البحث
الحديث العشرون: ( وليمة جابر يوم الخندق)
روى الشيخان والبيهقي، واللفظ للبخاري عن جابر بن عبدالله:
إنّا يَومَ الخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجاؤُوا النبيَّ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالوا: هذِه كُدْيَةٌ عَرَضَتْ في الخَنْدَقِ، فَقالَ: أنا نازِلٌ. ثُمَّ قامَ وبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بحَجَرٍ، ولَبِثْنا ثَلاثَةَ أيّامٍ لا نَذُوقُ ذَواقًا، فأخَذَ النبيُّ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ المِعْوَلَ فَضَرَبَ، فَعادَ كَثِيبًا أهْيَلَ، أوْ أهْيَمَ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لي إلى البَيْتِ، فَقُلتُ لِامْرَأَتِي: رَأَيْتُ بالنبيِّ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ شيئًا ما كانَ في ذلكَ صَبْرٌ، فَعِنْدَكِ شيءٌ؟ قالَتْ: عِندِي شَعِيرٌ وعَناقٌ، فَذَبَحَتِ العَناقَ، وطَحَنَتِ الشَّعِيرَ حتّى جَعَلْنا اللَّحْمَ في البُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النبيَّ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ والعَجِينُ قَدِ انْكَسَرَ، والبُرْمَةُ بيْنَ الأثافِيِّ قدْ كادَتْ أنْ تَنْضَجَ، فَقُلتُ: طُعَيِّمٌ لِي، فَقُمْ أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ ورَجُلٌ أوْ رَجُلانِ، قالَ: كَمْ هو فَذَكَرْتُ له، قالَ: كَثِيرٌ طَيِّبٌ، فَقالَ: قُومُوا فَقامَ المُهاجِرُونَ، والأنْصارُ، [قَالَ فَاسْتَحَيْتُ حياء حَتَّى لَا يَعْلَمَهُ إِلَّا اللَّه] فَلَمّا دَخَلَ على امْرَأَتِهِ قالَ: ويْحَكِ جاءَ النبيُّ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالمُهاجِرِينَ والأنْصارِ ومَن معهُمْ، قالَتْ: هلْ سَأَلَكَ؟ قُلتُ: نَعَمْ، [قَالَتِ: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَدْ أَخْبَرْتَهُ بِمَا كَانَ عِنْدَكَ، فَذَهَبَ عَنِّي بَعْضُ مَا كُنْتُ أَجِدُ، قُلْتُ: لَقَدْ صَدَقْتِ] [فَأَخْرَجْتُ لَهُ عَجِينَتَنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ] فَقالَ: ادْخُلُوا ولا تَضاغَطُوا فَجَعَلَ يَكْسِرُ الخُبْزَ، ويَجْعَلُ عليه اللَّحْمَ، ويُخَمِّرُ البُرْمَةَ والتَّنُّورَ إذا أخَذَ منه، ويُقَرِّبُ إلى أصْحابِهِ ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الخُبْزَ، ويَغْرِفُ حتّى شَبِعُوا [وهم ألف] وبَقِيَ بَقِيَّةٌ، قالَ: كُلِي هذا وأَهْدِي، فإنَّ النّاسَ أصابَتْهُمْ مَجاعَةٌ.
الرواية مجمعة من البخاري (4101)، ومسلم (141)، ودلائل النبوة (1318)
المعاني:
كُدْيَةٌ: قطعة صلبة من الأرض لا تؤثر فيها آلات الحفر. وَبطْنُهُ مَعْصُوبٌ بحَجَرٍ: مربوط عليه حجر من شدة الجوع. لا نَذُوقُ ذَواقًا: لم نذق طعاما مطلقا. المِعْوَلَ: الفأس الذي يكسر به الحجر. كَثِيبًا أهْيَلَ، أوْ أهْيَمَ: تفتتت حتى صارت كالرمل ينهال فيتساقط من جوانبه ويسيل من لينه، وأهيل وأهيم بمعنى واحد. عَناقٌ: الأنثى من ولد المعز. البُرْمَةِ: القِدْر، من آنية الطبخ. العَجِينُ قَدِ انْكَسَرَ: صار لينا وتمكَّن فيه الخمير.
