البحث
إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
3169
2019/06/18
2024/12/06
عَنْ أَبِي ذَرٍّ– رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:
"يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ.
يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ.
يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي.
يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا.
يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.
يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ.
يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".
هذا الحديث القدسي شديد اللهجة قوي الحجة واضح المحجة.
فيه البلاغ لمن تدبر، وفيه العظة لمن اعتبر، وفيه الهدى لمن استهدى، وفيه البشرى لمن استبشر، وفيه الخير كله لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكوراً.
وقد أنزل الله معناه على رسوله – عليه الصلاة والسلام – فترجمه بألفاظه على هذا النحو البليغ؛ فالحديث القدسي هو ما صرح فيه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بقوله: قال الله تعالى، أو يقول الله تعالى.
وهذا هو الراجح من أقوال العلماء عندي.
وهناك قول آخر قد ذكرته في حديث سابق وهو أن الحديث القدسي ما نزل لفظه ومعناه من الله تبارك وتعالى.
وهذا التعريف يحوجنا إلى معرفة الفرق بين القرآن والحديث القدسي.
وقد ذكر العلماء الفرق بينهما فقالوا فيما قالوا:
1- القرآن معجزة تحدى الله به الإنس والجن، والحديث القدسي ليس كذلك.
2- القرآن متعبد بتلاوته والحديث القدسي ليس كذلك.
3- القرآن متواتر كله، والحديث القدسي فيه الصحيح والحسن والضعيف.
4- القرآن لا تجوز روايته بالمعنى، والحديث القدسي تجوز روايته بالمعنى.
ولو أخذنا بالتعريف الأول ما احتاجنا إلى ذكر هذه الفروق.
ومن دواعي العظيمة وبواعث السرور في هذا الحديث أن الله عز وجل قد خاطب عباده فيه عشر مرات بقوله: "يَا عِبَادِي"، وهو خطاب يشعر المؤمن من خلاله بإمارات الحب والقرب والإيناس.
فهو خطاب رقيق في مبناه رفيع في معناه، فليس هناك وصف أعظم من وصف العبودية، فهي وصف مقدم على أي وصف أخر، بل إنه مقدم على وصف الرسالة.
فقد شهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لنفسه أولاً بالعبودية ثم شهد لها بالرسالة فقال: "وَأَشْهَدُ أَنَّ مِحُمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".
ولشرف محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جعل العبودية علماً عليه، فقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } (سورة: الإسراء: 1).
وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } (سورة الكهف: 1)
وقال: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } (سورة الفرقان: 1)
وقد خاطب الله المؤمنين في القرآن بقوله: { يَا عِبَادِي } في مواضع كثيرة؛ تشريفاً لهم وتعظيماً لحقهم وسموا بمكانتهم عنده، فقال: { يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } (سورة الزمر: 16)
وقال جل شأنه: { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ } (سورة الزمر: 10).
وقال جل وعلا: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } (سورة الزمر: 53).
وقال سبحانه: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } (سورة العنكبوت: 56).
ولا يخفى ما في هذا الخطاب من شحذ للعزائم واستنهاض للهمم وتحريض على الإخلاص لله في القول والعمل، والاتجاه إليه وحده، وإظهار الافتقار إليه في كل شيء، والاعتماد عليه والثقة بفضله العظيم في جميع الأمور.
ولقد كان المؤمنون يتلقون هذا الخطاب بقلوبهم النبيرة، ويتأملون في أسراره وآثاره بعقولهم المبصرة فيزدادون به سروراً وحبوراً، ويجدون في استراوحاً لنفوسهم، وتجديداً لعهدهم معه جل شأنه.
وما أحسن قول شاعرهم:
لقد زادني فرحاً وتيها
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي
وأن صيرت أحمد لي نبياً
قوله: "إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي" معناه: إني نزهت نفسي عنه تنزيهاً تاماً.
كما قال جل شأنه: { وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } (سورة ق: 29).
{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } (سورة فصلت: 46).
{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ } (سورة آل عمران: 108).
{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } (سورة غافر: 31).
وقال عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } (سورة النساء: 40).
والآيات في تلك كثيرة.
ورتب سبحانه على نفي الظلم عن نفسه نفياً قاطعاً وجوب الكف عن الظلم والبعد وعن مرتكبيه وعن الأسباب التي تؤدي إليه، فقال: "وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا"، أي لا يظلم بعضكم بعضاً في شيء ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
والظلم نوعان:
أحدهما: ظلم الإنسان نفسه، وأعظمه الشرك بالله، كما قال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } (سورة لقمان: 13).
