البحث
قصة إسلام الدكتور جفري لانج Jeffery Lang
هذه القصة الرائعة إختصرتها من كتاب المؤلف نفسه الدكتور جفري المترجم إلى العربية، وهو كتاب ضخم عدد صفحاته 363صفحة، وكان سبب تاليفه له سؤال إبنته: لماذا أصبحت مسلماً ياأبي؟
فكان هذا الكتاب ثمرة تلك الإجابة، إنها لم تكن مذكرات عابرة دونها الكاتب في مفكرته التي تحتوي سجل ذكرياته، بل كان عصارة فكرنجم عن بحث وتنقيب حثيثين، ولجفري ثلاثة بنات وهو متعلق بحبهنَّ حباً شديداً، إنه فعلا الأب الذي ملىء قلبه الشفقة والرحمة بهن، حقاً إنَّ في هذا الكتاب الرائع وقفات لابد من التأمل عند قرائتنا له، ولكن من أجل أن أختصر الطريق للقارىء الكريم؛ إختصرت له ما هو مهمٌّ منه، لأنني على يقين أن كثيراً من القراء الكرام لا يقرأون مثل هذا الكاتب الضَّخم، وقد يقرأون بعض الصفحات، ويتركون ما هو أهم، إما لعدم إدراكه للتعابير الأدبية الصعبة، لأنَّ الكتابَ قد تُرجم إلى اللغة العربية بأُسلوب أدبي عال
وفوق مستواهم الثقافي، لذا إخترت منه ما هو سهلٌ، وبالمستوى الذي يتناسب مع المستوى الثقافي العام للقراء.
يقول الدكتور جفري لانج مؤلف الكتاب: سالتني إحداهن وكأنها تستجوبني: لماذا أصبت مسلماً ياأبي؟
أي جواب تستطيع براءتهن أن تستوعبه؟.
حدَّقت كل منهن بي بهدوء، وكأنه كان الوقت كله لانتظار الشرح.
وربما جئن لا ليفهمن، بل ليسالن وليبدأن بعملية فحص الذات.
قلت في نفسي: لا، لابد أن سؤالهن كان أكثر خصوصية من ذلك، أتذكر عندما سالتُ والدي مرَّة لماذا أنت كاثوليكي؟
فقد كان سؤالي ليس فضول، بل نتيجة لبحثي شخصياً عن تعريف لنفسي، وعندما أصبحت مسلماً لم آخذ في حسابي عدد الخيارات التي كنت أضعها لا لنفسي فقط، بل لبناتي الثلاث، ومن بعدهن لأولادهن طبعاً.
لقد أردن أنْ يعرفنَ لماذا قمت باتخاذ ذلك القرار؟ لأن هذا القرار قد اتخذته من أجلهن وإخالهن سوف يتوصلن إلى تفهيم له في مستقبل حياتهن.
إنَّ الأبَ يجدُ طمأنينة خاصة مع علاقته مع بناته، فمن خلال طبيعتهن الأُنثوية يستطيع الأب أن يصل إلى ما وراء حدود جنسه، وتفتح أمامه عوالم من المشاعر والعواطف أكبر مما تسمح به حياته العامة، فهنَّ يكملنه ويعدن إليه توازنه، ليس إناثاً بل أولاداً، لأنه يرى فيهنَّ إكمالاً لشخصيته، فالسؤال: لماذا أصبحت مسلما؟ له أهميته الخاصة لديَّ عندما يصدرعن بناتي، ذلك أنه يعود في الأصل لي، إنه صوتي المكمّل في حقيقته النقية الطاهرة الذي يستنطقني لقول الحق. شرحت لهن الإجابة باختصار قدر المستطاع، ولكن لم أحسم الأمر معهن ّ، ذلك أني أردت أن ابقي الباب مفتوحاً لمزيد من تسؤلهن، ولكن سؤالهن هذا هو الذي دفعني لكتابة هذا الكتاب، الذي بدأ على شكل ملاحظات ناجمة عن التفكير بسؤالهن كل ليلة.
الدكتور جفري لانج يقص رؤياه المنامية لبناته وهو طفل صغير
يقول الدكتور جفري لانج: أنه رأى في المنام: غرفة صغيرة ليس فيها أثاث، ما عدا سجادة نموذجية، الوانها الأساسية الأحمر والأبيض، كانت تغطي أرض تلك الغرفة، ولم يكن هناك أي شيء من الزينة على جدرانها الرمادية – البيضاء، وكانت هناك نافذة صغيرة واجهة لنا تملأ الغرفة بالنور الساطع، كنا جميعاً في صفوف، وكنت أنا في الصف الثالث، وكنا جميعاً رجالاً من دون النساء جالسين على أقدامنا مواجهين للنافذة. كنت أشعر بالغربة إذ لم أكن أعرف أحداً منهم، ربما كنت في بلد آخر، وكنا ننحني على نحو منظم، ووجوهنا تقابل الأرض، وكان الجو هادئاً وساكناً، وكأن الأصوات جميعاً قد توقفت، وسرعان ما كنا نعود للجلوس على أقدامنا، وعندما نظرت إلى الأمام أدركت أن شخصاً ما يؤمّنا، وكان بعيداً عني من جهة الشمال، وفي الوسط تحت النافذة تماماً كان يقف بمفرده، وكنت المح على نحو بسيط ظهره، وكان يرتدي عباءة بيضاء طويلة، وعلى رأسه لفحة بيضاء عليها رسم أحمر، وفي تلك الأثناء كنت أستيقظ من نومي، رأيت هذا الحلم القصير نفسه عدة مرات خلال الأعوام العشرة التالية تقريباً...
وفي البدء لم يكن ذلك ليعني لي أي شيء على الإطلاق، ولكني أصبحت أعتقد فيما بعد أن لذلك دلالة دينية، ولم يكن هذا الحلم ليزعجني، بل كنت أشعر بارتياح غريب عندما كنت أصحومن نومي إثره...
