1. المقالات
  2. من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
  3. لَأَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَترُكُهم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ

لَأَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَترُكُهم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ

الكاتب : الدكتور محمد بكر إسماعيل
12924 2019/04/01 2024/12/18
المقال مترجم الى : English हिन्दी اردو Español

 

 
عَنْ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي - وَأَنَا بِمَكَّةَ - وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا.
قَالَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ". 
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟
قَالَ: "لَا".
قُلْتُ: فَالشَّطْرُ.
قَالَ: "لَا".
قُلْتُ: الثُّلُثُ.
قَالَ: "فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ"، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ابْنَةٌ.
 
الحياة المطمئنة: عقيدة صحيحة، وعمل صالح، وخلق فاضل، وسلوك نبيل.
 
وينبني هذا كله على معرفة الله تعالى بأسمائه الكمالية وأوصافه العليا.
 
ومن أهم عوامل التوفيق الإلهي في هذه الحياة أن ينظر الإنسان فيدرك ثم يعقد، ويؤمن ثم يخلص في إيمانه، ويعيش على مبادئه فيلتزمها، ويدعو إليها بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار البناء، ويدافع عنها ويضحي من أجلها بالنفس والنفيس، ويحقق لهذه المبادئ الإيمانية صورة صادقة في أقواله وأفعاله وأحواله.
 
فإذا صفا القلب، وتقت السريرة، وصح القصد، وحسنت النبية، وطاب القول، وصلح العمل، واستقام السلوك فقد صار هذا العبد موصول الأسباب بالله جل جلاله، إذا سأله أعطاه، وإذا قصده لا يضام.
ولقد ضرب لنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثال في هذا المجال فكانوا ربانيين – رهباناً بالليل وفرساناً بالنهار، لا يدخرون جهداً في نصرة الإسلام، ولا يتركون في الخير طريقاً إلا سلكوه راشدين مسترشدين.
 
منهم الفارس المغوار سعد بن أبي وقاص الزهري – رضي الله عنه وأرضاه -.
 
فهو سابع سبعة بادروا إلى الإسلام، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، وهو أحد الستة الذين رشحهم عمر بن الخطاب ليختار المسلمون للخلافة من بعده واحداً منهم بعد أن طعنه أبو لؤلؤة المجوسي.
 
وكان سعد – رضي الله عنه – أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان بارعاً في الرمي إلى حد أثار إعجاب النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه الكرام البررة.
 
وقد واصل سعد – رضي الله عنه – جهاده مع الرسول – صلى الله عليه وسلم – يحمل روحه على راحته، ويقدمها في كل موطن من مواطن البذل والفداء لنصرة دين الله وإعزاز كلمته.
 
وظل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم موضع ثقة أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – في الريادة والقيادة، فكان كل منهما يقدمه على غيره في إمرة الجيوش الإسلامية، فخاض كثيراً من المعارك وأبلى بلاء حسناً في أكثرها، وفتحت على يديه المدائن عاصمة الفرس، وعمر حياته كلها بالإيمان، وتوج جهاده بالموت في سبيل الله، فقد عاش ثمانين سنة حافلة بالبطولات النادرة، والتضحيات الغالية، فكان قدوة للأبطال في جميع الأجيال.
 
ولهذا البطل الفذ مآثر خالدة ذكرها أصحاب التواريخ والسير لا غنى للمسلم عن معرفتها.
 
من أهمها أنه كان مجاب الدعوة، ولقد دعا له الرسول – صلى الله عليه وسلم – فقال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك".
وقال أيضاً: "اللهم سدد سهمه، وأجب دعوته، وحببه إلى عبادك".
 
واستجاب السميع العليم لنداء رسوله ورجائه، فما دعا سعد ربه يوماً إلا استجاب دعاءه.
 
ومن ذلك ما روته كتب السير أن رجلاً فاجراً كان يسب علياً وطلحة والزبير فنهاه سعد عن ذلك، وحذره من غضب الله وعذابه، وتهدده بأن يدعو عليه دعوة تفت في عضده إذا لم يكف عن سب هؤلاء الأخيار.
 
فقال مستخفاً: يتهددني سعد كأنما يتهددني نبي.
 