ثم تليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر.
والثاني: ظلم العبد لغيره، وهو لا يخلو من ظلم النفس قطعاً، فمن ظلم غيره فقد ظلم نفسه.
والظلم في اللغة معناه: المنع والنقص.
فمن منع حقاً لإنسان أو نقص منه فقد ظلمه.
وجاء الظلم بمعنى النقص في أيات منها قوله تعالى: { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } (سورة الكهف: 33).
وآثار الظلم وخيمة وعاقبته أليمة.
يقول الله – عز وجل - : { وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } (سورة هود: 113).
ويقول الله – عز وجل – : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (سورة هود: 102).
ويقول سبحانه: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } (سورة طه: 111).
وإذا انتشر الظلم بين الناس واستفحل خطره فقد أذنت الأرض بالزوال، وأتاها أمر الله ليلاً أو نهاراً فدمرها على أهلها تدميراً كما فعل بأمثالهم من الأمم
قال تعالى: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } (سورة الإسراء: 16-17).
أي إذا أردنا هلاك قرية من القرى أمرنا المنعمين فيها بطاعتنا والانقياد إلينا، وأمهلناهم مدة كافية للتدبر والتذكر والامتثال، فأكثروا فيها من المعاصي، فحق عليهم العذاب فأهلكناهم جميعاً، كما أهلكنا أمثالهم من قبل بذنوبهم.
وتلك سنة الله في خلقه "وَلَا تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ".
قال تعالى: { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (سورة العنكبوت: 40).
قوله: "يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ". أي كلكم إذا تخليت عنكم ضال، لا هادي لكم غيري، فاطلبوا الهدى مني أهديكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } (سورة الكهف: 17).
وقال جل شأنه: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (سورة محمد: 17)
أي: والذين طلبوا الهدى منه – جل شأنه – زادهم هدى على هداهم؛ لأنهم لو لو يكونوا مهديين ما طلبوا الهدى في جميع أقوالهم وأحوالهم وأفعالهم، وأعطاهم من الوسائل والأسباب ما يعينهم على وقاية أنفسهم من الضلال والآثام: كبيرها وصغيرها.
وقد أضاف التقوى إليهم لتمكنها منهم وتمكنهم منها، فالإضافة إذا للتمكين.
وقال جل وعلا: { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا } (سورة مريم: 76).
ولما كانت الهداية أعظم مطلب من مطالب الدين، وأقوم سبيل إلى إرضاء رب العالمين، أمرنا الله أن ندعوه في كل ركعة أن يهدينا إلى الصراط المستقيم: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وقد وفر الله لنا سبل الهداية وبينها لنا كأعظم ما يكون البيان، وما علينا إلا أن نسأله من فضله الهداية والتوفيق والسداد في القول والعمل.
وقد قال الله عز وجل: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } (سورة البقرة: 186).
{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (سورة غافر: 60)
ونلاحظ أن لفظ الضلال ولفظ الهدى في الحديث عام، ويشمل بعمومه جميع ما تتسع له دلالة كل منهما.
فجميع الخلق ضال لا يعرف خالقه بأسمائه الحسنى وأوصافه العلا؛ فأرسل إليهم الرسل؛ فعلموهم كيف يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، ووضعوا لهم أصول التوحيد وقواعده.
وجميع الخلق ضال عن إصلاح أنفسهم وتحصيل معاشهم؛ فهداهم الله إلى ذلك بواسطة الرسل أيضاً، فلم يكن العقل وحده كافياً في إدراك وجوه الخير على كثرتها وتشعبها.
وكان الجميع ضالاً حائراً في تحليل ما يراه من الظواهر الكونية وغيرها مما يعتمل في أنفسهم ويلحون في السؤال عنه؛ فهداهم إلى التأمل والنظر فيما يقع تحت حواسهم من الآيات الكونية، وكشف لهم عن بعض أسرارها بالقدر الذي تستوعبه عقولهم، وبالقدر الذي يحتاجون إليه في إصلاح دينهم ودنياهم.
وهم ضالون عن الأمور الغيبية التي لا يستطيعون إدراكها؛ فهداهم الله بواسطة الرسل إلى معرفة بعضها بالقدر الذي يتسع إدراكهم له.
فالضلال أنواع كثيرة لا تنحصر، والهدى واحد لا يتعدد، وإن بدا أنه متعدد.