مأساة في الطريق
لقد تصادف الحلم الأول مع إقصائي من دروس التربية الدينية إما قبل ذلك أو بعده بقليل على ما أذكر، وقبل ذلك الفصل الدراسي لم يكن لديَّ أيّ شكوك حول معتقدي، فلقد عُمّدت وأنشئت، وأرسلت إلى المدرسة، ومنحت تثبيتاً دينياً على أنني كاثوليكي...
فقد كانت الكاثوليكية " الديانة الوحيدة الصحيحة " – على الأقل في جنوب ولاية كونّيكتيكت Connecticut... وباستثناء عدد قليل من اليهود، فقد كان أصدقائي وجيراني وأقاربي وأصحابي جميعاً من الكاثوليك، ولكنّ أمراً واحداً قادني إلى شيء آخر... لقد كانت بداية سنتي النهائية في مدرسة نوتردام الثانوية للذكورعندما قرر مدرس التربية الدينية، وهو كاهن متمرِّس حقاً، بأن الله موجود حقاً، وهكذا فقد حاول أن يثبت ذلك من خلال مناقشته للأسباب الأولى للوجود... ولقد كنت طالباً مجداً في الرياضيات، وكنت من المولعين بالمنطق الرياضي، وهكذا لم أستطع كبح الجماح من أن أتحدى نتائجه، وكانت فكرتي ببساطة تتمثل في أنَّ الشرح ليس برهاناً كافياً، وأن وجود الكائن الأسمى - إن جازت التسمية – فقد يفسِّر وجودنا وإدراكنا الأعمق للذنب والخطأ والصواب، وما إلى ذلك ولكن لا بد من وجود شروحات بديلة كتلك التي نتعلمها من العلم، على الرغم من أني يجب أن أعترف أن هذه الشروحات قد لاتكون كافية، فعلى حين ما تزال الديانات تتخبط في تعارضاتها مع العقل، فإن العلم يبدو وكأنه يتقدم بثبات نحو إيجاد حلول غير منقوصة، فمناقشة علم الوجود ليست برهاناً كافياً على وجود الله طالما أننا نستطيع القول بأن للإعتقاد الكبير بوجود الله جذوره في الخوف والجهل الكبيرين، وهذه هي حالة الإنسان العصري، خاصة أولئك الذين يعملون في الأكاديميات.
وخلال الأسابيع القليلة التي تلت ذلك، كنا نناقش في حلقات، وكنت أحظى بتأييدِ العديد من زملاء صفي لوجهة نظري... وعندما وصلنا إلى طريق مسدود محرج، نصحنا المدرس (الكاهن) أنا وزملائي الذين شاطروني الرأي، بأن تغادر الصف، وال نعود إليه حتى تغير وجهة نظرنا، والا فإنه سوف يضع لنا في المقرر علامة الرسوب.
وبعد عدة ليال تلت وعلى العشاء، فكّرت أنه من الأفضل لي أن أشرح لوالديَّ، لماذا سوف أرسب في مقرر التربية الدينية.
صعقت والدتي للخبر، وغَضِبَ والدي فصَرخ بي قائلاً: ((كيف لا يمكنك أن تؤمن بالله؟))
ثم إنه جاءني بإحدى نبوءاته التي كان يؤمن أنها سوف تتحقق، وقال لي: ((سوف يذلّك الله ياجفري! ولسوف يخزيك لدرجة تتمنى فيها أنك لم تخلق أبدا ً)) ولكن لماذا؟ هل لمجرد أني لم أستطع الإجابة عن أسئلتي؟
وهكذا فقد أصبحت ملحداً في نظرالعائلة والأصدقاء، وزملاء الصف، والغريب عند هذه المرحلة من الزمن، هو أنني لم أتخلّ عن إيماني بالله، وكل ما في الأمر هو أنني كنت فقط أتابع خطّ نقاشٍ لا لشيءٍ الا لمجرد النقاش...
فلم أُصرح قطُّ أنني كفرت بالله، ولكن ما قلته حقاً هو أني وجدت البراهين التي قدمت في درس التربية الدينية غير ملائمة...
ومهما يكن فإني لم أرفض هذا اللقب الجديد، لأنَّ المشاحنة تركت أثراً كبيراً فيَّ.... ثم أدركت أني لست متأكداً مما كنت أؤمن به أو لماذا؟.
لماذا سلك جفري طريق الالحاد في بداية الأمر؟
يقول جفري: وخلال الأشهر القادمة كنت أتحدى في ذهني مسالة وجود الله، ولقد كان من روح عصرنا أن نشك في مؤسساتنا حتى الدينية منها، فقد كنا جيلاً تربّى على عدم الثقة، ففي مدارسنا الإبتدائية كنا ندرّب جسدياً على الغارات الجوية، وخلال ذلك كنا نهرع للقبو خشية الغبار الذري المتساقط. ولقد كانت أقبيتنا مزودة بالمؤن تحسباً لمثل هذه الطوارىء، وأبطالنا، الإخوان كندي Kennedy brothers ومارثن لوثر كنغ Martin Luther King، Jr، ثم اغتيالهم والاستعاضة عنهم بقيادة كان من شأنهم في النهاية أن يرغموا على الذهاب إلى المنفى السياسي والإهانة. وكان هناك مشكلات عرقية وحرائق وسلب ونهب خاصة في المدن الصناعية كمدينتي... وكنا نشاهد الضحايا على شاشة التلفازكل مساء، ولقد كان هناك خوف دائم من أن أحداً ما سوف يؤذيك، وخوف من شيءٍ ما لم تكن لتعلمه.
إن فكرة أن الله خلق الدنيا على هذه الحالة، وفوق ذلك سوف يعاقبنا في النهاية جميعاً، ما عدا نفراً قليلاً منا، كانت أكثررعباً وسيطرة على عقولنا، من فكرة الا نؤمن بالله على الإطلاق. وهكذا فقد أصبحت ملحداً في سن الثامنة عشرة من عمري.
