البحث
سورة المدّثر
بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ * فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ * ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * ) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ *كَلَّا وَالْقَمَرِ * ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ *عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً * كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 56 )
قال ابن عطية رحمه الله :
بسم الله الرحمن الرحيم -سورة المدثر وهي مكية بإجماع من اهل التأويل ..
قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ * فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِير *
( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) . اختلف القراء في ( المدثر ) على نحو ما ذكرناه في ( المزمل ) وفي حرف أبي بن كعب ( المدثر ) ومعناه المتدثر بثيابه.. والدثار ما يتغطى الإنسان به من الثياب ... واختلف الناس لِمَ ناداه ب ( المدثر ) فقال جمهور المفسرين بما ورد في البخاري من انه لما فرغ من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والارض فرعب منه ورجع الى خديجة فقال: زملوني.. زملوني... نزلت ( يا أيها المدثر )
وقال النخعي وقتادة وعائشة نودي وهو في حال تدثر فدعي بحال من احواله... وروي انه كان يدثر في قطيفة ... وقال آخرون معناه أيها النائم ...وقال عكرمة معناه ( يا ايها المدثر ) للنبوة وأثقالها...
واختلف الناس في اول ما نزل من كتاب الله تعالى ؛ فقال جابر بن عبد الله وأبو سلمة والنخعي ومجاهد هو: ( يا أيها المدثر ) الآيات ...وقال الزهري والجمهور هو : ( اقرا باسم ربك الذي خلق ) (العلق 1 ) -وهذا هو الأصح . وحديث صدر كتاب البخاري نص في ذلك
وقوله تعالى :( قم فأنذر ) بعثة عامة إلى جميع الخلق... قال قتادة المعنى انذر عذاب الله ووقائعه بالأمم...
وقوله تعالى:( وربك فكبر ) معناه عظمه بالعبادة وبث شرعه ... وروي عن أبي هريرة ان بعض المؤمنين قال بم نفتتح صلاتنا فنزلت ( وربك فكبر ) ... واختلف المتاولون في معنى قوله ( وثيابك فطهر ) فقال ابن سيرين وابن زيد بن أسلم والشافعي وجماعة هو أمر بتطهير الثياب حقيقة وذهب الشافعي وغيره من هذه الآية الى وجوب غسل النجاسات من الثياب وقال الجمهور هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس والعرض وهذا كما تقول فلان طاهر الثوب ويقال للفاجر دنس الثوب ومنه قول الشاعر غيلان بن سلمة الثقفي:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من خزية أتقنع
وقال الآخر:
لاهم إن عامر ابن جهم أوذم حجا في ثياب دهم
أي دنسه... وقال ابن عباس والضحاك وغيره المعنى لا تلبسها على غدرة ولا فجور .. وقال ابن عباس المعنى لا تلبسها من مكسب خبيث .. وقال النخعي المعنى طهرها من الذنوب ؛؛ وهذا كله معنى قريب بعضه من بعض... وقال طاوس المعنى قصرها وشمرها فذلك طهرة للثياب .. وقرا جمهور الناس ( والرجز ) بكسر الراء وقرأ حفص عن عاصم والحسن ومجاهد وأبو جعفر وشيبة وأبو عبد الرحمن والنخعي وابن وثاب وقتادة وابن ابي إسحاق والأعرج و ( الرجز ) بضم الراء .. فقيل هما بمعنى يراد بهما الأصنام والأوثان وقيل هما لمعنيين الكسر للنتن والتقابض وفجور الكفار والضم لصنمين ( إساف ونائلة )؛ قاله قتادة.. وقيل للأصنام عموما ؛ قاله مجاهد وعكرمة والزهري .. وقال ابن عباس (الرجز)= السخط ... فالمعنى أهجر ما يؤدي اليه ويوجبه.. وقال الحسن كل معصية رجز .. وروى جابر ان النبي فسر هذه الآية بالأوثان ..