وذلك لأن الضلال ظلمة، والظلمة متعددة، والهدى نور، ومصدر النور واحد، وهو الله – جل شأنه -.
يقول الله – عز وجل –: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (سورة المائدة: 15-16).
وقوله: "يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ" أي: كلكم عالة علي، وأنا الذي أطعم ولا أُطعم، فاطلبوا مني الطعام أطعمكم، ولا تسألوا غيري؛ فالرزق مضمون لكم عندي، لن تموت نفس منكم حتى تستوفى رزقها وأجلها.
ويعجبني ما يقوله الحسن البصري – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – في هذا المقام.
يقول: عجباً لابن آدم يسأل الله الرزق وهو مضمون، ولا يسأله حسن الخاتمة وهو أمر غير مضمون.
وهذه الفقرة من الحديث تشعرنا بمنتهى فقرنا إلى الله تعالى، فأعظم شيء نحتاج إليه هو الطعام، وليس لدينا قدرة على تحصيله إلا إذا مكننا الله من ذلك فنحن جياع على الحقيقة، ولو كنا نملك في أيدينا أصناف الطعام كلها.
فقد يكون المرء قادراً في الظاهر على جلب الطعام ولكن لا يكون له قدرة على تناوله.
وقد يستطيع تناوله ولكنه لا يسد جوعته، ولا يفيد منه جسمه شيئاً، ولا يتذوق له طعماً أصلاً، وقد يفتك به ويهلكه.
فعلى العبد أن يسأل الله الطعام النافع، وأن يسأله القدرة على تناوله وهضمه وإخراج فضلاته، ومعافاته من آثاره الجانبية.
وقوله: "يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ" – توكيد قوله: "كُلُّكُمْ جَائِعٌ"، وتفصيل لعوامل الفقر إلى الله – تبارك وتعالى – فهم عالى عليه في الكسوة كما هم عالة عليه في الطعام.
ولا يخفى ما في هذا التوكيد من شحذ همة العبد إلى تكرار الدعاء وإظهار الافتقار إليه بذكر حاجاته كلها بالتفصيل بقلبه ولسانه، فكلما عدد حوائجه شعر بالافتقار إليه أكثر وأكثر، حتى تتصاغر إليه نفسه، فلا يرى لها شيئاً تملكه أو تستطيع أن تملكه، إلا بمشيئة العلي القادر جل شأنه.
ولا يخفى ما في العري من مهانة وقبح وكشف للعورات، فإذا طلب العبد من الله الكسوة، استحب له أن يطلب معها الستر المعنوي؛ ليجتمع له الأمران معاً.
فاللباس نوعان: لباس محله الجسد، ولباس محله القلب، كما أن الزاد نوعان: زاد مادي، وزاد معنوي.
اقرأ قول الله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } (سورة الأعراف: 26)
والريش هو: الفراش الناعم الوثير وما في معناه.
واقرأ قوله تعالى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } (سورة البقرة: 197).
وقوله: "يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ" – فيه بيان لصفة متأصلة في الإنسان، وهي الخطأ الدائم في أمور الدين والدنيا معاً.
يقول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كما روى الترمذي وابن ماجه من حديث أنس – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ".
والخطأ نوعان: خطأ هو من قبيل الخطيئة، وخطأ ليس هو من قبيلها.
فالأول: ذنب يعاقب المرء عليه ما لم يتب منه.
والثاني: لا يعاقب عليه المرء؛ بل يعذر فيه، ما لم يكن متعمداً، فإن كان متعمداً صار من قبيل الخطيئة؛ لأن الله – عز وجل – يقول: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } (سورة الأحزاب: 5).
ولفظ: "كُلُّكُمْ" في الحديث عام، يشمل حتى الأنبياء، إلا أن ذنوب الأنبياء من قبيل الأخطاء لا من قبيل الخطايا.
ويصح أن نقول: إنها من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وعليه يحمل قوله تعالى: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } (سورة الفتح: 2 ).
فالذنب يطلق ويراد به في حقه الخطأ دون الخطيئة.
والرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يجتهد في الأمور التي لم ينزل فيها وحي فيصيب ويخطيء، فيجيء الوحي فيصحح له المسار.
وخطؤه لا يحرم حلالاً ولا يحل حراماً، ولكن لا يعدو أن يكون خلاف الأولى، فافهم ذلك واثبت عليه؛ فإنه دقيق.