الحرية الموهومة في حياتي
في البدء شعرت بالحرية، لأن رؤيتي الجديدة حررتني من الفوبيا، (الإرهاب والهلع) ومن أن أحداً ما كان يعبث بأفكاري وأوهامي ويلعنني، فقد كنت حراً لأعيش حياتي الخاصة بي وحدي، ولم يكن لديَّ ما يدعو للقلق من إجل إرضاء أهواء قوة فوق بشرية، وكنت فخوراً إلى حد ما بأنني كنت أمتلك الجرأة لتمّل مسؤلية وجودي، وأملك زمام نفسي. شعرت بالأمان فيما يختص بمشاعري وبمداركي، وكانت رغباتي طوع إرادتي بعيدة عن سيطرة أو مشاركة الكائن الأسمى أو أي شخص آخر. لقد كنت مركزعالمي الخاص بي وخالقه ومغذيه ومنظمه، وأنا الذي كنت أققر لنفسي ما كان خيراً أو شراً، صواباً أو خطأً.
لقد أصبح اله نفسي ومنقذها، ولكن هذا لا يعني أنني أطلقت العنان لنفسي أو أصبحت جشعا تماما، بل على العكس أصبحت أؤمن أكثر من أيّ وقت مضى بالمشاركة والرعاية والإهتمام. ولم يكن الدفع لإيماني لعملي هذا هو الحصول على أي ثواب مستقبلي، بل كان في هذا الأمر أني كنت أشعر بحب إنساني جوهري حقيقي. إننا نؤمن بالحب على أنه أسمى المشاعر الإنسانية، وسواءً أكان هذا الحب ناجماً عن التطور أو عن المصادفة، أو منفعة بيولوجية بيئية، فإن ذلك لا يهم كثيراً، لأن الحب هو شيء حقيقي كأي شيء آخر، وهو الذي يجعلنا سعداء، لأنك عندما تمنح الحب، فإنك في المقابل تتلقى الخير في الحال.
إن السفر بعيداً للالتحاق بالجامعة ليس هو الشيء عينه عندما تغادرالوطن هذا يعني ببساطة أنك لن تعيش مع والديك بعد الآن... إنها مرحلة التحول من التبعية إلى الإستقلال، الأمر الذي يزودك بالزمان والمكان الملائمين بحيث تكون بمأمن لكي تختبر آراءك. وسرعان ما تعلمت أن لا أحد يعرف الوحدة كالملحد...
فعندما يشعر الشخص العادي بالعزلة فإنه يستطيع أن يناجي من خلال أعماق روحه الواحد الأحد الذي يعرفه، ويكون بمقدوره أن يشعر بالإستجابة، ولكن الملحد لا يستطيع أن يسمح لنفسه بتلك النعمة، لأن عليه أن يسحق هذا الدافع، ويذكِّر نفسه بسخفها، لأنَّ الملحد يكون اله عالمه الخاص به، ولكنه عالم صغير جداً، لأن حدود هذا العالم قد حددتها إدراكاته، وهذه الحدود تكون دوماً في تناقص مستمر.
إن الرجل المؤمن يمتلك إيماناً بأشياء تفوق إحساسه أو إدراكه، في حين أن الملحد لا يستطيع حتى الثقة بتلك الأشياء. وعنده ليس هناك من شيء حقيقي تقريباً ولا حتى الحقيقة ذاتها.
إن مفاهيم الملحد عن المحبة والرحمة والعدالة هي في تحوّل وتبدّل حسب ميوله ونزواته مع الشعور بنفسه وبمن حوله أنهم جميعاً ضحايا لمسالة عدم الإستقرار، وتراه منهمكاً في نفسه يحاول الحفاظ على وحدتها واتزانها، وبالتالي يسعى لجعلها ذات معنى.
وفي الوقت ذاته عليه أن يقبل بالقوى الخارجية التي تنافس قواه، تلك هي العلاقات الإنسانية التي تتطفل على عالمه، ولكنه لا يستطيع كبح جماحها فالملحد يحتاج للبساطة والعزلة والإنفراد، ولكنه يحتاج أيضاً أن يمدَّ نفسه فيما وراء نفسه.
إننا جميعاً نصبو للخلود، وبمقدورالمؤمن أن يتخيل السبيل لتحقيق ذلك، أما الملحد فإن عليه أن يفكر بالحل الآن، وذلك ربما عن طريق الزواج وإنشاء أُسرة، أو تاليف كتاب أو إنجاز إختراع ما أو عمل بطولي أو رومانسي، بحيث يعيش في أذهان الآخرين.
إن هدف الملحد الأسمى ليس الذهاب للجنة، بل أن يذكره الناس، ومع ذلك عليَّ أن أسال: ما الفرق بين هذا وذاك في النهاية؟
إن الإنسان يطمح للكمال، وهذا مطلب ذاتي داخلي، يحثنا دون مناص على العمل... هل سأصبح رياضياً عظيماً أو عداء عالميا أو طباخاً أو إنساناً أو والداً يوماً ما؟
فالملحد لا شيء يشبع حاجاته، لأن عقيدته تخبره أنه ليس هناك شيء كامل أو شيء مطلق. وليس أجمل من الإستقرار، ولذا فقد اتبعت النماذج الإجتماعية المجرّبة، لا لأني أقدرها عالياً بل لأنها فعالة ومفيدة.
زواجه ورحلته إلى لافاييت الغربية (إنديانا) Lafayette
Westلكي نتابع دراستنا في جامعة بوردو. Purdue University وعلى الرغم من أنّا كنا حديثي عهد بالزواج، الا أننا اتفقنا على ان هذا الزواج ليس التزاماً دائماً، بل بمقدورنا ان ننهيه بمودة إذا ما بدت لأحدنا أو كلينا فرص افضل. أما في ذلك الوقت، فقد كان الزواج ذا منافع عملية من المؤكد أنا كنا أصدقاء، ولكن دون عواطف، وكما كان متوقعاً فقد افترقنا بعد ثلاثة أعوام على علاقات طيبة... ولدهشتي حزنت كثيراً، ليس لانني فقدت حب حياتي، او احداً ما لا استطيع العيش من دونه، إنما كنت اخشى أن أواجه نفسي وحيداً ثانية. ولكن عندما فكرت بذلك ملياً أدركت اني كنت دوماً وحيداً سواء اكنت متزوجاً أم عزباً، فخلال ثلاث سنوات من الزواج، كنت دوماً اترقب مجيء هذه اللحظة، ولقد كانت زوجتي زوجةً رائعة، لكن لم يكن هناك متسع لاي شخص آخر في حياتي. ففي اليوم الذي غادرت فيه – وهي التي اثارت موضوع الطلاق– أدركت بجديةٍ قاسية أن عالمي قد اصبح سجناً أو مكاناً لاختبىء فيه، ولكنني لم اكن اعلم مم كنت احاول الهرب، حقاُ انه ليس من السهل أبداً ان تصبح الهاً...