| الأثافِيِّ: جمع الأُثـْفية وهي الحجارة التي توضع عليها القدر أثناء الطبخ. طُعَيِّمٌ: تصغير طعام وصغَّره لقلته. فَبَصَقَ: تفَّ من ريقه الشريف صلى الله عليه وسلم لبيان مكرمته عند الله عزوجل. خَابِزَةً: امرأة تساعدها في الخبز. تَضاغَطُوا: تزاحموا. يُخَمِّرُ: يغطي. يَنْزِعُ: يتوقف ثم يعاود السكب. مَجاعَةٌ: شدة الجوع. |
الفوائد (32 فائدة)
الفوائد العقائدية:
1. للنبي صلى الله عليه وسلم صفات جليلة ومنها التواضع والزهد والصبر على الجوع والكرم والمواساة لأصحابه فيجوع معهم ولا يشبع دونهم.
2. بركة النبي صلى الله عليه وسلم في جسده وريقه وعرقه وأغراضه الشخصية والمواضع التي صلى فيها.
3. معجزة تكسير الكدية فاستحالت ترابا بضربة واحدة، وفي ثلاث ضربات في رواية أخرى.
4. معجزة إطعام أكثر من ألف رجل من طعام رجلين أو ثلاثة وبقاء الطعام كما هو لم ينقص.
5. وجوب الأخذ بالأسباب وأنه من كمال التوكل على الله، إذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ برأي سلمان الفارسي لحفر الخندق كوسيلة للدفاع عن المدينة، كما أنه ضرب الكدية التي في الخندق بالمعول، مع أنه كان قادراً على أن يدعو الله أن يزيلها عنهم.
الفوائد الفقهية:
1. جواز المساررة بين رجلين بحضرة الجماعة للحاجة وإنما النهي أن يتناجى اثنان دون ثالث.
2. الأصل أن يجيب الإنسان الدعوة إلى الطعام وحده ويستأذن لمن صحبه من غير المدعوين، وإن لم يأذن صاحب الدعوة يعود غير المدعوين، ودليل ذلك فعله صلى الله عليه وسلم عندما دعاه أبو شعيب الأنصاري فتبعه رجل لم تشمله الدعوة فاستأذن له: "إنَّ هَذَا تَبَعٌ فَإِنْ شِئْت أَذِنْت لَهُ وَإِنْ شِئْت تَرَكْته"، وقد خالف هذا الأصل في وليمة جابر لأنها دعوة على بركة النبي صلى الله عليه وسلم وليس جابر هو من سيطعمهم.
3. وردت رواية "فَذَبَحَتِ العَناقَ" بكسر التاء، فالذابح هو امرأة جابر، وفيه جواز ذبيحة المرأة وهو ثابت من أدلة أخرى أيضا، خلافا لما يشيع بين بعض العامة.
4. جواز إرشاد الضيف ونصحه لصاحب البيت.
5. جواز مخاطبة الضيف لنساء من أهل البيت بتوجيه أو شكر من غير خلوة ولا ريبة.
الفوائد الدعوية:
1. لا يشبع القائد والداعية والجنود جياع، فقد ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه من شدة الجوع كعامة الناس.
2. لا تعجل فإن النصر مع الصبر وإن مع العسر يسرا، فخير الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ظلوا ثلاثة أيام بلا طعام في برد وجهد وفي حفر شاق شديد، وتتأخر إغاثة الله لهم بوليمة جابر إلى اليوم الرابع، وكان قادرا سبحانه أن يطعمهم من اليوم الأول، ولكن ليبتلي المؤمنين ويرفع درجتهم ويطهر صفهم من أهل النفاق.
