البحث
الجـدل
: الجـدل: (أ) مدخل لغوي:
الأصل اللغوي لمادة "جدل" في كل تصرفاتها يدل على إحكام وقوة، قال ابن فارس:" الجيم والدال واللام أصل واحد، وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام " ([1]) وقـال الراغب:" الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله " ([2]).
والمادة تتصرف في استعمالات العرب إلى معاني القوة والشدة كما ذكرت، ولها معان كثيرة نجتزئ منها بالآتي:
1- الجَدْل: شدة الفتل، ويبدو أن هذا هو الأصل اللغوي الحسي للمادة.
2- جدلت البناء: أحكمته، والمِجْدَل: القصر المحكم البناء.
3- الأجدل: الصقر المحكم البنية.
4- ومنه الجدال، فكأن المتجادلين يدافع كل واحد منهما عن رأيه كمن يجدل حبلاً بقوة.
5- اللدد في الخصومة والقدرة عليها، جادله مجادلة وجدالاً.. ورجل جَدِل ومِجْدَل ومِجْدَال: شديد الجَدَل.
6- الجدل: مقابلة الحجة بالحجة.
7- المجادلة: المناظرة والمخاصمة ([3]).
(ب) الجدل: مدخل اصطلاحي:
تولد عن هذا الأصل اللغوي مصطلح الجدل أو الجدال غير مبتعد عن هذا الأصل الحسي دلالةً، فنلحظ في الاصطلاح كذلك معاني الشدة في الخصومة وقد وضع الشريف الجرجاني ثلاثة تعريفات للجدل على النحو الآتي:
1- الجدل: هو القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، والغرض منه إلزام الخصم، وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان.
2- الجدل: دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه، وهو الخصومة في الحقيقة.
3- الجدال: عبارة عن مراء يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها " ([4]).
وقال أبو حامد الغزالي:" وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقّصه بالقدح في كلامه ونسبته إلى القصور والجهل فيه " ([5]).
وقد تطورت صور الجدل والتحاور والمناظرة لتكوّن علماً ذا أصول وقواعد فصار يسمى علم الجدل أو المناظرة، وفي تعريفه قـال ابن خلدون:" وأما الجدل، وهو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعاً، وكل واحد من المناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صواباً ومنه ما يكون خطأ، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آداباً وأحكاماً يقف المتناظران عند حدودها في الردّ والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب، وحيث يسوغ لـه أن يكون مستدلاً وكيف يكون مخصوماً منقطعاً... ولذلك قيل فيه: إنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه، كان ذلك الرأي في الفقه أو غيره " ([6]).
وقال حاجي خليفة في تعريفه:" هو علم باحث عن الطرق التي يُقتدر بها على إبرام ونقض، وهو من فروع علم النظر، ومبني لعلم الخلاف مأخوذ من الجدل الذي هو أحـد أجـزاء مباحث المنطق، لكنه خصّ بالعـلوم الدينية " ([7]).
وثمة تشابه كبير بين مباحث علمي الجدل والمناظرة، مما دعا بعضهم إلى اعتبارهما شيئاً واحداً، كما قال حاجي خليفة:" ولا يبعد أن يقال: إن علم الجدل هو علـم المناظرة لأن المآل منهما واحـد، إلا أن الجـدل أخص منه" ([8]).
ولهذا السبب - أي ما يبدو فيه من الخصومة - ورد عن بعض العلماء النهي عنه، كما ذكر حاجي خليفة:" وعن بعض العلماء: إياك أن تشتغل بهذا الجدل الذي ظهر بعد انقراض الأكابر من العلماء ؛ فإنه يبعد عن الفقه ويضيع العمر ويورث الوحشة والعداوة، وهو من أشراط الساعة، وكذا ورد في الحديث.. قلنا: والإنصاف أن الجدل لإظهار الصواب على مقتضى قوله تعالى] وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ (النحل:125) لا بأس به وربما ينتفع به في تشحيذ الأذهان، والممنوع هو الجدل الذي يضيع الأوقات، ولا يحصل منه طائل" ([9]).
[1] - أحمد بن فارس: المقاييس:204.
[2]- الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن:89، دار المعرفة - بيروت د.ت.
[3]- انظر: جمال الدين بن منظور: لسان العرب: جدل.
[4]- الشريف الجرجاني: التعريفات: 74- 75.
[5]- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين: 3/168، مكتبة الإيمان بالمنـصورة 1417هـ - 1996م.
[6]- عبد الرحمن بن خلدون: المقدمة: 422، ط دار الشعب، القاهرة د.ت.
[7]- حاجي خليفة: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: 1/ 579، المكتبة الفيصـلية، مكة المكرمة د.ت.
[8]- نفسه: 1/ 580.
[9]- نفسه: 1/580.