واختلف المتاولون في معنى قوله تعالى ( ولا تمنن تستكثر ) .. فقال ابن عباس وجماعة معه : لا تعط عطاء لتعطى اكثر منه ، فكأنه من قولهم من إذا أعطى قال الضحاك وهذا خاص بالنبي ومباح لأمته لكن لا اجر لهم فيه … قال مكي وهذا ومعنى قوله تعالى :(وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (الروم 39 ).. وهذا معنى أجنبي من معنى هذه السورة ..وحكى النقاش عن ابن عباس انه قال (ولا تمنن تستكثر )= لا تقل دعوت فلم اجب ... وروى قتادة ان المعنى :لا تدل بعملك... ففي هذا التأويل تحريض على الجد وتخويف.. وقال ابن زيد معناه ( ولا تمنن )على الناس بنبوءتك ( تستكثر ) بأجر أو بكسب تطلبه منهم .. وقال الحسن بن أبي الحسن معناه (ولا تمنن ) على الله بجدك ( تستكثر ) اعمالك ويقع لك بها إعجاب .؛ فهذه كلها من المن الذي هو تعديد اليد وذكرها ... وقال مجاهد معناه ولا تضعف (تستكثر ) ما حملناك من أعباء الرسالة وتستكثر من الخير.. فهذه من قولهم : حبل منين أي ضعيف ... وفي قراءة ابن مسعود ( ولا تمنن ان تستكثر ) وقرا الحسن بن أبي الحسن ( تستكثر ) بجزم الراء وذلك كانه قال لا تستكثر وقرا الأعمش ( تستكثر ) بنصب الراء وذلك على تقدير ان مضمرة وضعف أبو حاتم الجزم وقرا ابن أبي عبلة ( ولا تمنن فتستكثر ) بالفاء العاطفة والجزم وقرا أبو السمال ( ولا تمن ) بنون واحدة مشددة ...( ولربك فاصبر ) أي لوجه ربك وطلب رضاه... وكما تقول فعلت لله تعالى ؛ والمعنى على الأذى من الكفار وعلى العبادة وعن الشهوات وعلى تكاليف النبوة.. قال ابن زيد : وعلى حرب الأحمر والأسود ؛ لقد حمل أمرا عظيما .. و ( الناقور ) الذي ينفخ فيه وهو الصور ؛ قاله ابن عباس وعكرمة .. وقال خفاف بن ندبة:
إذا ناقورهم يوما تبدى أجاب الناس من غرب وشرق
وهو فاعول من النقر... وقال أبو حباب : أمنا زرارة بن اوفى، فلما بلغ (في الناقور) خر ميتا ... وروي ان قال لأصحابه ( كيف انعم وصاحب القرن قد التقمه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ ) ففزع أصحاب النبي فقالوا كيف نقول يا رسول الله قال ( قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل .. على الله توكلنا )
و ( يوم عسير ) معناه في عسر في الأمور الجارية على الكفار، فوصف اليوم بالعسر لكونه ظرف زمان له ..وكذلك تجيء صفته باليسر .. وقرا الحسن ( عسر ) بغير ياء .
قوله عز وجل:( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * ..
قوله تعالى :( ذرني ومن خلقت وحيدا )، وعيد محض المعنى انا أكفي عقابه وشأنه كله .. ولا خلاف بين المفسرين ان هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي؛ فروي انه كان يلقب الوحيد أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته، فذكر الوحيد في الآية في جملة النعمة التي أعطى وإن لم يثبت هذا .. فقوله تعالى: ( خلقت وحيدا ) معناه منفردا قليلا ذليلا فجعلت له المال والبنين فجاء ذكر الوحدة مقدمة حسُن معها وقوعُ المال والبنين .. وقيل المعنى خلقته وحدي لم يشركني فيه احد ف ( وحيدا ) حال من التاء في ( خلقت ).. والمال الممدود، قال مجاهد وابن جبير هو ألف دينار ...وقال سفيان بلغني انه أربعة آلاف دينار ...وقاله قتادة وقيل عشرة آلاف دينار .. فهذا مد في العدد ...وقال النعمان بن بشير هي الارض لأنها مدت... وقال عمر بن الخطاب المال الممدود الربع المستغل مشاهرة فهو مد في الزمان لا ينقطع و (شهودا) معناه حضورا متلاحقين .. قال مجاهد وقتادة : كان له عشرة من الولد... وقال ابن جبير ثلاثة عشر... (وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً) ؛ التمهيد التوطئة والتهيئة.. قال سفيان المعنى بسطت له العيش بسطا ... وقوله تعالى ( ثم يطمع ان أزيد ) وصفه بجشع الوليد وعتبة في الازدياد من الدنيا ... وقوله تعالى ( كلا ) زجر ورد على امنية هذا المذكور.. ثم أخبر عنه انه كان معاندا مخالفا لآيات الله وعبره يقال بعير عنود للذي يمشي مخالفا للإبل .. ويحتمل ان يريد بالآيات آيات القرآن وهو الأصح في التاويل ؛ سبب كلام الوليد في القرآن بانه سحر و ( أرهقه ) معناه اكلفه بمشقة وعسر.. و(صعودا )عقبة في جهنم روى ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب والصعود في اللغة العقبة الشاقة ...