في تلك اللحظة شعرت بحاجة ماسةٍ لأن اثور، أردت انْ اكونَ أي شيء لكلِّ الناس، ونظرة الناس الي كانت تعني لي الشيء الكثير، على الرغم من انني كنتُ أُصرُّ أنها لاتعني شيئاً...
إننا جميعاً لدينا الرغبة لكي نعلل وجودنا، وإذا لم يكن هناك من شخص آخر يقدر حياتي إذاً ماقيمة هذه الحياة؟
وإذا لم يكن لهذه الحياة أي قيمة فلم الحياة إذاً، ولكن على الأقل كنت مولعاً بالرياضيات، ولذا فقد عزمت على انهاء الدراسة، وخلال العامين التاليين كان لي بعض العلاقات العاطفية، وهذه كانت مدة كافية لأختبر الحب، ولكن غيركافية كي تؤدي إلى ارتباط رسمي (زواج)، ثُم إن شيئاً غريباً حصل لي...
كنت قد دافعت لتوي عن أطروحة الدكتوراه، وكنت انتظرخارج الغرفة بينما كانت اللجنة الفاحصة مجتمعة لاتخاذ القرار.
لقد امضيت خمس سنوات من العمل على أحرمن الجمر، وفجأة فتح أحدهم الباب ليحييني بالكلمات " مبارك يا دكتورلانغ لقد نجحت "، ولكن بينما كنت عائداً إلى شقتي بدأت فرحتي بالتلاشي، وكنت كلما حاولت أن استرجاعها غمرني مزيد من الشعور بالسوداوية وخيبة الامل والمرارة. لقد تذكرت كيف نكبر على العيد (عيد الميلاد)، عندما نحاول جاهدين ان نسترجع إثارات الطفولة، ولاكننا لانستطيع ذلك لاننا لم نعد اطفالاً. اعتقدت ان الحياة قد تكون عبارة عن سلسلة من الاعلانات التلفزيونية، وربما يكون هذا هو السبب الذي يجعلنا تواقين للاشياء التافهة جداً... إننا نخدع أنفسنا عندما نعتقد أن غايتنا في الحيلة تحتوي على بعض القيم الحقيقية، وفي الحقيقة ما نحن سوى نوع اخرمن الحيوانات تحاول ان تعيش، هل هذا هو كل مافي الحياة، نجاح مصطنع يليه الآخر وهكذا.؟ بدأت افكر بكل شئ ثانية ً.
عندما تخرجت من الجامعة كان الوقت كانون الأول 1981، وبقيت في الكلية محاضراً ادرس لفصل آخر، بينما كنت ابحث عن عمل. فقد خلقت مدينة لافاييت الغربية للتأمل، ولم يكن هناك شيء أخر يمكن عمله فيها. لقد كانت مدينة طلابية صغيرة، تصبح خاوية عندما يغادرها الطلاب لقضاء إجازاتهم. واكان فيها العديد من المطاعم تقدم الطعام السريع، وداران للسينما وبعض الكنائس، وثلاثة اماكن لغسيل الملابس، وبعض مخازن البقالة الكبيرة. كانت مدينة اشبه بالقرية تحيط بها المزارع، وكنت أسير عدة أميال على طول طرقاتها عبرالثلج العميق، ولقد كان ذلك الشتاء ابرد شتاء صادفته في حياتي، لقد كان بحر الثلج هادئاً على نحو جذّاب عندما بدأت امحِّص افكاري. لم استطع نسيان تلك الفتاة الشابة التي جاءت إلى مكتبي تطلب المساعدة. وعندما فتحت الباب وجدت قبالتي هذه المرأة الغامضة التي بدت وكأنها من الشرق الأوسط. كانت مغطاة بالثياب السود بشكل كامل، من رأسها إلى قدمها، بالرغم من أن وجهها ويديها كانت مكشوفة. لقد طلبت مساعدتي في الجانب النظري من حقل دراستها وقالت: إن أستاذها أرشدها الي، وافقت على مساعدتها، وسرعان ما تحطمت الصورة التي كنت قد كونتها مسبقاً عن النساء العربيات.
لقد كانت طالبة دراسات عالية في الرياضيات، ولقد افترضت انها مادامت تشاطرمكتباً كمكتبي، مع معيدين آخرين، فلا بد انها معيدة بدورها، ولكني لم استطع تخيُّلها، وهي تقف بتلك الملابس أمام صفٍّ من سكان انديانا الاصليين، ذوي الاصول الجرماني، ولكن في الوقت نفسه كان لها وقار واتزان جعلاني اشعر بالخجل من نفسها.
وجدت نفسي محاولاً عدم التحديق بها على الرغم من أن وجهه كان يشبع بالجمال والبراءة، وعلى الرغم من أنني أرشدتها في دروسها مرتين فقط الا أني شعرت بالحاجة للتحدث معها ثانية، ولم أكن متأكداً إن كان شعوري فضولاً أم افتتاناً، ربما الإثنين معاً. لقد كان في داخلها قوة لطيفة وجمال أردت التعرف عليها بشكل أكبر، أصبح عندي الآن إهتمام كبير في ديانات أخرى، وبدأت أكون صداقات أُخرى حميمة مع أناس غرباء من مصر والهند والباكستان واليابان والصين، وحتى تلك اللحظة كنت دوما أعتبر المنظر العام للأنظمة الدينية المختلفة دليلاً إضافياً ضد مسالة التوحيد. ولكني وجدت أن المعتقدات الأساسية متشابهة إلى حد كبير، وأما الإختلاف فإنه يقع فقط في الرموز والطقوس والمعبود، فكَّرت أنه ربما كان هناك روح أو طاقة أو قوة خارقة تتخلل وجودنا، ومن الطبيعي أن رموزالتعبير عن ذلك لإدراك تحددها الثقافة التي ينشأ المرء فيها، وهذا بدوره يؤدي إلى تباين الآراء مادمنا نشكل ونتشكَّل حسب ثقافتنا، لذا فكرت أنه ربما كان من الأفضل لي أن أعود إلى جذوري الدينية.
