البحث
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يمانع من سماع زوجته الغناء المباح في العيد:
عن عائشة قالت:
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث. – هو يوم جرى فيه قتا بين الأوس والخزرج، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، فدخل أبو بكر، فانتهرني، وقال: "مزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "دعهما"، فلما غفل غمزتهما، فخرجتا، وكان يوم عيد".
قال ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الحديث من الفوائد: مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم به بسط النفس، وترويح البدن من كلف العبادة... وفيه الرفق بالمرأة واستجلاب مودتها"
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرخص لهم في أوقات الأفراح، كالأعياد والنكاح في الضب بالدفوف والتغني مع ذلك بهذه الأشعار، وما كان في معناها.
ولما فتحت بلاد فارس والروم؛ ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد اعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة على طريقة الموسيقى، بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من الخمور، والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس، بآلايات اللهو المطربة، فأنكروا ذلك كله، ونهوا عنه، وغلظوا فيه.
وهذا يدل على أنهم فهموا أن الغناء الذي رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لم يكن هذا الغناء، ولا آلاته هي هذه الآلات، وأنه إنما رخص فيما كان في عهده مما يتعارفه العرب بآلاتهم.
فأما غناء الأعاجم بآلاتهم: فلم تتناوله الرخصة، وإن سمي غناء، فيبنهما من التباين ما لا يخفى على عاقل؛ فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى، ويغير الطباع، ويدعو إلى المعاصي، فهو رقية الزنا
وغناء الأعراب المرخص به ليس فيه شيء من هذه المفاسد بالكلية البتة. فمن قاس أحدهما على الآخر؛ فقد أخطأ أقبح الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل فقياسه من أفسد القياس، وأبعده عن الصواب.
فاللهو الذي أباح النبي صلى الله عليه وسلم لزوجته استماعه هو اللهو البريء، والمتعة المباحة.
ولم يقتصر هديه صلى الله عليه وسلم مع زوجته على ذلك، بل كان يسرب إلى عائشة جوار، فيلعبن معها باللعب، وكان صلى الله عليه وسلم يتحاشى تنفير هؤلاء الضيوف.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت:
كنت ألعب بالبنات عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه، فيسربهن إلي فيلعبن معي.
قال النووي: "وهذا من لطفه صلى الله عليه وسلم وحسن معاشرته"
وقد كانت أم المؤمنين عائشة تلعب بالبناي واللعب ذوات الأشكال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمازحها ويضحك معها.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزوة تبوك أو هيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت ريح، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: "ما هذا يا عائشة؟" قالت: بناتي، ورأى بينهن فرساً له جناجان من رقاع، فقال: "ما هذا الذي أرى وسطهن؟"، قالت: بناتي، ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع، فقال: "ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس، قال: "وما هذا الذي عليه؟"، قالت: جناحان، قال: "فرس له جناحان!" قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟، فضحك حتى رأيت نواجذه.
فكم أدخلت تلك الضحكة منه صلى الله عليه وسلم من السرور على قلب زوجته، وكم كان لتلك المداعبة من الأثر الحسن على مشاعرها.
بل إنه صلى الله عليه وسلم حث الأزواج على هذا الأمر؛ لأنه يستدعي الوئام ويجلب المسرة إلى القلوب؛ فقال لجابر بن عبد الله لما تزوج: "هلا جارية تلاعبها وتلاعبك، أو تضاحكها وتضاحكك"
وقال: "كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو؛ إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين [الغرض" هو ما يقصده الرماة بالإصابة]، وتأديبه فرسه، وملاعبة أهله، وتعلم السباحة"
فالملاعبة، والمضاحكة بين الزوجين تملأ القلوب مسرة، والبين أنساً ومحبة؛ فتقوى الرابطة الزوجية، وتتعمق الألفة والمودة والمحبة بين الزوجين.
"فالمداعبة والمزاح، والملاعبة هي التي تطيب قلوب النساء"
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه – مع شدته وصلابته – يقول: "ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا التمس ما عنده وجد رجلاً"
وقال ثابت بن عبيد: "كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في بيته، فإذا خرج، كان رجلاً من الرجال"
ووصفت أعرابية زوجها وقد مات، فقالت: "والله لقد كان ضحوكاً إذا ولج، سكيتا إذا خرج آكلا ما وجد، غير سائل عما فقد"
وكثير من الناس يضحك ويبتسم في وجوه أصحابه وزملائه، فإذا ما دخل البيت اختفت تلك الابتسامات؛ ليصبح عابس الوجه، مقطباً جبيته.