وقوله تعالى مخبرا عن الوليد :( إنه فكر وقدر ) الآية روى جمهور المفسرين ان الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ثم سمع كذلك مرارا حتى كاد ان يقارب الاسلام ودخل إلى أبي بكر الصديق مرارا فجاءه أبو جهل فقال يا وليد أشعرت ان قريشا قد ذمتك بدخولك الى ابن ابي قحافة وزعمت انك إنما تقصد ان تاكل طعامه فقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد وما يخلصك عندهم إلا ان تقول في هذا الكلام قولا يرضيهم ففتنة ابو جهل فافتتن وقال افعل ذلك ثم فكر فيما عسى أن يقول في القرآن فقال: أقول شعر ما هو بشعر؛ أقول هو كاهن ما هو بكاهن ؛ أقول هو سحر يؤثر هو قول البشر، اي ليس منزل من عند الله... قال اكثر المفسرين في قوله تعالى( فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ) هو دعاء عليه وتقبيح لحاله أي انه ممن يستحق ذلك ...وروي عن الزهري وجماعة غيره ان الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في امر القرآن ، وقال : والله إن له لحلاوة، وإن أصله لعذق ،وإن فرعه لحياة ،وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو ولا يعلى.. ونحو هذا من الكلام، فخالفوه ؛فقالوا له:هو شعر؛ فقال : والله ما هو بشعر ، ولقد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه؛قالوا :فهو كاهن ؛ قال : والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان وزمزمتهم؛ قالوا :هو مجنون؛ قال: والله ما هو بمجنون ولقد رأينا المجنون وخنقه ؛ قالوا :هو سحر؛ قال : أما هذا فيشبه انه سحر ،ويقول أقوال نفسه ... قال القاضي أبو محمد فيحتمل قوله تعالى :(فقتل كيف قدر ) يمكن أن يكون دعاء عليه على معنى تقبيح حاله ،ويحتمل ان يكون دعاء مقتضاه استحسان منزعه الأول ومدحه القرآن، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه ، فيجري هذا مجرى قول النبي لأبي جندل بن سهيل: ( ويل امه مسعر حرب ) ؛ ومجرى قول عبد الملك بن مروان :قاتل الله كثيرا كانه رآنا حين قال كذا... وهذا معنى مشهور في كلام العرب ...ثم وصف تعالى إدباره واستكباره وأنه ضل عند ذلك وكفر ؛ وإذا قلنا إن ذلك دعاء على مستحسن فعله فيجيء قوله تعالى:( ثم نظر ) ، معناه نظر فيما احتج به القرآن فرأى ما فيه من علو مرتبة محمد ف ( عبس ) لذلك ( وبسر ) اي قطب وقبض ما بين عينيه وأربد وجهه حسدا له ؛ ( ثم أدبر واستكبر) أي ارتكس في ضلاله وزال إقباله اولا ليهتدي ولحقته الكبرياء (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) معناه يروى ويحمل أي يحمله محمد عن غيره؛وعلى التاويل ان الدعاء عليه دعاء على مستقبح فعله يجيء قوله (ثم نظر) معناه معادا بعينه لأن (فكر وقدر )يقتضيه ، لكنه إخبار بترديده النظر في الأمر وقد روي ان النبي دعا الوليد فقال له: انظر وفكر .. فلما فكر قال ما تقدم ...