فدعا سعد ربه فقال: اللهم إن كنت تعلم أنه سب أقواماً قد سلفت لهم منك سابقة، وأسخطك سبه أياهم، فأره اليوم آية تكون للعالمين.
 
ولم يمض إلا قليل حتى عدت عليه ناقة شاردة فوطئته فمات من إصابته.
وصدق الله إذ يقول: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } (سورة المائدة: 27).
 
ومن مآثره – رضوان الله عليه – أنه مع صرامته في الحق وغيرته على الإسلام والمسلمين كان يحمل بين جوانحه قلباً نقياً طهوراً لا يعرف حقداً ولا حسداً، ولا يفكر أدنى تفكير في أذى مسلم مهما وجد منه ما يكره.
 
وروي أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال لصحابته: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وتطلع الصحابة فإذا سعد مقبل، ولما سأله عبدالله بن عمرو بعد ذلك عن السبب في استحقاقه هذه البشرى، أجابه سعد بقوله: لا شيء أكثر مما نعمل ونعبد، غير أني لا أحمل لأحد من المسلمين ضغناً ولا سوءاً".
 


وكان سعد – رضي الله عنه – بفتدي دينه بأغلى الأشياء لديه، ويشير إلى هذا أنه حيننما أسلم، كانت أمه على شركها، وقالت له غاضبة: يا سعد، ما هذا الدين الذي قد أحدثته؟ لتتركن دينك هذا، أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فيعيرك الناس ويقولون لك: يا قاتل أمه.
 
فقال لها سعد: لا تفعلي يا أماه، فإني لا أترك ديني هذا لشيء فأضربت عن الطعام والشراب حتى ضعفت. فجاءها فقال لها في عزم وتصميم: يا أماه، والله لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، فإن شئت فكلي أو لا تأكلي. فلما رأت من الجد أكلت.
 
وفي هذه الحادثة وأمثالها نزل قول الله تعالى: { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (سورة لقمان: 14- 15).
 
ولقد فاز سعد بحب النبي – صلى الله عليه وسلم – فوزاً عظيماً، وفاخر به أصحابه فكان يقول كما روى الترمذي – في سننه - : "هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ".
 
وكان – رضي الله عنه – كما أشرنا من قبل – من بني زهرة، أجداد النبي – صلى الله عليه وسلم – من جهة أمه.
 
ومعذرة إن كنا قد أطلنا الحديث عن هذا الصحابي الجليل؛ فإننا أردنا أن نعطر أنفاسنا بسيرته العطرة، قبل أن نتعرف على ما جاء في هذا الحديث الذي رواه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-.
 
قال – رضي الله عنه - : "جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي - وَأَنَا بِمَكَّةَ - وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا".
 


وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يزور أصحابه في بيوتهم إذا كانوا مرضى، أو قدموا من سفر، أو شغلوا بأنفسهم عن الحضور إلى مسجده الجامع، فوافق يوماً عاد فيه سعداً – رضي الله عنه – إذ كان يعاني من مرض شديد ألم به فحسبه مرض الموت، ففكر في أمره ماذا يفعل بماله، وهو بمكة يومئذ ولم يكن بالمدينة دا الهجرة، وكان – رضي الله عنه – يكره أن يموت بمكة خشية أن ينقص أجره عن أج من مات بالمدينة.
 
 
وقال ابن حجر: في قوله: "وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا"، يحتمل أن تكون الجملة حالاً من الفاعل أو من المفعول، وكل منهما محتمل؛ لأن كلا من النبي –صلى الله عليه وسلم – ومن سعد كان يكره ذلك، لكن إن كان حالاً من المفعول وهو سعد ففيه التفات؛ لأن السياق يقتضي أن يقول وأنا أكره.
 
وقد أخرج مسلم من طريق حميد بن عبدالرحمن عن ثلاثة من ولد سعد عن سعد بلفظ: "فقال: يا رسول الله خشيت أن أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرت مِنْهَا، كَمَا مَاتَ سَعد بن خولة".
 
وللنسائي من طريق جرير بن يزيد عن عامر بن سعد: لكن البائس سعد بن خولة ماتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا".
 
