1. المقالات
  2. كيف عاملهم النبي ﷺ؟
  3. كان يبين للعاصي شناعة معصيته، ليتوب منها، ولئلا يعود إلى مثلها

كان يبين للعاصي شناعة معصيته، ليتوب منها، ولئلا يعود إلى مثلها

الكاتب : محمد صالح المنجد
55 2024/06/10 2024/06/10

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي ﷺ: حسبك من صفية كذا وكذا - تعني قصيرة.

فقال ﷺ: "لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر، لمزجته" (1) 

والمعنى: أن هذه الغيبة لو كانت مما يمزج بالبحر لغيرته عن حاله، مع كثرته وغزارته، فكيف بأعمالٍ نزرٍة خلطت بها؟(2). 

وكان ﷺ ربما هجر بعض العصاة زمنًا، حتى يحكم الله فيهم، أو يتوب عليهم:    

وقد تجلى ذلك في هجره للثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك. 

قال كعب بن مالك: … فلما بلغني أن رسول الله ﷺ قد توجه قافلاً من تبوك، حضرني بثي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بم أخرج من سخطه غدًا؟ 

وأستعين على ذلك كل ذي رأيٍٍ من أهلي. 

وأما أنا فكنت أشب القوم واجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله ﷺ، فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟

ثم أصلي قريبًا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني.

 حتى إذا طال ذلك عليَّ من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت حدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد السلام. 

فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلمني أحب الله ورسوله، فسكت، فعدت له، فنشدته، فسكت، فعدت له، فنشدته.

فقال: الله ورسوله أعلم.

ثم زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدًا، فأجمعت صدقة.

وصبح رسول الله ﷺ قادمًا، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس.

 فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، يحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله ﷺعلانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. 

حتى جئت، فلما سلمت تبسم تبسم المغضب، ثم قال: "تعال".

فجئت أمشي حتى جلست بين يديه؟

فقال لي: "ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟".

قلت يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهلٍ الدنيا؛ لرأيت أني سأخرج من سخطهِ بعذرِ، ولقد أعطيت جدلاً.

ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عني؛ ليوشكن الله أن بسخطك عليَّ ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.

قال رسول الله ﷺ: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك".

فقمت وثار رجال من بني سلمة، فاتبعوني.

فقالوا لي: لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله ﷺ بما اعتذر به إليه المخلفون، فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله فأكذب نفسي.

ثم قلت لهم: هل لقى هذا معي من أحد؟

قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا: مثل ما قلت.

فقيل لهما: من هما؟

قالوا: مرارة بن الربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي.

فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً فيهما أسوة؟

قال: فمضيت  حين ذكروهما لي.

قال: ونهى رسول الله ﷺ المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه.

فاجأتنا الناس،  وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. 

فأما صاحباي، فاستكانا، وقعدوا في بيوتهما يبكيان.

ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار.

قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟

فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إليَّ كتابًا من ملك غسان.

فإذا فيه: أما بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدارِ هوانِ ولا مضيعةِ، فالحق بنا نواسك.

فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتممت بها التنور، فسجرته بها.

حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، و استلبث الوحي إذا رسول الله ﷺ وسلم يأتيني.

فقال: إن رسول الله ﷺ وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك.

قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ 

قال: لا، بل اعتزلها، فلا تقربنها. 

قال: فأرسل إلى صاحبيًّ بمثل ذلك.

فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. 

ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفي على سلعِ يقول بأعلي صوته: يا كعب بن مالك أبشر.

فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء الفرج.

قال كعب: فلما سلمت على رسول الله ﷺ قال وهو يبرق وجهه من السرور، ويقول: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك.

قال: فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟

  فقال: "لا، بل من عند الله"، 

وأنزل الله:

(وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ)

[التوبة: 118] (3)


وقصة كعب ابن مالك مشهورة وظاهرة في هجر النبي صل له و لصاحبيه وفي هذا تأديب لهم، وتربية لهم على ظاعة الله ورسوله على كل حال، وترك المخالفة، وعبرة وعظة لغيرهم. 

المراجع

(1) رواه أبو داود [4875]، والترمذي [2502]، وصححه الألباني في صحيح الجامع [5140].

(2) تحفة الأحوذي [177/7].

(3) رواه البخاري [4418]، ومسلم [2769].

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day