعبير بـ(على) فيفيد أمرين هما: الرجوع إليهما والعطف عليهما.
والمعنى: عد إليهما بقلبك وقالبك واعطف عليهما بكل ما تستطيع من أنواع العطف، حتى ترضيهما فيأذنان لك بالهجرة إن شاءا.
وقوله: "فَأَضْحِكْهُمَا" لا يعني الإضحاك في ذاته وإنما يعني إذهاب الحزن عنهما، وتسليتهما بحلو الكلام ومواساتهما بالحكمة والموعظة الحسنة والوعد الجميل، حتى يكفر عن الذنب الذي ارتكبه في حقهما، فقد أبكاهما بفراقه لهما، وكان عليه أن يرضيهما أولاً قبل أن يأتي لمبايعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الهجرة.
ويستفاد من هذه الوصية عدة فوائد:
الأولى: أن من الأدب أن يسترضي الولد والديه في كل أمر يعزم عليه، ولا سيما الهجرة؛ لأنها تبعده عنهما، وتحرمهما من التمتع بوجوده والنظر إليه، وتجعلهما يفكران في سيره ومصيره بحزن وأسى.
ونحن نعلم ما يعانيه الوالدان من فراق ولدهما وبعده عن ساحتهما، فكان لزاماً عليه ألا يهاجر بدون إذنهما واسترضائهما.
ومن الأدب أن يتولي إذهاب حزنهما كلما بدا عليهما الحزن ولا يغفل عن ملاحظة أحوالهما، لأنه مسئول عن أحوالهما النفسية كما هو مسئول عن أحوالهما المعيشية.
فقد أمر ببرهما والإحسان إليهما، والإحسان كلمة واسعة الدلالة تشمل الإحسان المادي والمعنوي.
وهو من أوجب الواجبات عليه إذ أمر الله به عقب الأمر بعبادته، وذلك في مواضع من كتابه العزيز.
فقال جلا وعلا: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } (سورة النساء: 36).
وقال عز شأنه: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } (سورة الإسراء: 23).
وقال عز من قائل: { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (سورة لقمان: 14-15).
ومن تدبر هذه الآيات علم منزلة بر الوالدين وعرف أنها في الذروة العليا من شعب الإيمان بعد كلمة التوحيد.
وهل حكم الجهاد في وجوب استئذانهما واسترضائهما كوجوبه في الهجرة؟
أقول: نعم، بل هو أوجب؛ لأن الجهاد فرض كفاية في أغلب الأحوال، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولهما حق لا ينبغي عليه أن يغفله؛ إذ من الواجب أن يكون في خدمتهما وطاعتهما في غير معصية الله عز وجل.
والحرب أخوف لهما عليه من الهجرة، فكان استئذانهما في أمرها والخروج إليها آكد من استئذانهما في الهجرة.
ويؤيد هذا ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟". قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ".
فقد دل هذا الحديث على أن بر الوالدين مقدم على الجهاد، لأن الأصل في الجهاد أنه فرض على الكفاية- كما أشرنا – ينوب عنه غيره فيه، وبر الوالدين فرض يتعين عليه؛ لأنه لا ينوب عنه فيه غيره غالباً؛ إذ هو من ألصق الناس بهما وأولاهم بخدمتهما ورعايتهما.
وقال رجل لابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إني نذرت أن أغزو الروم، وإن أبوي منعاني، فقال: "أطع أبويك، فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك".
وروى نحو هذا عن عمر وعثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وبه قال الأوزاعي والثوري، وسائر أهل العلم.
ولكن هذا إذا لم يتعين عليه الجهاد، فإن تعين عليه ذهب إليه من غير استئذان، إلا إذا كان ذهابه إليه سبباً في ضياعهما، بأن كانا مريضين أو عاجزين عن الحركة وليس هناك من يقوم بخدمتهما غيره.
وبعد، فإن الإسلام حريص كل الحرص على أن يحصل كل ذي حق على حقه كاملاً غير منقوص.
فللوالدين حق على ولدهما يجب أن يؤديه إليهما في حدود طاقته.
وعلى الوالدين حق لولدهما يجب أن يؤدياه إليه.
وميزان العدل في هذا الدين أن يعطي المرء من الحقوق مثل ما عليه من الواجبات.
فإن تعارض واجبان قدم الأولى منهما. والله أعلم.