وله من طريق بكير بن حمار عن عامر بن سعد في هذا الحديث، فقال يا رسول الله أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا؟ قَالَ: "لَا إِن شَاءِ الله تَعَالى" ا.هـ.
 
وقد كان أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – يحبون الموت في دار الهجرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى عليه، ولعلهم عرفو أنه سيموت بها، ويدفن فيها، وقد مات فيها كثير من السابقين إلى الإسلام.
 
وقوله – صلى الله عليه وسلم – : "يرحم الله ابن عفراء، وهو سعد بن خولة، رثاء له أن مات بمكة ولم يمت بدار الهجرة، وكان يتمنى – سعد بن خولة – أن يموت بها.
 
وسعد بن خولة هذا: رجل من بني عامر بن لؤي، كما ذكر ابن حجر عن ابن عيينة، وقد ذكره النبي – صلى الله عليه وسلم – ورثا له حين كان عند سعد بن أبي وقاص، لأن الشيء بالشيء يذكر.
 
ويطيل سعد بن أبي وقاص في مقدمة الحديث شارحاً موقفه، ومستحضراً قصته مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ لأن هذا الذي يذكره من الذكريات التي لا تنسى، وفيها ما فيها من الدلالة على التقدير العظيم لتواضع النبي – صلى الله عليه وسلم – في معاملة أصحابه، وحسن معاشرتهم، وخفض جناحه لهم، ومشاركته آمالهم وآلامهم.
 
 
قال سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه – بعد هذه المقدمة، قلت يا رسول الله: أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟
 
وهو استفهام له ما بعده، فسعد يريد أن يقدم لنفسه في آخرته كل ما يجمعه من مال، لكنه يخشى أن يكون في ذلك ظلم لورثته، وهو يتمنى من أعماق قلبه أن يأذن له الرسول – صلى الله عليه وسلم – في ذلك، فماله في الحقيقة خير من مال وارثه.
 
ومال المرء ما قدمه، ومال وارثه ما خلفه وراءه بعد موته. كما سيأتي بيانه في حديث آخر مفصلاً إن شاء الله تعالى.
 
وقد سأل سعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا السؤال، لشعوره بقرب أجله، وهذا شأن من يريد أن يتخلص من كل ما يتعلق به قلبه من حطام الدنيا، ويدخره عند الله – عز وجل – لينمو ويزيد، حتى تكون الثمرة مثل جبل أحد، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق – صلى الله عليه وسلم - .
 
وأصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – يَعُونَ كل كلمة سمعوها منه، ويضعونها نصب أعينهم، ويروونها للأجيال من بعدهم بأمانة؛ لتكون جافزاً لهم على العمل الصالح، والخلق الفاضل.
 
سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – سؤاله ووعاه وأدرك فحواه، فأجابه بقوله: "لَا".
قال: قلت: فَالشَّطْرُ؟، أي فالنصف أتصدق به وأبقى النصف الآخر لورثتي.
 
قال الرسول – صلى الله عليه وسلم-: "لَا".
قال سعد: قُلْتُ: الثُّلُثُ؟
قَالَ الرسول – صلى الله عليه وسلم -: "فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ"، أي فالثلث تصدق به وهو كافيك، وإنه كثير في الأجر.
 
وقيل: هو كثير عليك إخراجه، ولكن عليك أن تتحرى حاجة ورثتك إلى مالك فتخرج منه ما لا يضر بهم.
 
وإن كانوا في حاجة إليه فلا تخرج منه إلا اليسير كالسدس ونحوه. والباقي يكون للورثة ولك أجر ما تركت لهم.
 
وهذه المسألة تحتاج منا إلى تحقيق سيأتيك ذكره قريباً إن شاء الله تعالى.
 
وقد علل النبي – صلى الله عليه وسلم – هذا الجواب بقوله: "إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ".
 
والمعنى: لو أنك تركت ورثتك أغنياء خير لك ولهم من أن يكونوا فقراء يسألون الناس بأكفهم، فيضعون في أيديهم شيئاً مما لديهم، فتكون المسألة مذلة لهم في الدنيا والآخرة.
 
والمراد بالغنى في الحديث: الكفاية، وليس المراد كثرة المال، فقد لا يتوفر لهم ذلك.
 