قوله عز وجل :(* سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * ) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ)
( سقر ) هو الدرك السادس من جهنم على ما روى ... و (أصليه ) معناه اجعله فيها مباشرا لنارها ..وقوله تعالى ( وما أدراك ما سقر ) هو على معنى التعجب من عظم أمرها وعذابها؛ ثم بين ذلك بقوله ( لا تبقي ولا تذر ) والمعنى ( لا تبقي ) على من ألقى فيها ( ولا تذر ) غاية من العذاب الا وصلته اليه.. وقوله تعالى ( لواحة للبشر )، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو رزين وجمهور الناس معناه مغيرة للبشرات محرقة للجلود مسودة لها و ( البشر ) جمع بشرة.. وتقول العرب لاحت النار الشيء إذا احرقته وسودته وقال الشاعر الأعشى
لاحة الصيف والغيار وإشفاق على سقبة كقوس الضال
وأنشد أبو عبيدة :يا بنت عمي لاحني الهواجر
وقال الحسن وابن كيسان (لواحة ) بناء مبالغة من لاح يلوح اذا ظهر والمعنى انها تظهر للناس وهم البشر من مسيرة خمسمائة عام وذلك لعظمها وهولها وزفيرها.. وقرأ عطية العوفي ( لواحة ) بالنصب..وقوله تعالى :(عليها تسعة عشر ) ابتداء وخبره مقدم في المجرور... ولا خلاف بين العلماء انهم خزنة جهنم، المحيطون بأمرها، الذين اليهم جماع أمر زبانيتها ... وقد قال بعض الناس إنهم على عدد حروف بسم الله الرحمن الرحيم لأن بها تقووا ... وروي ان قريشا لما سمعت هذا كثر إلغاطهم فيه وقالوا: لو كان هذا حقا، فإن هذا العدد قليل ...فقال أبو جهل : هؤلاء تسعة عشر، وانتم الدهم؛ أفيعجز عشرة منا عن رجل منهم ؟ وقال أبو الأشدي الجمحي: أنا أجهضهم على النار... الى غير هذا من أقوالهم السخيفة ؛ فنزلت في أبي جهل (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى*ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى*)( القيامة 34 -35 ) ..وقرا أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن شبل ( تسعة عشر ) بسكون العين وذلك لتوالي الحركات ... وقرأ انس بن مالك وأبو حيوة ( تسعة عشر ) برفع التاء وروي عن انس بن مالك أنه قرأ ( تسعة أعشر ) وضعفها أبو حاتم... وقوله تعالى ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) تبيين لفساد أقوال قريش أي إن جعلناهم خلقا لا قبل لأحد من الناس بهم وجعلنا عدتهم هذا القدر فتنة للكفار ليقع منهم من التعاطي والطمع في المبالغة ما وقع و ( ليستيقن ) اهل الكتاب: التوراة والإنجيل ،أن هذا القرآن من عند الله إذ هم يجدوه هذه العدة في كتبهم المنزلة التي لم يقرأها محمد ولا هو من اهلها ولكن كتابه يصدق ما بين يديه من كتب الأنبياء إذ جميع ذلك حق يتعاضد منزل من عند الله قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد وغيرهم وبورود الحقائق من عندالله عز وجل يزداد كل ذي إيمان إيمانا ويزول الريب عن المصدقين من أهل الكتاب ومن المؤمنين ...وقوله تعالى: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ) نوع من الفتنة لهذا الصنف المنافق او الكافر أي جاروا وضلوا ولم يهتدوا لقصد الحق فجعلوا يستفهم بعضهم بعضا عن مراد الله تعالى بهذا المثل استبعادا ان يكون هذا من عند الله قال الحسين بن الفضل السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق فإنما المرض في هذه الآية الاضطراب وضعف الايمان