وخلال الصيف عدت إلى وطني كونيكتيت لقضاء ستة أسابيع، ولقد سرَّتْ أُمي كثيراً، على الرغم من أنها لم تندهش تماماً، عندما طلبت أن أُرافقها وأبى للصلاة في الكنيسة يوم الأحد. لقد كان هناك إشارات كافية في رسالتي ومكالماتي الهاتفية لهما إلى أنني كنت أبحث عن الحقيقة.
كنت أقف خلف الكنيسة، كما كان يفعل والدي يوماً، وكنت أصغي باهتمام للخطبة،، على كل فإن الكلمات لم تكن لتصلني، فقد بدا وكأن الكاهن كان يتكلم مع شخص آخر، لقد كان يتكلم لن كان عنده الإيمان مسبقاً. وحتى أُمي وأبي لم يبدوانهما مصغين له كعادتهما على ما أذكر. ولكن لابدَّ أنّ هناك شيئاً ما يثيرهما في ذلك التجمع، والا لما حضرا لمن الأمر كان مختلفاً معي تماماً، فعندما كنا نخرج لأكل الفطائر بعد القداس كان والدايَّ يتشاطران خبراتهما الشَّخصية وعدم رضائهما، وشكواهما بي، فهمت أنهما كانا يحاولان مساعدتي، وكنت أُحبهما من أجل ذلك، ثم إني حضرت معهما القداس للآحاد الثلاثة التي تلت، ولكن شقَّ عليَّ على أن أخبر أمي في الأحد التالي من أني لن أذهب معهما للكنيسة، ولم أستطع حتى مواجهتهما، وأدرت ظهري لها عندما جاءت لتوقظني قائلاً: إن الكنيسة ليست لي ياأُمي، كان هناك صمتٌ قصيرٌ، ربَّما كانت تفكِّربطريقة لتشجعني، وربما كانت تريد أن تخبرني بأن أُعطي الكنيسة المزيد من الوقت في التفكير، وأن من السذاجة الإفتراض بأن ثلاثة قداسات قد تكون كافية لكي يصبح المرء مؤمناً.
وأخيراُ قالت أمي: حسناً يابني، وغاصت الكلمات في يأسٍ وإذعان ينتابها حب الأم الرؤوم والمها على ولدها الذي يتالم وهي قادرة على مساعدته. لقد أردت أن أنهض من فراشي وأُعانقها وأعبرعن أسفي لها، ولكني لم أستطع حتى أن التفت اليها... وقفت صامتة قرب سريري لحظة أخرى، ثم سمعت خفق نعليها وهي تغادر الغرفة...
وفي مدينة سان فرانسيسكو الكبيرة San Francisco كانت فرصتي أكبر كي أبدأ من جديد، لأن الأماكن الجديدة تقدم دوماً فرصاً جديدة، وكونك مجهول الهوية هنا يجعل بمقدورك أن تقوم بأشياء غير متوقعة أو مختلفة. ولقد اخترت جامعة سان فرانسيسكو على الرغم من أن أساتذتي كانوا قد نصحوني بأن أعمل في مكان آخر، ولم أكن واثقاً، لماذا اخترت هذه الجامعة مع أنها ليست مركز بحوث، ولم أكن لأحب المدن الكبيرة؟. وعن بداية الفصل الدراسي كانت حياتي مثيرة وفوضوية، لأنني قررت أعيش ليومي والأ أتمسك كثيراً بالماضي أو المستقبل.
لقد كان رائعاً أن أعيش بمرتب جيد بدلاً من حياة الطالب التقشفية التي كنت قد اعتدت عليها في الماضي، كنت على وشك البدء بمحاضرتي عندما دخل من الباب الخلفي للصف شاب وسيم جداً بدا وكأنه أميرعربي. لقد كان طويلاً ونحيلاً، وقد كان يرتدي ثياباً تنم على ذوق رفيع جداً. لقد لفت انتباه الصف جميعه، وربما اعتقدت أنهم سوف يقفون من أجله. يبدو أن الجميع كانوا يعرفونه، وفي طريقه إلى مقعده، كان يومىء لبعض معارفه بالإبتسامة، وللبعض الآخربإشارات لطيفة مؤدبة، وكان هؤلاء بدورهم يضحكون له لدرجة أن مزاح المجموعة تغيَّر، كانت محاضرتي تتعلق بالبحث الطبي، وطلبت من الصف، إن كان أحد ما يريد المشاركة بالدرس، وما كان لأحد أن يرفع يده سوى ذاك الشاب الجالس في آخر الصف والذي افترضت أنه أمير عربي. لقد قام بإيضاح المسالة برمّتها واثقاً من نفسه على نحو كبير، ومتحدثاً بلغة إنكليزية تامة، ولكنها متأثرة قليلاً باللهجة البريطانية.
- سالته: ما اسمك؟
- فأجاب محمود قنديل
- قلت له: يبدو أنك تعرف الكثير عن الطب، هل هومجال تخصصك؟
- أجاب: لا، ولكنني صادف أن قرأت عن هذا الموضوع في مجلة طبيبة بالأمس.