فمن وجد في الحياة ما يكفيه من المأكل والمشرب، والملبس والمسكن وغير ذلك مما هو في حاجة إليه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها.
 
والعالة: هم الذين يكونون حملاً على غيرهم بمعنى: أنهم يستجدون منهم حوائجهم، ويسألونهم من فضول أموالهم.
يقال: فلان عالة على فلان. يعني: حمل عليه يعيش على ما يعطيه.
وفلان عال فلان يعني: أعطاه ما يقتات به.
وسمي الأولاد عيالاً: لحاجتهم إلى من يعولهم.
 
والعيلة: الفقر، كما في قوله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } (سورة التوبة: 28).
 
و"أن" في قوله: "إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ" مفتوحة الهمزة للتعليل، وقيل: يجوز كسرها على أنها شرطية، والصواب الأول.
 
وقال: "يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" ولم يقل يسألون الناس – مبالغة في تصوير حالهم عند السؤال. إذ يمدون أكفهم لهذا وذاك، فيضيع الناس فيها ما تحمله الكف، وهو شيء غالباً ما يكون قليلاً تافهاً.
 
وأصل التكفف: طلب الكفاف، وهو القليل الذي يكف عن المرء جوعته إلى حين، وهو شيء مذموم لا يلجأ إليه إلا من عضه الجوع وأضناه الفقر. فتأمل ذلك ولا يغب عن ذهنك فصاحة خير الخلق في التعبير، ودقته في التصوير، وورعته في البيان.
 
 
ويواصل النبي – صلى الله عليه وسلم – كلامه النفيس مع خاله وحبه فيقول: "وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ".
 
والمعنى واضح مشرق يحمل في طياته البشرى والسرور بوعد الله – عز وجل – الوارد على لسانه، وهو لا ينطق عن الهوى.
 
وكأني برسول الله – صلى الله عليه وسلم – يشير إلى آيات بينات تطمئن المؤمن على يومه وغده، وتبشره بصلاح الحال والمآل، وقبول الأعمال مهما قل حجمها أو نفعها.
 
ومن هذه الآيات قوله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } (سورة البقرة: 270).
 
وقوله: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } إلى قوله: { وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } (سورة آل عمران:195).
 
وفي هذا القول الحكيم لطيفة من اللطائف الشرعية يستنبطها الفقيه المتمكن في الأصول والفروع.
 
خلاصتها: أن الإنفاق على من تجب علينا نفقته ثوابه أعظم من الإنفاق على من لم تجب علينا نفقته.
 
فالورثة مثلاً، فيهم من تجب عليك نفقته في حياتك فما تركته لهم بعد موتك يكون امتداداً لما أنفقته عليهم في حياتك، وبهذا يكون سعيك موصولاً أوله بآخره، إلى أن تلقى ربك – عز وجل – يوم القيامة.
 
وذلك لأن وارتك قد يترك جزءاً من مالك لوارثه، ووارثه يترك شيئاً منه لوارته وهكذا...
 
ولو دعا لك وأحد من ورثتك يكون دعاؤه من سعيك وكسبك؛ لأن دعاءه عندئذ يكون مرفوعاً إلى الله بعملك الصالح الذي يرفع به الكلم الطيب من دعاء وغيره.
 
والمرء مسئول عمن يعول وهو حي وهو ميت أيضاً إذا كان لديه ما يعينه به مما يبقى بعد خروجه من الدنيا صفر اليدين.
 
والناس ذكرى، والذكر للإنسان عمر ثان، فلا بد أن يترك الإنسان ما يذكر به من مال وغيره.
 
ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يواسي سعداً فيخبره أن ما تركه للورثة لا يضيع عند الله أبداً، بل قد يكون أعظم مما أنفقه.
 
وقد ينفعه ماله إذا طال به العمر، فلا ينبغي أن يتسرع بإخراجه كله أو بإخراج نصفه أو ثلثه ما دام يأمل في أن يطول أجله ويحسن عمله.
 
وإن كان لابد أن يوصي فليكن ذلك في حدود الثلث.
 