# قوله عز وجل:( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ *كَلَّا وَالْقَمَرِ * ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ *عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)
قوله تعالى ( كذلك يضل الله من يشاء ) أي بهذه الصفة وهذا الرين على القلوب يضل من يشاء؛ ثم أخبر تعالى بقوله: (ويهدي من يشاء ) أنه يهدي من المؤمنينمن يشاء لما ورد بذلك لعلمهم بالقدرة ووقوف عقولهم على كنه سلطان الله تعالى فهم موقنون متصورون صحة ما أخبرت به الأنبياء وكتب الله تعالى... ثم قال :( وما يعلم جنود ربك الا هو ) إعلاما بأن الأمر فوق ما يتوهم، وان الخبر إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها، والسماء كلها عامرة بأنواع من الملائكة كلهم في عبادة متصلة وخشوع دائم وطاعة لا فترة في شيء من ذلك ولا دقيقة واحدة ...وقوله تعالى: ( وما هي الا ذكرى للبشر ) قال مجاهد الضمير في قوله ( وما هي ) للنار المذكورة أي يذكرها البشر فيخافونها فيطيعون الله تعالى.. وقال بعض الحذاق قوله تعالى ( وما هي ) يراد بها الحال والمخاطبة والنذارة ... قال الثعلبي وقيل ( وما هي ) يراد نار الدنيا أي إن هذه تذكرة للبشر بنار الآخرة .. وقوله عز وجل ( كلا ) رد على الكافرين وانواع الطاغين على الحق.. ثم قال : (والقمر) أقسم بالقمر، وهذا تخصيص تشريف وتنبيه على النظر في عجائبه وقدرة الله تعالى في حركاته المختلفة التي هي مع كثرتها واختلافها على نظام واحد لا يختل ؛ وكذلك هو القسم : ( والليل )، ( والصبح ) .. فيعود التعظيم في آخر الفكرة وتحصيل المعرفة الى الله تعالى مالك الكل وقوام الوجود ونور السماء والارض لا إله الا هو العزيز القهار ... وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والكسائي وأبو بكر عن عاصم ( إذ أدبر ) بفتح الدال والباء وهي قراءة ابن عباس وابن المسيب وابن الزبير ومجاهد وعطاء ويحيى بن يعمر وأبي جعفر وشيبة وأبي الزناد وقتادة وعمر بن عبد العزيز والحسن وطلحة ... وقرا نافع وحمزة وحفص عن عاصم ( إذا أدبر ) بسكون الدال وبفعل رباعي وهي قراءة سعيد بن جبير وأبي عبد الرحمن والحسن بخلاف عنهم والأعرج وأبي شيخ وابن محيصن وابن سيرين قال يونس بن حبيب ( دبر ) معناه انقضى و ( أدبر ) معناه تولى.. وفي مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب ( إذ أدبر ) بفتح الدال وألف وبفعل رباعي وهي قراءة الحسن وأبي رزين وأبي رجاء ويحيى بن يعمر... وسأل مجاهد ابن عباس عن دبر الليل فتركه حتى إذا سمع المنادي الأول للصبح قال له: يا مجاهد هذا حين دبر الليل ...وقال قتادة دبرالليل ولى ...قال الشاعر الأصمعي :
وأبى الذي ترك الملوك وجمعهم بهضاب هامدة كأمس الدابر
والعرب تقول في كلامها كأمس المدبر ...قال أبو علي الفارسي فالقراءتان جميعا حسنتان...(وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) أي أضاء وانتشر ضوءه قبل طلوع الشمس بكثير ؛ والإسفار رتب أول ووسط وآخر ومن هذه اللفظة السفر والسفر بفتح السين والسفير وسفرت المرأة عن وجهها كلها ترجع الى معنى الظهور والانجلاء ... وقرا عيسى بن الفضيل وابن السميفع ( إذا أسفر ) فكأن المعنى طرح الظلمة عن وجهه وضعفها أبو حاتم ...وقوله تعالى :( إنها لإحدى الكبر) قال قتادة وأبو رزين وغيره الضمير لجهنم ؛ ويحتمل ان يكون الضمير للنذارة وامر الاخرة .. فهو للحال والقصة وتكون هذه الآية مثل قوله عز وجل: ( قل هو نبا عظيم انتم عنه معرضون ) (ص 68 )... و (الكبر ) جمع كبيرة وقرا جمهور القراء ( لإحدى ) بهمزة في ألف إحدى ... وروي عن ابن كثير انه قرا ( لاحدى ) دون همزة وهي قراءة نصر بن عاصم قال ابو علي التخفيف في ( لإحدى الكبر ) ان تجعل الهمزة فيها بين بين؛ فاما حذف الهمزة فليس بقياس ...وقد جاء حذفها ؛ قال أبو الأسود الدؤلي :
يا أبا المغيرة رب امر معضل فرجته بالنكر مني والدها
وانشد ثعلب :
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا وفتخات في اليدين أربعا