شكرته على مشاركته في الصف، وشجعته على دراسة الطب قائلاً له: من الآن فصاعداً سوف أُناديك يادكتور قنديل، فتبسم بلباقة كنت أتقدم على محمود بخمس سنوات من العمر، لكنه كان أكبر ضلاعة مني في معرفة العالم، فلقد أخذ عليّ نفسه العهد كي يعرِّفني مدينة سان فرانسيسكو، كان الجميع يعرفه، أو بالأحرى مفتوناً به، من المحافظ إلى قائد الشرطة إلى نجوم الروك، إلى تجار المخدرات إلى أُناس الشارع، لقد كان سخياً إلى درجة كبيرة، وكان بمقدوره أن يجعل من الإنسان الوضيع شخصاً مهماً، لقد كان انفتاحياً، لكنه في نفس الوقت متواضع.
لم يكن على المرء أن يخفي شيئاً عن محمود، لأنه كان يقبل الناس على سجيتهم، ويتمتع بمهارة عالية في التعامل معهم، وكان بمقدوره أن يكتشف جروحك ويجعلك تنساها ولو آنياً...
وكان فاتناً وساحراً ومن المستحيل مجاراته.
لقد ذهبت معه إلى كل مكان، وفي كل مكان كانت الفتيات تحبه بالقبل على وجنتيه...
لقد كان عالماً لم أرَ مثله في حياتي، عالماً مؤلفاً عالماً في أفخم السيارات، وأزهى الثياب، وأجمل المجوهرات، وأرقى المطاعم، وأشهى الوجبات عالماً في اليخوت، والدبلماسيين وأصحاب المقامات الرفيعة والصاحبات والشمبانيا والديسكوهات، ذلك العام الذي يمهد له السبيل عند الثريات من الطبقة الوسطى لقضاء ليلة في منازلهن، أو لتناول الإفطار كما كنا يقلن.. لقد كان عالماً فاتناً براقاً يلتمع كالجليد من جميع اتجاهاته، يقوم بأدوار قل أن تناسبه، والجميع فيه حرصون على الإستماع بحياتهم، والا يفوتهم شيء من اللذة...
وعلى الرغم أن محمود أدى الدورببراعة، الا أنه لم يكن ممن ينتمون إلى ذلك المجتمع أيضاً.
فمن حيث الجوهر، كان محمود طبيعته شاباً بسيطاً ومتواضعاً وكريماً، وكان سر جاذبيته يكمن في براءته وإخلاصه وصبيانيته، ولم تؤثر مدينة سان فرانسيسكو في صفاته الا قليلاً...
ولم أكن الشخص الوحيد الذي كان قد فقد شيئاً ما، فمحمود بدوره كانت له الامه... فلو لم تكن لمحمود الامه لما أراح الكثيرين من الامهم وكم كنت أرجو له أن يلقى الشيء الذي فقده...
قدمني محمود لأفراد عائلته... ولم يكن واضحاً في الحال أنهم اتخذوني صديقاً، ولكنهم من المؤكد أخبروني عن أنفسهم أكثر مما أخبرتهم عن نفسي...
كان محمود الإبن الأكبر وهو في موقع المسؤولية في هذه الأسرة السعودية، وكان أخوه عمر طالباً لامعاً في الفيزياء في جامعة كاليفورنيا بيركلي California Berkeley كان عمرشاباً طويلاً وقوياً، يحمل الدرجة الثانية من الحزام الأسود في رياضة التايكوندو Tae Kwon Doe وكانت نظرته حادة لدرجة أنه يبدو كأنه غضبان إن لم يكن يتبسم، لكنه عندما كان يتبسم كعادته، يبدو إنساناً رقيقاً ومطمئناً.
أما أُختهم راجية، وهي أيضاً طالبة في جامعة سان فرانسيسكو، فكانت مثال الطيب..أما عروس محمود المستقبلية فهوازن، وكانت ذكية وفطنة. كان والد محمود قد توفي عندما كانوا أطفالاً، وكان واضحاً من تذكرهم إياه أن جروحهم العاطفية لما تندمل، أما أُمهم فهي تعيش في السعودية وحدها، يحيط بها العديد من الخدم. إن الأوقات التي قضيناها معاً سواء في التنزهات أو الرحلات إلى منطقة الشاطىء، أو تناول الغداء في شقتهم لحظات سعيدة جداً في حياتي لم أعش مثلها منذ زمن بعيد...
لم نتناقش بالدين كثيراً، وعندما كنا نفعل ذلك إنما كان استجابة لتساؤلاتي في معظم الأحيان... لم أحب أن أكون لحوحاً في أسئلتي، لأنني لم أرد أن يؤثر ذلك في صداقتنا. وكنت أدرك أنهم كانوا يبادلونني الشعور نفسه ولكنني دهشت عندما أهدوني نسخة مع بض الكتب عن الإسلام.
فقد عرفت حينئذ أنهم كانوا متمسكين بدينهم. ولكن طريقة عيشهم لم تكن دينية كثيراُ، على الرغم من أني لم أجدهم يهتمّون بشخص آخر فقط.
تسائلت في نفسي، من فيهم أراد إهدائي ذلك الكتب؟ فعمر كان روحانياً، وراجية عاطفية، ومحمود يعرفني جيداً.
تسائلت أيضاً: هل كان يبدو عليّ الحزن؟
على كل حال تلقيتها هدية ومشاطرة لشيءٍ ما شخصي، وفي المقابل فإن عليّ أن أقرأها وأُحاول فهمها، وإذا ما اتخذتَ القران بجدية، فإنك لا يمكنك قرأءته ببساطة، فإما أن تكون لتِّكَ قد استسلمت له، أو أنك ستقاومه، فهو يحمل عليك، وكأن له حقوقاً عليك بشل مباشر وشخصي، وهو يجادلك وينتقدك ويخجلك ويتحداك، ومن حيث الظاهر، يرسم خطوط المعركة...
ولقد كنت على الطرف الآخرفي المواجهة، ولم أكن في وضع يحسدعليه إذ بدا واضحاً أن مبدع هذا القران كان يعرفني أكثرمما كنت أعرف نفسي.
لقد كان هذا القران يسبقني دوماً في تفكيري، ويزيل الحوجز التي كنت قد بينتها قبل سنوات، وكان يخاطبني تساؤلاتي.
وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي، ولكني كنت إلى حدما أكتشف الإجابة في اليوم التالي. ويبدو أن المبدع كان يقرأ أفكاري، ويكتب الأسطر المناسبة لحين موعد قراءتي القادمة.
لقد قابلت نفسي وجهاً لوجه في صفحات القران، وكنت خائفاً مما رأيت. كنت أشعربالإنقياد بحيث أشق طريقي إلى الزاوية التي لم تحوِ سوى خيار واحد... كان عليّ أن أتكلن لإحد ما، ولكنه ليس لأحد من أُسرة قنديل، إلى أحد لم يكن ليعلم بي، كي لا تكون هناك توقّعات.
في ذلك السبت وبينما كنت في حديقة البوابة الذهبية غولدن غيت العامة Golden Gate Park عائداً من دياموند هايتس Diamond Heghts بعد نزهتي اليومية، توصلت إلى حلٍّ وهو أن أذهب إلى مسجد الطلاب المحلي يوم الإثنين.
إن كنيسة القديس إغناطيوس Stignatius Church. St الواقعة على قمة غولدن غيت بولفارد Boulevard Golden Gateجادة البوابة الذهبية هي مصدر فخرعظيم لجامعة سان فرانسيسكو، ودليل الجامعة يحتوي على عدة صور لها، ومن زوايا مختلفة. لقد رأيت كنائس أكبر مهابة، ولكن الغمام عندما ينزل ويحللها فإن برجها يبدو وكأنه يصل إلى السماء. وبعد ظهر أحد أيام الأربعاء كان الجو صحواً وكثير النسمات، وقفت خاج مركز هارني للعلوم Harney Science Center، حيث كان يقع مكتبي وحدّقت في الكنيسة.
وفي قبو الجزء الخلفي منها كان يقع المسجد (وفي الحقيقة غرفة صغيرة سمح اليسوعيون Jesuits للطلبة المسلمين باستخدامها مسجداً).
لم أكن قد زرت المسجد بعد، على الرغم من أني كنت قد قررت ذلك مسبقاً، فقد بدأت أُفكر أنه ربما كان قراري لزيارته قراراً سريعاً جداً. وأخيراً قررت المضي بتنفيذ خطتي مؤكداً لنفسي أنني ذاهب فقط لأسال عدداً من الأسئلة وفي طريقي إلى المسجد وعبرمكان وقوف سيارات الكنيسة تمثلت في نفسي ما يمكن أن أقوله عند تقديمي لنفسي هناك... فاتجهت إلى المدخل الجانبي. كان الجو مظلماً في الداخل، ولكن الزجاج الملوَّن سمح ببعض الخيوط من الضوء الملون.
مررت أمام المصلوب (الصليب) دون أن أحني ركبتي (تعبداً واحتراماً)، وتساءلت في نفسي، عجباً!
كيف تتأصل تلك الدروس في أنفسنا؟.
قلت للحاجب: هل تستطيع أن تدلني أين المسجد؟
شعرت أنني ربما بدوت غير متزن، لأن تعابيره كانت مزيجاً من الدهشة والسخط، ولكنني لم أنتظر جوابه!.
وعندما خرجت من الكنيسة أخذت نفساً أو نفسين عميقين قائلاً في نفسي: كم هو مريح أن يكون المرء في النورثانية! إسترحت قليلاً، ثم مشيت حول الكنيسة لأرى إن كانت هناك أي مداخل أُخرى ممكنة للمسجد؟
ولقد كان هناك مدخل إضافي، لكن الباب كان مقفلاً.
وهكذا انتهيت حيث بدأت أمام الدرج قرب التمثال...
وكنت قلقاً، وشعرت بالدُّوارعندما بدأت نزول الدرج...
وفي منتصف الطريق إلى الباب ضاق صدري وازداد خفقان قلبي، وبسرعة إستدرت إلى الوراء وقفلت راجعاً إلى أعلى الدرج...
وبّختُ نفسي قائلاً: مهلاً، إنك تدخل وتخرج من أبواب هذه الجامعة كل يوم.. يا لنفسي! لن يكون هناك سوى الطلاب.
أخذت نفساً طويلاً آخر وبدأت النزول ثانية...
لقد كانت نقطة الوسط أكثر سوءاً هذه المرة، وعندما وصلت القاع شعرت بالإنقباض والغثيان. إن رجلي اللتين كانتا تحملاني ضعيفتين هنا... مددت إلى قبضة الباب فبدأت ترتجف، وأخذت أرتجف وأتصبب عرقاً، ثم ركضت إلى أعلى الدرج ثانية، وقفت هناك جامداً وطهري إلى المسجد لم أدرِ ماذا يجب أن أفعل. وشعرت بالحرج والعزيمة...
فكرت بالعودة إلى مكتبي..
مرَّت عدة ثوانٍ نظرت خلالها إلى السماء محدِّقاً، لقد كانت هائلة ومليئة بالأسرار ومطمئنة...
لقد مضت عشر سنوات كاملة وأنا أقاوم دافع الدعاء، أما الآن فإن المقاومة انتهت وسرعان ما فاضت مشاعري، فأخذت أدعو: اللهم إن كنت تريدني أن أنزل هذا الدرج إلى المسجد فامنحني القوة من فضلك! إنتظرت قليلاً لكني لم أشعر بشيء....
كنت آمل أن الأرض قد تهتز أو أن تنزل صاعقة فتحيط بي، أو حتى أن تنتابني القشعريرة، ولكني لم أشعر بشيء...
إستدرت مائة وثمانين درجة ونزلت الدرج، ووضت يدي على قبضة الباب ودفعته فانفتح. كان في الداخل شابان قصيران يتحادثان، وكانا حافيا القدمين، أما الأول فكان يرتدي زيَّاً شرقياً تقليدياً مع قلنسوة على رأسه، وأما الآخر فكان فكان يلبس ثياباً غربياً.
لقد قاطعت بدخولي محادثتهما، فقال أحدهما: هل تبحث عن شيء هنا؟.