والله – عز وجل – قد عذر عباده فيما يأتون من الآثام؛ بشرط أن يتوبوا إليه ويستغفروه فور وقوعهم في الإثم. كما دل عليه قوله تعالى:
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } (سورة آل عمران: 135-136).
والاستغفار: طلب المغفرة، وهي أعم من العفو والصفح.
فالعفو: ترك العقاب، والصفح: ترك العتاب، والغفر: محو ما كان حتى كأنه لم يكن.
فإذا تاب العبد، تاب الله عليه، وأنسى الحفظة ذنوبه، وأنسى كذلك معالمه وجوارحه.
والله – عز وجل – يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، كما جاء في الحديث الصحيح.
فليغتنم كل مسلم هذا الوعد الكريم؛ فيبادر بالتوبة، ويكثر من الاستغفار بالليل والنهار؛ فالخير كل الخير فيه.
قال تعالى: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } (سورة هود: 3)
وقال – عز وجل – حكاية عن نوح عليه السلام مع قومه:
{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } (سورة نوح: 10-13).
لكن لا ينبغي أن يستغفر المسلم ربه من أجل تحصيل حطام الدنيا، وإنما يستغفره من ذنوبه خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه "وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى".
وقوله: "يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي" – فيه إخبار على وجه التحدي والإنذار أنه مستغن بذاته عنهم وعن سائر خلقه، فهو – جل شأنه وتقدست أسماؤه وصفاته – لا تنفعه طاعتنا ولا تضره معصيتنا، فلا يجرؤ أحد مبارزته بالعدوان البتة، فهو القاهر فوق عباده، خضعت الإنس والجن لجبروته، وسيح كل شيء بحمده، تواصيهم بيده، ماض فيهم حكمه، عدل فيهم قضاؤه، وما في السماوات والأرض جميعاً قبضته.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } (سورة فاطر: 15-17).
وفي هذه الفقرة من الحديث فوق ما ذكرنا تحجيم لقدرة الخلق، وتحديد لأبعادها، وبيان لهم على وجه التحدي – كما ذكرنا – أنهم أعجز ما يكون عن ضره أو نفعه، وأنه لا قدرة لهم مع قدرته، ولا إرادة لهم مع إرادته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وقوله: "يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا" – فيه بيان لما تضمنته الفقرة السابقة؛ فملكه واسع لا يحده حد، وكأمل لا يعتريه نقص ولا يقبل الزيادة بحال من قبل مخلوقاته، فهو يزيد في ملكه ما يشاء، وليس لأحد إرادة ولا قدرة في الزيادة ولا في النقصان، ولو كان جميعاً قد بلغوا في الطاعة مبلغ الكمال، وتمكنت قلوبهم من الهداية التامة، وتمكنت الهداية التامة من قلوبهم.
وكذلك قوله في الفقرة التي بعدها: "يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا".
فملكه لا يزول ولا يحول، ولا يلحقه تفاوت بأي وجه من الوجوه.
{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } (سورة الملك: 3-4)
وقوله – جلا وعلا - : "يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ" – فيه بيان لسعة فضله ورحمته، واستغنائه بذاته عن سائر مخلوقاته بأبلغ أسلوب وأتم بيان، فخزائنه لا تنفد ولا تنقص بالعطاء، وفي ذلك حث للخلق على سؤاله وإنزال حوائجهم به.
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: "يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ ربكم مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يمينه".
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ وَلْيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ".
وقال أبو سعيد الخدري: إذا دعوتم الله، فارفعوا في المسألة، فإن ما عنده لا ينفده شيء، وإذا دعوتم فاعزموا؛ فإن الله لا مستكره له.
وانظر – هداك الله – في المثل المضروب في قوله: " إِلَّا كَمَا يَأخُذ الْمِخْيَطُ مِن الْبَحْرَ". فإنك لو أنعمت النظر لعرفت أن النقص كلا نقص، فماذا يأخذ المخيط من البحر الخضم، الذي تمده أبحر أعظم منه وأكبر، وعاود النظر؛ لتعرف الفرق بين ما قيل وما يمكن أن يقال، فقد يقال: ما نقص من ملكي شيئاً وكفى فماذا يكون الفهم لو قال ذلك؟
أغلب الظن أنه يتبادر إلى الأوهام كأن الله لم يعط أحداً شيئاً؛ لأن النقص متصور في باديء الأمر، ولو على نحو ما، فترك الله العبد يتخيل أن هناك نقصاً ما قد حدث، فإذا ما نظر في المثل تلاشى النقص تماماً في ذهنه، فتغلب جانب عدم النقص على النقص؛ فأزاله بالكلية. فما أبلغ هذا الأسلوب وما أعذبه.
