1. المقالات
  2. من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
  3. اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ

اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ

الكاتب : د. محمد بكر إسماعيل
10523 2019/01/08 2024/11/15
المقال مترجم الى : English हिन्दी اردو

عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، ثُمَّ قَالَ "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ".

*     *     *

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعظ أصحابه ويذكرهم بعواقب الأمور، ويرغبهم في الجنة ويحذرهم من النار، وذلك في أوقات فراغهم من العمل وخلو قلوبهم من شواغل الدنيا، فكان أحياناً يبكيهم ويبكي معهم من خشية الله، وهو أتقاهم وأخشاهم له جل شأنه، حتى كان بعضهم يخيل إليه أنها آخر موعظة يلقيها إليهم.

 

ولقد ذكر النار يوماً فتعوذ بالله منها، وهو آمن من شرها، وفكيف بنا نحن وقد تراكمت علينا الذنوب وأحاطت بنا الخطايا من كل جانب، وليس لنا من العمل الصالح ما ينقذنا من حرها.

 

وقد أشاح بوجهه ثلاث مرات، أي اعرض عنهم بوجهه، فالتفت يميناً وشمالاً كأنه يراها فيتقيها، بدليل ما رواه مسلم في صحيحه عن عدي بن حاتم أيضاً أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذكر النار فأعرض وأشاح.

 

فالإعراض هو الإدبار، والإشاحة هي الالتفات يميناً وشمالاً رغبة في الهرب، وهو نوع من الإعراض وليس مرادفاً له.

 

ثم قال بعد أن أراهم من نفسه الخشية من عذابها: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ".

أي اجعلوا لأنفسكم وقاية من عذابها بشيء من أموالكم تخرجونه لوجه الله تعالى.

 

"وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ": أي بحسب طاقتكم وبقدر وسعكم؛ فإن الله – عز وجل – لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولا يبخسهم شيئاً من أعمالهم أبداً.

 

يقول الله – عز وجل – : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } (سورة النساء: 40).

ويقول جل شأنه: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (سورة الأنيياء: 47).

 

ويقول عز من قائل: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا  يَرَهُ } (سورة الزلزلة: 7-8).

 

وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم – بهذه الوصية أن ينزع من قلوبهم صفة البخل؛ لأنها من أقبح الصفات وأخسها، فالبخيل عدو الله وعدو نفسه، وعدو الناس أجمعين.

 

فمن بخل بماله أو بعلمه أو بقوته أعرض الله عنه، ومن أعرض الله عنه فله الويل في الدنيا والآخرة.

 

ويقول الله – عز وجل - :{ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } (سورة محمد: 38).

 

وقد وردت أحاديث في ذم البخل تشيب منها الولدان منها:

 

1- ما رواه مسلم في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ – رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ".

 

2- وروى النسائي وابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح والحاكم واللفظ له عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه – أّنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَداً، وَلَا يَجْتَمِعُ شُّحُّ وَإِيمَانُ فِي قَلبِ عَبْدٍ أبداً". 

 

3- وروى الترمذي في سننه عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ – أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ، وَلَا مَنَّانٌ، وَلَا بَخِيلٌ".

 

4- وروى الترمذي أيضاً في سننه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ  – رضي الله عنه - أَنَّ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَلَ: "خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ".

 

5- وروى الترمذي في سننه كذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ  النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنْ اللَّهِ، قَرِيبٌ مِنْ الْجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنْ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنْ النَّارِ، وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ، بَعِيدٌ مِنْ الْجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنْ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنْ النَّارِ، وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ عَالِمٍ بَخِيلٍ".

 

والرسول – صلى الله عليه وسلم – قدوة للمؤمنين في كل خلق فاضل وسلوك نبيل، وهو في مجال البر وأكرم الناس على الإطلاق وأجودهم، فلقد كان أجود من الريح المرسلة في جميع أوقاته، وكان أجود ما يكون في رمضان، كما أخبرنا عنه أصحابه الكرام.

 

لهذا كان يحثهم على الإنفاق في سبيل الله، ويبين لهم جزاء المحسنين مترجماً بأقواله وأفعاله ما جاء في القرآن الكريم.

 

مثل قوله تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } (سورة البقرة: 245).

 

وقوله جل شأنه: { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } (سورة الأنفال: 60).

 

وقوله عز من قائل: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } (سورة سبأ: 39).

 

ولا يقولن قائل: ليس عندي ما أنفقه، ولا يحتقرن إنسان شيئاً ينفقه، فهذا وذاك لا ينبغي أن يصدر عن المؤمن وقد علم أن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة.

 

ونصف التمرة يقي منفقه من عذاب، وهو شيء هين ولا سيما عند أهل المدينة في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد كان التمر لديهم كثيراً ورخيصاً.

 

وقد قال الله – عز وجل – { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } (سورة الطلاق: 7).

*     *     *

وقد قطع النبي – صلى الله عليه وسلم – عنق اللجاج في هذا الأمر، وعذر كل إنسان من نفسه بقوله: "فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ".

 

فماذا بعد ذلك!!

والمعنى: فإن لم تجدوا شق تمرة تخرجون به من البخل الذي يؤدي بصاحبه حتماً إلى النار ما لم ينب منه – فاتقوا النار بكلمة طيبة تكون لكم قرباناً عند الله وفداء من عذابه.

 

وقد قال الله – عز وجل-: { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } (سورة البقرة: 263).

 

ومعنى كونه خيراً من صدقة يتبعها أذى: أن الكلمة الطيبة يكون لها وقع طيب وقبول حسن عند من ووجه بها، وأحياناً تكون هذه الكلمة الطيبة أفضل بكثير من الصدقة التي لا يتبعها أذى.

 

ومن هذا نعلم أن الصدقة التي يتبعها أذى لا خير فيها أصلاً.

 

وأفعل التفضيل ليس على بابه، ولكن جاء لبيان أن من الخير للإنسان أن يكتفي بالكلمة الطيبة عن صدقة لا ثواب له فيها لما يتبعها من الأذى.

 

والله غني عن هذه الصدقة المصحوبة بما يبطلها، وحليم على من يكون حليماً على الناس، والجزاء من جنس العمل.

 

وقد أوصانا عز وجل بحسن الاعتذار عند عدم وجود ما ننفق منه على ذوي القربى واليتامى وابن السبيل والمساكين، فقال جل شأنه: { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا } (سورة الإسراء: 28).

 

والمعنى: إذا ما أردتم أن تعتذروا لهؤلاء الفقراء عن قضاء حوائجهم بسبب فقدان ما تعينونهم فعدوهم وعداً حسناً، كأن تقولوا لهم: نحن نبتغي من الله الفرج وسيرزقنا الله قريباً رزقاً حسناً، ونحن لا ندخر وسعاً في قضاء حوائجكم إن شاء الله، وكنا نود أن نكون عند حسن ظنكم بنا. إلى آخر ما هناك من كلام طيب.

 

نسأل الله صلاح الحال والتوفيق لصالح الأعمال.

*     *     *

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day