وقوله تعالى ؛( نذيرا للبشر ) قال الحسن بن أبي الحسن لا نذير إذ هي من النار .. وهذا القول يقتضي ان ( نذيرا ) حال من الضمير في( إنها ) او من قوله( لإحدى) وكذلك ايضا على الاحتمال في ان تكون (إنها ) يراد بها قصة الآخرة وحال العالم ..وقال ابو رزين : الله جل ذكره هو النذير... فهذا القول يقتضي ان ( نذيرا ) معمول الفعل تقديره ليس نذيرا للبشر او ادعوا نذيرا للبشر... وقال ابن زيد محمد هو النذير... فهذا القول يقتضي أن ( نذيرا )معمول لفعل ... وهذا اختيار الخليل في هذه الآية ، ذكره الثعلبي قال: ولذلك يوصف به المؤنث... وقرا ابن أبي عبلة ( نذير ) بالرفع على إضمار هو.. وقوله تعالى ( لمن يشاء منكم ان يتقدم او يتأخر ) قال الحسن هو وعيد، نحو قوله تعالى :( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (الكهف 29 ) ؛ وقوله تعالى :( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) (الحجر 24 )
قال القاضي أبو محمد هو بيان في النذارة وإعلام أن كل احد يسلك طريق الهدى والحق إذا حقق النظر أي هو بعينه يتاخر عن هذه الرتبة بغفلته وسوء نظره ...ثم قوي هذا المعنى بقوله ( كل نفس بما كسبت رهينة) إذ ألزم بهذا القول ان المقصر مرتهن بسوء عمله ... وقال الضحاك المعنى كل نفس حقت عليها كلمة العذاب ولا يرتهن تعالى احدا من اهل الجنة إن شاء الله والهاء في ( رهينة ) للمبالغة او على تأنيث اللفظ لا على معنى الانسان ...وقوله تعالى ( إلا أصحاب اليمين ) استثناء ظاهر الانفصال ، وتقديره لكن أصحاب اليمين؛ وذلك لأنهم لم يكتسبوا ما هم به مرتهنون .. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :(أصحاب اليمين ) في هذه الآية أطفال المسلمين... وقال ابن عباس: هم الملائكة... وقال الضحاك :هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى ...وقال الحسن وابن كيسان :هم المسلمون المخلصون وليسوا بمرتهنين... ثم ذكر تعالى حال (أصحاب اليمين ) وانهم في جنات يسأل بعضهم بعضا عمن غاب من معارفه ، فإذا علموا انهم مجرمون في النار قالوا لهم او قالت الملائكة: ( ما سلككم في سقر ) ؟ وسلك معناه ادخل ومنه قول أبي وجزة السعدي
حتى سلكن الشوى منهم في مسك من نسل جوابة الآفاق مهداج
قوله عز وجل:( قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً * كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ )...
هذا هو اعتراف الكفار على انفسهم ، وفي نفي الصلاة يدخل الإيمان بالله والمعرفة به والخشوع والعبادة ... والصلاة تنتظم على عظم الدين، وأوامر الله تعالى، وواجبات العقائد ؛ وإطعام المساكين ينتظم على الصدقة فرضا وطواعية وكل إجمال ندبت اليه الشريعة بقول او فعل؛ والخوض في: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) عرفه في الباطل.. قال قتادة المعنى كلما غوى غاوٍ غوَوْا معه ...والتكذيب في :( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) كفر صراح وجهل بالله تعالى... و اليقين في:( حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ) معناه عندي صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة... وقال المفسرون (اليقين ) الموت وذلك عندي هنا متعقب لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي؛ فإنما (اليقين ) الذي عنوا في هذه الآية الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم احياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت .. وإنما يُفَسَّر( اليقين) بالموت في قوله تعالى: ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )( الحجر 99 )... ثم قال تعالى :( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) أيلا تنفعهم ؛ فتقرر من ذلك ان ثم شافعين ... وفي صحة هذا المعنى احاديث قال ( يشفع الملائكة ،ثم النبيون، ثم العلماء، ثم الشهداء، ثم الصالحون، ثم يقول الله تعالى: شفع عبادي وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فلا يبقى في النار من كان له إيمان ) ...وروى الحسن ان الله تعالى يُدخل الجنةَ بشفاعة رجلٍ من هذه الأمة مثلَ ربيعة ومضر ...وفي رواية أبي قلابة أكثر من بني تميم ...