وقوله – جل وعلا- : "يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ" – خاتمة كادت تكون قرآناً؛ لما تضمنته من بلاغ يسد كل ثغرة، يدخل منها الشيطان على ابن آدم لو كان يعقل، وترد كل شبهة ترد على قلبه لو كان يؤمن بالله إيماناً صادقاً، وتدفع عن المؤمن كيد نفسه وانحراف هواه.
وكأني بهذا الخطاب الأخير يعد كسلام المودع، وياله من وداع وضع الأمر في موضعه، وأطلع كل إنسان على نتيجة عمله ومنتهى أمله؛ إذ قال " يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ" أي: أجمعها جمعاً لا يعزب عني مثقال ذرة، وأحسبها بحساب لا تند فيه شاردة ولا واردة، وأحفظها لكم بعنايتي حتى يأتي أمري، فأطلعكم عليها، وأجزيكم بها جزاء عدلاً، لا تظلمون فيه فتيلا، وأنا أعلم بكم، لا يغيب عن علمي مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
وقوله: "ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا" يشعر بذلك، فالوفاء كل الوفاء عنده- عز وجل.
يقول – عز شأنه: - { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } (سورة النساء: 40)
ويقول – عز من قائل-: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (سورة الأنبياء: 47).
ويقول سبحانه: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } (سورة الزلزلة: 7-8).
والتوبة ما تكون في الآخرة؛ لقوله تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (سورة آل عمران: 185).
لكن لا يمنع أن يأخذ العبد قسطاً من الجزاء على الأعمال في الدنيا، كما قال – جل شأنه-: { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ } (سورة آل عمران: 148)
وقال – جل وعلا-: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } (سورة هود: 3).
وكما قال: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (سورة النحل: 97).
إلى غير ذلك من الآيات إلى الطاعات أن في الدنيا جزاء وفي الآخرة جزاء
فمن وجد نفسه موقفاً إلى الطاعات فليحمد الله على نعمة التوفيق: وهي نعمة لا تعدلها نعمة.
ومن رأي نفسه دون ما خلقه الله لأجله، فوبال ذلك عله، ولا يلومن إلا نفسه على ما قدم وأخر.
فالمؤمن إذا أصابه في الدنيا بلاء رجع إلى نفسه باللوم، ودعاء ذلك إلى الرجوع إلى الله بالتوبة والاستغفار.
وفي المسند وسنن أبي داود عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: "إن المؤمن إذا أصابه سقم ثم عافاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه" وموعظة له فيمل يستقبل من عمره، وإن المنافق إذا مرض وعوفى كان كالبعير عقله وأهله وأطلقوه لا يدري بما عقلوه ولا بما أطلقوه".
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ": وبقوله: "فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ" – بحسب ما يقع للعباد في الآخرة، أي فمن وجد خيراً في الآخرة فإنه يحمد الله، ومن وجد غير ذلك فإنه لا يلوم إلا نفسه، فيكون الكلام لفظه الأمر، ومعناه الخير.
روى الترمذي عن أبي هريرة – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: "مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ، إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ استعتب"
وبعد: فإن هذا الحديث القدسي قد شد من أزري حين قرأته وحين فهمته وحين شرحته، ولا زلت أعاود النظر فيه، فأجد كلما نظرت عبرة تملأ شغاف قلبي حباً لخالقي ومولاي، لما يفيض به من لطف ورأفة، وفضل ورحمة.
فانظر كيف عقد الله بينه وبين عباده صلة وثيقة لا ينقصم عراها، ولا ينقطع مددها، ولا يزول من القلوب بردها وحنانها.
وانظر كيف وعد عباده بعد أن عرفهم بحقيقة أنفسهم أن يهديهم إذا استهدوه، وأن يطعمهم إذا استطعموه، وأن يكسوهم إذا استكسوه، وأن يغفر لهم إن استغفروه.
وانظر كيف عرفهم بنفسه فعرفوه بأوصاف الجلال والجمال والكمال.
وكم في هذا الحديث من اللطائف البيانية والأسرار البلاغية مما ضاق المقام عن ذكره هنا ومما لا يتسع لمثلي أن يلم به، فلنقتصر على ما ذكرناه، فإن فيه الكفاية إن شاء الله لمن أراد الهدى.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجمعنا وإياكم على طاعته.