وخلاصة الخلاصة في بيان هذه اللطيفة: أن الله عز وجل يحصى لعبده ما لم يعلم أنه حسنة من حسناته، بل يحصى له ما يظن أنه هنة من هناته، كاللقمة التي يضعها في فِي امرأته – أي في فمها – يقصد ملاعبتها وإرضائها، فإنه يثاب عليها ثواباً حسناً، لا سيما لو سلم القصد وخلصت النية.
 
واللقمة شيء هين، ولكنه عند الله عظيم، وزوجة الرجل هي أقرب الناس إليه، فهي الصاحب بالجنب، ورفع اللقمة إلى فمها إحسان إليها، وتعبير عن حبه لها، وتقديره لحسن تبعلها؛ لهذا قال عليه الصلاة والسلام: "لترضيها فالثواب إذا على أمرين – على رفع اللقمة وعلى الغرض منها.
 
 
وقد بشره النبي – صلى الله عليه وسلم – بطول العمر مع حسن العمل، فقال: "وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون".
 
أي عسى الله أن يبقيك إلى أجل مسمى فينتفع بك المؤمنون ويضر بك غيرهم، هذا هو المتبادر من سياق الكلام، فقد عبر عن طول الأجل بالرفع، ولا يخفى ما في الرفع من رفعة، ولا يغيب عن ذهنك – أيضاً – ما في التعبير من اختيار اللفظ الموحى بها.
 
وعسى فعل من أفعال الرجاء، وهو في جانب الله رجاء محقق، والمتكلم هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا يصدر عنه ذلك من تلقاء نفسه.
 
وإخباره بذلك من قبيل الإنباء بالغيب، وهو من معجزاته – صلى الله عليه وسلم- فقد عاش سعد بعد ذلك نحو خمسين سنة، ولقى منه المؤمنون خيراً كثيراً، ولقى منه أعداء الله شراً مستطيراً، فهو من الذين قال الله فيهم: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } (سورة الفتح: 29).
 
 
قال الراوي عن سعد – وهو ابنه عامر -: وكانت له ابنة، وذلك يوم عاده النبي – صلى الله عليه وسلم – وأوصاه بذلك، وإلا فإن له أولاداً كثيرين ذكرهم ابن حجر في فتح الباري نقلاً عن كتب السير.
 
وفائدة ذكر هذه الفقرة، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – منعه من التصدق بأكثر من الثلث مع عدم وجود غيرها من يعوله، وهي لا ترث إلا النصف والنصف الآخر يرثه باقي الورثة، وهم من عصبته فلا ينبغي أن يحرمهم من حقهم في الميراث، لعدم وجود من يجوز التركة كلها من أبنائه، فإن ذلك يعتبر تدخلاً سافراً فيما فرضه الله واعتداء على حدوده، وكثير من الناس في هذا الزمان يحرمون الورثة من حقهم إذا لم يكن لديهم ولد يجوز التركة كلها، مع أن الورثة من الإخوة والأعمام يكونون حماة لبنات المورث، مسئولين عنهن مسئولية كاملة، فكيف يكون كذلك ويحرمون من حقهم في الميراث، إنه لظلم بين، وعدوان صارخ، وخطر داهم يتعرض له البنات من الورثة، فقد يتخلى عنهن أعمامهن انتقاماً من آبائهن، وغيرة منهن، وحقداً عليهن، (والبادي أظلم).
 
هل عرفت الحكمة إذا من قول الراوي – عامر بن سعد -: وكانت له ابنة؟!
 

ويؤخذ من هذا الحديث فوق ما ذكرناه عدة فوائد وأحكام منها:
 
1- أن إمام المسلمين ينبغي عليه أن يتحسس أمر الرعية، ويخفض جناحه لهم، ويكون في حاجتهم، فيعزي مصابهم، ويعود مريضهم، ويوصيهم بما فيه الخير لهم في دنياهم وآخرتهم، فكذا كان يفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – مع أصحابه، فقد كان لهم أباً رحيماً، وأخاً ودوداً يشاركهم آلامهم وآمالهم، ويتواضع بهم حتى يبدو كأنه واحد منهم. إذا جاء غريب لا يعرفه من بينهم إلا بصباحة وجهه وحسن منطقه.
 
ولقد جعل له أصحابه مكاناً مرتفعاً عن مجلسهم بقليل؛ ليعرفه من يقدم عليهم من هنا وهناك.
 
