ما أجمل أن يترك المسلم المتصدق أثراً له بعد موته! ينفع به نفسه والمسلمين في حياته وبعد مماته، ويرتحل إلى مولاه وقد خلف وراء ظهره من الحسنات الباقيات ما يدخره ليوم الحساب.
والآثار التي يتركها الإنسان بعد حياته تنقسم إلى قسمين: آثار له، وآثار عليه، فالتي له هي: أعمال صالحة؛ كالعلم النافع، وبناء المساجد والمشاريع الخيرية والأوقاف التي حبسها لله، فتلك هي آثار تزيد في حسناته بعد مماته.
أما الآثار السيئة فهي: كالمبتدعة التي يخلفها وراءه، ويستمر عمل الآخرين بعد وفاته، أو ما خطت يداه من كتب ضالة تصد عن الحق، أو بناء دور للفسق والمعاصي وما شابه ذلك؛ من أماكن اتخذت لمعصية الله والتطاول على حرماته.
ويجد الإنسان ذلك الأثر الذي يتركه في هذه الدنيا بعد موته؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ} [يس:12]، يقول العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي في «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان»: "أي: نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال.
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا}: من الخير والشر، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم.
{وَآثَارَهُمْ ۚ}: وهي آثار الخير، وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم.
فكل خير عمل به أحد من الناس بسبب علم العبد، وتعليمه، ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيراً من صلاة أو زكاة، أو صدقة أو إحسان؛ فاقتدى به غيره، أو عمل مسجداً، أو محلاً من المحال التي يرتفق بها الناس وما أشبه ذلك؛ فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر"[1].
وهذا مرجعه حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس شيء أحب إلى الله من قطرتان وأثرين: قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله. وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله» (رواه الترمذي)
فـ: «ليس شيء أحب إلى الله من قطرتان وأثرين» أما القطرتين فهما: قطرة من دموع، أي: قطرة بكاء حاصلة من خشية الله، أي: من شدة خوفه وعظمته المورثة لمحبته.
والقطرة الثانية هي: قطرة دم في سبيل الله، وهو بعمومه يشمل الجهاد وغيره من سبيل الخير[3].
أما الأثران: فأثر في سبيل الله؛ كخطوة أو غبار أو جراحة في الجهاد، أو سواد حبر في طلب العلم[4]، ويكون الأثر كذلك: ما تركه العبد من بعده. وأثر في فريضة من فرائض الله؛ كإشقاق اليد والرجل من أثر الوضوء في البرد وبقاء بلل الوضوء، واحتراق الجبهة من حر الرمضاء التي يسجد عليها، وخلوف فمه في الصوم واغبرار قدمه في الحج[5].
ففي الحديث حث للمرء أن يكون حريصاً في الاستفادة من هذه الحياة، وأن يسعى لأن يكون له رصيد من الأعمال بعد موته؛ من الآثار الصالحة التي تجعل سجل أعماله ممتداً بعد مماته.
وفيه أن يحرص المسلم لنيل محبة الله بقيامه بالأعمال التي يحبها الله.
وفيه: فضل الأعمال والآثار التي تكون في سبيل الله.
وفيه: أن الأعمال الصالحة تترك أثراً على المسلم في حياته، وذكراً طيباً ودعاءً وثناءً بعد مماته على ألسنة الناس.
وفيه: محبة الله لصلاح العبد، والموفق من وفق إلى الطاعة التي تؤتي ثمارها، ويبقى أثرها.
وفيه: بأن على الإنسان أن يعمر الأرض، ويحرص على نفع الناس، وأن يكون صاحب دور إيجابي في هذه الحياة، ويسعى لهداية الناس ودعوتهم إلى الإسلام، ونشر النافع من العلم، وإغاثة الملهوف، والإنفاق والبذل في سبيل الله.
ولا شك من الآثار الحميدة التي يتركها ابن آدم وتتشرف بها سجلاته: تلك الأوقاف التي أوقفها؛ يرجو بها ثواب الله، ويخشى عقابه، ويعمل لتستمر حسناته إلى ما بعد مماته.
فالوقف أثر في سبيل الله كان له الدور الأكبر في مواجهة الكثير من التحديات والمشكلات التي واجهت أمتنا الإسلامية عبر تاريخها الحضاري، فساهم الوقف في كل مناحي الحياة الاجتماعية والعلمية والعسكرية الدعوية والإنمائية.
"وتجلت روعة الوقف الإسلامي في التطبيق العملي لهذه المنظومة الفقهية الرائعة؛ التي وضعها فقهاؤنا من خلال الحضارة الإسلامية، التي امتدت على مدار أربعة عشر قرناً"[6].
إن عظمة الوقف الإسلامي بتشريعاته وأحكامه وتطبيقاته ومخرجاته، وهي موائمة لمتطلبات كل عصر ومِصْر، فنظام الوقف نظام مرن؛ لذا أخرج أهل العلم له المسائل وقعدوا له القواعد، واجتهد عدداً من كبار الفقهاء من مختلف المذاهب في النظر في أحكامه وضبطها وبحث الجديد منها، ونشر المئات من المسائل وتفريعاتها المتعلقة بفقه الوقف.
وتناول العلماء موضوع الوقف على المستوى الفقهي، والمؤرخون والرحالة وكتب السير لتوثيقه تاريخيّاً، وتطبيقاته العملية، وتطورات العملية، وتطور الوقف وتأثيره في البلاد الإسلامية على المستوي التوثيقي والتاريخي.
وتاريخ المسلمين كان ولا يزال ثرياً بالجهود التي يبذلها المسلمون في كافة المجالات، فأقاموا حضارة إسلامية كانت الأولى عالمياً في العهد الأموي وفي العهد العباسي وفي الثلاثمائة سنة الأولى من العهد العثماني.
____________________
[1] «تفسير السعدي» (ص970)، طبعة جمعية إحياء التراث، (1425هـ- 2004م).
[2] «تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي» (5/3114 )، مكتبة ابن تيمية-القاهرة (1407هـ-1987م).
[3] المرجع السابق نفسه.
[4] المرجع السابق نفسه.
[5] «روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية»، د. راغب السرجاني، (ص5)، دار نهضة مصر للنشر، ط3، (2011م).