3. الطريق إلى النصر والتمكين هو طريق وَعِر، مليء بالعقبات والصِّعاب، كتلك الكدية التي عَرَضَت للمسلمين في الخندق، وهو ما يتطلب وجود الرجال الأشداء من المؤمنين الصادقين، الذين يحملون المبادئ والقيم، والذين على أتمِّ الاستعداد لتَحَمُّلِ المصاعب والآلام والتضحية بكل غال ونفيس في سبيل نصرة هذا الدين.
الفوائد العامة:
1. اللجوء إلى أهل الذكر والتخصص في المعضلات.
2. مبادرته وسرعة استجابته صلى الله عليه و سلم بقوله: "أنا نازِلٌ".
3. الاستئذان لمغادرة التجمع.
4. حبّ الصحابة للنبي صلى الله عليه و سلم حتى ما استطاع جابر أن يرى أثر الجوع عليه.
5. الإيثار والبذل عند الصحابة، فقد وضع جابر كل ما يملك من طعام في بيته وليمة لرسول الله صلى الله عليه.
6. "فَاسْتَحَيْتُ حياء حَتَّى لَا يَعْلَمَهُ إِلَّا اللَّه" أنه لا يصح لإنسان أن يدعو لطعامه أكثر من قدرته على الضيافة فيفضح نفسه، ويُخجل الحاضرين.
7. فقه زوجة جابر ودينها رضي الله عنهما حيث آمنت ووثقت ببركة النبي صلى الله عليه وسلم، وطمأنت زوجها بكلمات كقول خديجة لرسول الله صلى الله عليه حين نزل عليه الوحي "والله لا يخزيك الله أبدا".
8. "قُلْتُ: لَقَدْ صَدَقْتِ" عدم استكبار الرجال عن مشورة النساء، وإخبارهن بصدق مشورتهن وصحتها وقد تكرر ذلك في السنة مرارا.
9. وردت رواية "فَذَبَحَتُ العَناقَ" بضم التاء، فالذابح هو جابر، وفيه تعاون الزوجين في إعداد الطعام.
10. معونة المرأة زوجها في أضيافه وخدمتها في بيتها وطعامها.
11. "كَثِيرٌ طَيِّبٌ" الثناء على الطعام وإن كان قليلا أو غير جيد.
12. "ادعي خابزة فلتخبز معك" فيه تعاون النساء والجيران في الولائم ودعم المجاهدين.
13. "ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ" طمأنة منه صلى الله عليه وسلم لأهل البيت وإشارة إلى قرب وقوع المعجزة وكثرة العمل الذي سيستدعي المعاونة، وإلا فصاع الشعير كما ورد في روايات أخرى ليس ما يستدعي اجتماع النساء لإعداده.
14. "ادْخُلُوا ولا تَضاغَطُوا" تنبيه على أهمية النظام وقيام القائد على ضبط النظام لإنجاز المهمات، في رواية أخرى "أدخل عليَّ عشرة عشرة".
15. فضل الثريد(خبز مكسَّر مع لحم)، وكون البركة معه.
16. مباشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكسير الخبز بنفسه وسكبه الطعام لألف رجل، على مشقة ذلك، لتحل فيه بركته.
17. "ويُخَمِّرُ البُرْمَةَ والتَّنُّورَ" يغطي البرمة إذا أخذ منها، بحيث يزيد الطعام ولا يراه أحد، ليكفهم عن التساؤل: هل بقي شيء؟ وهل سيكفي الناس؟ فينقص بالسؤال توكلهم على الله وثقتهم في مدده.
18. "كُلِي هذا وأَهْدِي" التهادي بالطعام سنة ومواساة.
الفوائد اللغوية:
1. الأثافي: جمع أثفية، وهي حجارة توضع تحت القدر عندما توقد النار، وكانت العرب إذا أرادوا أن يطبخوا يأتون بثلاث أحجار، يقال لها: أثافي كانوا يضعونها تحت القدر، فإذا لم يجدوا إلا حجرين وضعوهما إلى جنب الجبل، حتى يصير الجبل مكان الحجر الثالثة، وهذه هي التي يسمونها ثالثة الأثافي، وقولهم: رماه بثالثة الأثافي، أي: القطعة من الجبل كأنه يقول: رماني بداهية كالجبل