ولا شك أن الحاكم إذا كان على مثال هذا الخلق الفاضل والسلوك النبيل أحبه الناس وأطاعوه، وتعاونوا معه على البر والتقوى، وفاز بثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
 
 
2- وفي الحديث وجوب استشارة العلماء وذوي السديد في الأمور الهامة، واستفتائهم فيما يخفى حكمه، كما فعل سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه وأرضاه - .
 
والعلماء ورثة الأنبياء في العلم، ينبغي على الناس ألا يقطعوا أمراً دونهم، عملاً بقوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (سورة النحل: 43).
 
وأهل الذكر: هم أهل العلم بالكتاب والسنة، والتواريخ والسير وغيرها من العلوم التي لا غنى للناس عنها.
 
 
3- وعلى المستشار أن يكون ناصحاً أميناً، يرعى حال المستشير وحال من يعولهم، ومن يعنيهم أمره، والمستشار مؤتمن، كما جاء في الخير.
 
فقد أوصى النبي – صلى الله عليه وسلم – سعداً بما ينفعه وينفع ورثته، فكانت وصية قائمة على العدل المطلق، تحقيقاً لقوله تعالى: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } (سورة الأنعام: 152).
 
 
4- وعلى المستشار أن يغلف مشورته بالكلم الطيب، والقول الرشيد، والوعد بما يسر، كما فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – مع سعد – رضي الله عنه -.
 
 
5- وينبغي على المسلم أن يراعي حقوق ورثته فلا يظلمهم بالوصية، فإن كانوا فقراء فليترك لهم المال كله وله أجره، وإن كانوا أغنياء أوصى لغيرهم بالثلث.
 
ولو أوصى بالربع لكان أولى؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – استكثر الثلث، وهو ما أشار به ابن عباس – رضي الله عنهما-.
 
فقد روى البخاري ومسلم أن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ".
 
والإذن في الوصية لمن اقترب أجله منحة من الله تعالى، لكيلا يحزن على فوات ماله كله.
 
روى الدراقطني عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُم، لِيَجْعَلهَا لَكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ".
 
 
6- وهذا الحديث تقييد لمطلق القرآن، فقد قال الله – عز وجل - : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } (سورة النساء: 11)، فلم يقيد الوصية بالثلث، فجاء الحديث فقيد هذا الإطلاق وحده بالثلث، فمن زاد عن الثلث، بطلت الزيادة إلا إذا أجازها الورثة، وعندئذ تكون منحة منهم لمن أوصى له.
 
 
7- لكن إذا لم يكن للميت وارث جاز له أن يوصي بماله كله لمن شاء، تقرباً إلى لله عز وجل؛ لأن الحديث حد الوصية بالثلث حرصاً على حقوق الورثة.
 
(وهذا هو قول الحسن البصري، وأبي حنيفة وأصحابه، وشريك القاضي، وإسحاق بن راهوية.
 
وقال مالك، وابن شبرمة، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وأبو سليمان: لَيْسَ لأَهُ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، كَانَ لَهُ وَارِث أَوْ لَم يَكُن).
 
والأصح الأول؛ لأنه لا يوجد للمسلمين بيت مال، فمن الذي يحق له أن يأخذه إذا!! إن صاحب الما أولى بإخراجه إلى الجهة التي يراها، فقد يعطيها للمقربين إليه، أو لطلاب العلم ونحوهم.
 
ولو كان هناك بيت مال للمسلمين لرجحنا القول الثاني على القول الأول؛ لأن الإمام أبصر منه حينئذ بتصريف ما ترك ووضعه في محله، والله أعلم.
 
وبعد، فهذا ما وسعني ذكره في هذه الوصية، ولو شرحها غيري لقال فيها أكثر مما قلت.
 
قيل لعلي – رضي الله عنه -: العلم عند من؟ قال: عند كل الناس.
 
أي أن الله – عز وجل – قد وهب من العلم للإنسان ما لم يهبه لآخر، فصار بعضهم في حاجة إلى بعض في العلم، كما هو في حاجة بعضهم إلى بعض في أمر المعاش، "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ".
 
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يعلمنا من لدنه علماً نافعاً؛ إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.
 

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day