قلت: لقد نسيت الأسطر التي كنت أنوي قولها، فأجبت على عجالة: هل عمرأو محمود هنا؟.
بدأت أشعر بالعصبية ثانية. فسالني صاحب القبعة: ما أسمهما؟ بينما بدأ الآخر مرتاباً...
حاولت أن أقول (قنديل) ولكن دون جدوى.
فقال أحدهما: لاأحد هنا سوانا، يبدو أن هذه لن تنفع أيضاً فقلت لهما: أنا آسف، لابد لي في المكان الخطأ، ثم استدرت وكأني أستعد للذهاب... فقال الذي يرتدي القبعة، هل تريد أن تعرف شيئاً عن الإسلام؟
أجبت وأنا أخطو نحوهما: نعم نعم أريد أن أعرف عن الإسلام.
فقال لي شارحاً: هلاّ خلعت نعليك من فضلك، إننا نصلي في هذا المكان. لقد كان الشاب ذو الملابس التقليدية هو الذي يتكلم، وأما الآخر فمن الواضح أنه قررأن براقب شيئاً له، وظهرمن تعابي وجهه أنه غيرعادي.
جلسنا على الأرض في الزاوية اليسرى، فلقد سمحا لي باختيار المكان، فجلست حيث أواجه الباب وظهري إلى الجدار، كانت هناك غرفة صغيرة للغسل على يميني، وكان هناك غرفة صغيرة جداً للنساء بعيداً إلى اليسار عن شمالي...
كان اسم الشاب ذو القبعة عبدالحنان، وكان طالباً ماليزياً يدرس في الجامعة، أما الثاني فكان من فلسطين، واسمه محمد يوسف.
أخبرتهما بكل ما أعرف عن الإسلام فدهشا بسرور، وتحدثنا مدة خمسة عشر دقيقة.
سالت بعض الأسئلة السطحية، ولكن لم يحدث كما كنت أتوقع. وبدأ عبدالحنان يخبرني بشيء عن الملائكة التي تعذب أرواح موتى الكافرين، وعن العذاب الذي سيكابدونه في قبوره.....
تظاهرت فقط أنني أصغي اليهم، وقلت لهم: عليّ أن أعود إلى مكتبي متذرعاً بحيلة (كانت ناجعة دوماً) وهي أن هناك طلاباً يجب عليّ مقابلتهم وشكرتهما على الوقت الذي أمضياه معي، كنت على وشك أن أنهض للمغادرة عندما فتح الباب، كان الوقت بعد العصر، وكانت الشمس في الزوال وراء الباب، كانت الإضاءة في الغرفة خافتة، وعندما فتح الباب كان الممر أكثر نوراً وبدا لنا رجل، ومن خلفه يتدفق النور، لحيته كثَّة يرتدي ثوباً طويلاً إلى كاحله، وصَنْدَلاً في رجله، ويضع عمامة على رأسه، ويحمل عكازاً في يده. وبدا كأنه موسى عائداً من جبل الطور.
لذا كان عليّ أن أبقى...
دخل المسجد بهدوء وبدا وكأنه لم يلاحظنا..
كان يتمتم ما يمكن أن يكون ابتهالات إلى الله.
ورأسه مرفوعاً قليلاً نحو الأعلى، وعيناه تكادان تكونان مغلقتين... كانت يداه قريبتين من صدره، وكانت كفاه مفتوحتين للأعلى، وكأنه ينظرأن يأخذ حصته من شيء ما...
وعندما فرغ من ذلك سالف محمداً شيئاً ما بالعربية ثم مشى إلى المغسل
(مكان الوضوء).
إبتهجا قائلين هذا هوالأخ غسان، إنه الإمام الذي يقود الصلاة.
جاء غسان فجلس بقربي ووضع يده على ركبتي قائلاً: ما الإسم الكريم؟ لقد كانت نبرة صوته ضعيفة ولكنها واضحة، كان في صوته رنين أضفى عليه هالة من الإلهام، ومن خلال لهجته عرفت أنه من الجزيرة العربية. وكان خجولاً بعض الشيء، فقد حاول أن لاينظرفي عينيَّ.
- قلت له: جيفري لانغ
- هل أنت طالب في جامعة سان فرانسيسكو؟ إذ كان يبدو أصغر من سني، ففي بداية الفصل طُلب مني مغادرة إجتماع المدرسين، لأنهم جميعاً إعتقدوا أني كنت أحد الطلاب.
- لا، إني بروفيسور في قسم الرياضيات.
إتسعت عيناه، ونظر إلى الآخرين، تحدثنا بضع دقائق، ثم إن غسان إستأذنني بأدب كي يصلّوا صلاة العصر، وكانت هذه أوّل مرة أرى فيها مسلمين يصلّون جماعة...
وانتهزت هذه الفرصة كي أمدَّ رجلي اللتين كادتا تتيبسان من الجلوس على الأرض، وعندما أنهوا صلاتهم، عدنا لجلستنا الأولى، وتابع غسان حديثه قائلاً: إذن كيف بدأاهتمامك بالإسلام؟ تساءلت في نفسي إن كانوا يعرفون عائلة القنديل، ولكنني قلت له: كنت أقرأ عنه، ويبدوا أن ذلك الجواب كان كافياً.
تابعنا الحديث لبعض الوقت، وتركزت معظم مناقشاتنا على بعض المسائل التقنية.سالني غسان: هل لديك أية أسئلة أخرى؟ أجبت بالنفي، ثم إنه خطر ببالي شيء جديد فقلت: لديَّ سؤال واحد إضافي.
تفكرت لبرهة أفكر بالطريقة التي أصوغ فيها سؤالي فقلت: هل لك أن تخبرني كيف يشعرالمرء إن كان مؤمناً؟
أعني كيف ترى علاقتك مع الله؟ كنت لتوّي قد خبرت أن غسان كان يتمتع بشخصية لها جاذبية رائعة وحدس هما ضروريان لشخصية القائد الروحاني.
كان غسان مثل محمود قنديل، مرهف الإحساس تجاه الامك الداخلية، ولكن على خلاف مح