البحث
وكان يحتاط كثيرآ في إقامة الحدود، ويأمر المذنب أن يستر على نفسه، ويتوب فيما بينه وبين ربه
فقد جاء واحد إلى النبي ﷺ طالبين منه إقامة الحد عليهم بسبب ما اقترفوه من الذنوب والمعاصي، فكان ﷺ يحاول في أول الأمر صرفهم، فإذا وجد منهم الإصرار؛ أقام عليهم الحد
عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال
جاء ما عز بن مالك إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله طهرني. فقال( ويحك! ارجع، فاستغفر الله، وتب إليه) قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء. فقال: يا رسول الله طهرني. فقال رسول الله ﷺ( ويحك! ارجع، فاستغفر الله، وتب إليه) قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني. فقال النبي ﷺ مثل ذلك.حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله:( فيم أطهرك؟) فقال: من الزنا. فسأل قومه:( أمجنون هو؟) قالوا: ليس به بأس. فقال:( أشرب خمرا؟) فقام رجل. فاست نكهة، فلم يجد منه ريح خمر. فقال رسول الله ﷺ:( أزنيت؟) فقال نعم قال:( لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت) قال: لا يا رسول الله.فقال:( هل أحصنت؟) قال: نعم. فعند ذلك أمر برجمه. قال: فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد، فما أو ثقناه، ولا حفرنا له.فرميناه بالعظم والمدر والخزف[1] فاشتد[2] وشددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة[3] فانتصب لنا، فرمينا جلاميد الحرة[4] حتى مات. فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ أنه فرحين وجد مس الحجارة، ومس الموت. فقال رسول الله ﷺ:( هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله عليه) فكان الناس فيه فرقتين قائل يقول: لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته. وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، أنه جاء إلى النبي ﷺ فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة. قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة. ثم جاء رسول الله ﷺ وهم جلوس، فسلم، ثم جلس. فقال( استغفروا لماعز بن مالك) قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك.قال: فقال رسول الله ﷺ( لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم) قال: ثم جاءتة امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله طهرني. فقال( ويحك ارجعي، فاستغفري الله، وتوبي إليه) فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك قال:( وما ذاك؟) قالت: إنها حبلى من الزنا. فقال:( آنت؟) قالت: نعم. فقال لها:( حتى تضعي ما في بطنك) قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت. قال: فأتى النبي ﷺ فقال: قد وضعت الغامدية. فقال:( إذا لا نرجمها، وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه) فقام رجل من الأنصار، فقال: إلي رضاعه يا نبي الله. قال: فرجمها[5]
من فوائد الحديث
فيه: منقبة عظيمة لماعز بن مالك؛ لأنه استمر على طلب إقامة الحد عليه مع توبته؛ ليتم تطهيره، ولم يرجع عن إقراره مع أن الطبع البشري يقتضي أنه لا يستمر على الإقرار بما يقتضي إرهاق نفسه، فجاهد نفسه على ذلك، وقوي عليها، وأقر من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشهادة مع وضوح الطريق إلى سلامته من القتل بالتوبة.
وفيه: دليل على سقوط إثم المعاصي الكبائر بالتوبة.
وفيه: انه يستحب لمن وقع في معصية أن يبادر إلى التوبة منها، ولا يخبر بها أحدا، ويستتر بستر الله، وإن اتفق أنه يخبر أحدا فيستحب أن يأمره بالتوبة، وستر ذلك عن الناس.
وفيه: أنه يستحب لمن اطلع على مثل ذلك أن يستر على الفاعل، ولا يفضحه ولا يرفعه إلى الإمام.
قال ابن العربي: هذا كله في غير المجاهر، فأما إذا كان متظاهرا بالفاحشة مجاهرا فإني أحب مكاشفته والتبريح به؛ لينزجر هو وغيره.
وفيه: التثبت في إزهاق نفس المسلم، والمبالغة في صيانته لما وقع في هذه القصة من ترديده، والأيماء إليه بالرجوع والإشارة إلى قبول دعوها إن ادعى إكراها، أو خطأ في معنى الزنا، أو مباشرة دون الفرج مثلا أو غير ذلك.
وفيه: مشروعية الإقرار بفعل الفاحشة عند افمام، وفي المسجد والتصريح فيه بما يستحيي من التلفظ به من أنواع الرفث في القول من أجل الحاجة الملجئة لذلك.
وفيه: نداء الكبير بالصوت العالي وإعراض الإمام عن من أقر بأمر محتمل لإقامة الحد؛ لاحتمال أن يفسره بما لا يوجب حدا أو يرجع، واستفساره عن شروط ذلك يترتب عليه مقتضاه.
وفيه: أن إقرار المجنون لاغ.
وفيه: أن إقرار السكران لا أثر له، يؤخذ من قوله( استنكهوه).
وفيه: التعريض للمقر بأن يرجع، وانه إذا رجع قبل.
وفيه: جواز تفويض الإمام إقامة الحد لغيره.
وفيه:جواز تلقين المقر بما يوجب الحد ما يدفع به عنه الحد.
وفيه: أن الحد لايجب إلا بالإقرار الصريح، ومن ثم شرط على من شهد بالزنا أن يقول رأيته ولج ذكره في فرجها أو ما أشبه ذلك، ولا يكفي أن يقول أشهد أنه زنى.
وفيه: ترك سجن من اعترف بالزنا في مدة التثبيت وفي الحامل حتى تضع.
وفيه: وجوب الاستفسار عن الحال التي تختلف الأحكام باختلافها، ويؤخذ هذا من قوله( هل أحصنت؟)
وفيه: أن المقر بالزنا إذا أقر يترك، فغن صرح بالرجوع فذاك، وإلا اتبع ورجم.
وفيه: أنه لا ترجم الحبلى حتى تضع، سواء كان حملها من زنا أو غيره، وهذا مجمع عليه لئلا يقتل جنينها، وكذا لو كان حدها الجلد وهي حامل لم تجلد بالإجماع حتى تضع.
وفيه: أن المرأة ترجم إذا زنت وهي محصنة كما يرجم الرجل.
وفيه: أن من وجب عليها قصاص وهي حامل لا يقتص منها حتى تضع، وهذا مجمع عليه، ثم لا ترجم الحامل الزانية، ولا يقتص منها بعد وضعها حتى تسقي وليدها اللبن، ويستغني عنها بلبن غيرها[6]
المراجع
- هذا ليل لما اتفق عليه العلماء أن الرجم يحصل بالحجر، أو المدر، أو العظام، أ, الخرف، أو الخشب، وغير ذلك مما يحصل به القتل، ولا تتعين الأحجار
- أي: هربه
- أي جانبها
- أي: الحجارة الكبار
- رواه مسلم[1695]
- ينظر: فتح الباري[126/12] شرح النووي على صحيح مسلم[201/11]