وقال الحسن كنا نتحدث ان الشهيد يشفع في سبعين من اهل بيته... ثم قال عز وجل ( فما لهم عن التذكرة معرضين) أي والحال المنتظرة هي هذه الموصوفة ...وقوله تعالى في صفة الكفار المعرضين بتول واجتهاد في نفور ( كانهم حمُر مستنفرة ) إثبات لجهالتهم لأن الحمُر من جاهل الحيوان جدا ...وقرا الأعمش ( حمر ) بإسكان الميم ...وفي حرف ابن مسعود ( حمر نافرة ) ...وقرا نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم ( مستنفرة ) بفتح الفاء ...وقرا الباقون بكسرها ...واختلف عن نافع وعن الحسن والأعرج ومجاهد.. فاما فتح الفاء فمعنى استنفراها فزعُها من القسورة ،وأما كسر الفاء فعلى ان نفر واستنفر بمعنى واحد مثل عجب واستعجب وسخر واستسخر فكانها نفرت هي ، ويقوي ذلك قوله تعالى ( فرَّت ) وبذلك رجح أبو علي قراءة كسر الفاء في( مستنفٍرة ) ... واختلف المفسرون في معنى القسورة، فقال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة ( القسورة ) الرماة... وقال ابن عباس ايضا وابو هريرة وجمهور من اللغويين ( القسورة ) الأسد ،ومنه قول الشاعر :
مضمر تحذره الأبطال كانه القسورة الرئبال
وقال ابن جبير ( القسورة ) رجال القنص ...وقاله ابن عباس ايضا وقيل ( القسورة ) ركز الناس... وقيل ( القسورة ) الرجال الشداد قال لبيد # ( إذا ما هتفنا هتفة في ندينا % أتانا الرجال العاندون القساور ) # وقال ثعلب ( القسورة ) سواد اول الليل خاصة لآخره ...او اللفظة مأخوذة من القسر الذي هو الغلبة والقهر... وقوله تعالى ( بل يريد كل امرىء منهم ان يؤتى صحفا منشرة ) معناه من هؤلاء المعارضين، أي يريد كل انسان منهم ان ينزل عليه كتاب من الله وكان هذا من قول عبد الله بن أبي امية وغيره .. وروي ان بعضهم قال إن كان يكتب في صحف ما يعمل كل انسان فلتعرض ذلك الصحف علينا فنزلت الآية... و ( منشرة )معناه منشورة غير مطوية وقرا سعيد بن جبير ( صحفا ) بسكون الحاء وهي لغة يمانية وقرأ ( منشرة ) بسكون النون وتخفيف الشين وهذا على ان يشبه نشرْت الثوب بأنشر اللهُ الميت إذا لطى كالموت وقد عكس التيمي التشبيه في قوله :
ردت صنائعه عليه حياته فكأنه من نشرها منشور
ولا يقال في الميت يحيى منشور الا على تشبيه بالثوب واما محفوظ اللغة فنشرت الصحيفة وأنشر الله الميت وقد جاء عنهم نشر الله الميت.... وقوله تعالى ( كلا ) رد على إرادتهم أي ليس الأمر كذلك ...ثم قال ( بل لا يخافون الآخرة ) المعنى هذه العلة والسبب في إعراضهم فكان جهلهم بالاخرة سبب امتناعهم للهدى حتى هلكوا .وقرأ أبو حيوة ( تخافون ) بالتاء من فوق رويت عن ابن عامر ثم اعاد الرد والرجز بقوله تعالى( كلا ) وأخبر ان هذا القول والبيان وهذه المحاورة بجملتها ( تذكرة )... (فمن شاء ) وفقه الله تعالى لذلك ذكر معاده فعمل له ثم اخبر تعالى ان ذكر الإنسان معاده وجريه الى فلاحه إنما هو كله بمشيئة الله تعالى وليس يكون شيء الا بها ،قال : ( وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) .. وقرا نافع وأهل المدينة وسلام ويعقوب ( تذكرون ) بالتاء من فوق وقرا أبو جعفر وعاصم وأبو عمرو والأعمش وطلحة وابن كثير وعيسى والأعرج ( يذكرون ) بالياء من تحت وروي عن أبي جعفر بالتاء من فوق وشد الذال كانه تتذكرون فأدغم ...وقوله تعالى (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) خبر جزم معناه ان الله تعالى اهل بصفاته العلى ،ونعمه التى لا تحصى، ونقمه التى لا تدفع لأن يُتَّقى ويُطاع ، ويُحذَر عصيانُه وخلافُ أمره ،وأنه بفضله وكرمه أهلٌ ان يغفرَ لعباده إذا اتقوه... وروى أنس بن مالك ان النبي فسر هذه الآية فقال: يقول ربكم جلَّت قدرتُه وعظمتُه أنا أهلٌ ان أُتَّـقى فلا يُجْعَـل معي إلهُُ غيري.. ومن اتقى ان يجعل معي إلهاً غيري فأنا أغفرُ له.. وقال قتادة معنى الآية هو أهل ان تُتَّقى محارمُه وأهل ان يغفِر الذنوب ...