البحث
اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ - الموبقة الخامسة أكل مال اليتيم
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
3127
2019/11/05
2024/12/18
الموبقة الخامسة: أكل مال اليتيم وهو لا يقل جرماً عن أكل الربا، بل هو أشد منه وأفظع؛ لأن الله – عز وجل – شدد الوعيد فيه فقال عز شأنه: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } (سورة النساء: 10).
نعم والله، إن مال اليتيم هو "نار" تحرق كل من يمد إليه يداً خائنة، أو يدسه في بطن شرهة، فمن أكل منه احترق به في الدنيا، وصلى به عذاب جهنم في الآخرة.
وحتى لا يقدم أحد على ارتكاب هذا الظلم الأثيم، مهد لهذا الوعيد بوعيد آخر فقال جل شأنه قبل هذه الآية المتقدمة:{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } (سورة النساء: 9).
فهو وعيد من نوع آخر كما أشرنا؛ لأنه يحذر أولياء اليتامى من مغبة المال الذي جمعوه من دمائهم ودماء الضعفاء وممن هم على شاكلتهم، وأخذوه بغير حق من هنا وهناك، ويذكرهم بمصير أبنائهم من بعدهم، فقد يصيبهم ما أصاب اليتامى، وينالهم من الظلم والقسوة والإهمال ما نالهم.
إنهم سيموتون كما مات هذا الميت الذي تقاسموا تركته، أو تقاسمها ورثته وهم يشهدون.
وإنهم سيتركون من بعدهم أطفالهم، الذين سينضمون إلى موكب الأيتام، كما ترك هذا الميت أطفاله وانضموا إلى جماعة الأيتام ممن مات آباؤهم قبله.
فليرعوا حق الله إذن، وليخشوه في هؤلاء اليتامى الذين في أيديهم، وليصونوهم ويصونوا أموالهم، وليعاملوهم كما يرجون أن يعامل أبناؤهم من بعدهم.
وإنه ليس هناك من صورة مثل هذه الصورة، التي يعرضها القرآن هنا في إثارة العواطف، وفي استجلاء العبرة والعظة، حيث يتمثل منها للحي خاتمة مطافة في هذه الحياة، ومصير هذا المال الذي جمعه، والذي يكاد يذهب بدينه ومروءته جميعاً.
وفي قوله تعالى: { فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا }. نداء سماوي كريم، يلتقي مع تلك المشاعر التي حركتها الصورة التي يتمثلها من يقرأ الآية الكريمة وينظر فيما يطلع عليه منها عن مشاهد الموت وما بعد الموت.
والقول السديد الذي تدعو إليه الآية: هو القول الذي يحمل النصح والتوجيه والتسديد لليتامى، وإعدادهم إعداداً صالحاً للحياة... تماماً كما فعل الأب مع أبنائه، وإلا فهو قول غير سديد وخيانة للأمانة التي أؤتمن الأوصياء عليها...
وأشد الناس خشية لله تعالى وخوفاً من أكل أموال اليتامى أصحاب النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ولا سيما بعد أن نزل ما نزل في التحذير من أكل شيء من أموالهم عدواناً وظلماً.
روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قال: لما أنزل الله تعالى: { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (سورة الأنعام: 152). و { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا... } (سورة الأنعام: 10) انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له، حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا لرسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فأنزل الله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (سورة البقرة: 220)، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه.
فقد دلت هذه الآية على جواز التصرف في مال اليتيم بما فيه مصلحته العاجلة أو الآجلة من بيع وشراء وغير ذلك، فيجور لولي اليتيم أن يتجر له في ماله فيجعل لنفسه من الربح بقدر عمله لو اتجر في مال شخص آخر.
ويباح له أن يبنى له داره أو يهدمها إن كان في هدمه مصلحة تعود على اليتيم.
وخير ما يؤدي لليتيم من إحسان إليه وبر به، هو أن يربى تربية طيبة، تبلغ به مبلغ الكمال والرشد، حتى يستقل بشئون نفسه، ويتولى رعاية أموره، وتلك هي الأمانة التي جعلها الله في عنق من يقومون على اليتامي من أولياء وأوصياء، فإذا قصروا فيها كان حسابهم عليها بين يدي الله على قدر ما قصروا.
قوله تعالى: { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أي: وإن تضموهم إليكم وتتولوا عنهم رعاية أمورهم فهم إخوانكم، لهم مكان الأخوة بينكم، وما لهذه الأخوة من حقوق.
وفي التعبير عن الإشراف على اليتامى بالمخالطة، إشارة إلى أن هذا الإشراف ينبغي أن يقوم على صلات روحية ونفسية، تمتزج فيها مشاعر الأوصياء على اليتامى بمشاعر هؤلاء اليتامى، كيان واحد، وذلك هو الذي يعطي اليتيم مكاناً متمكناً من قلب الوصي وفي أهله الذين يعيش معهم، ومختلطاً وممتزجاً لا منفصلاً ومعتزلاً.
وفي التعبير عن اليتامى بقوله تعالى: { فَإِخْوَانُكُمْ } بدلاً من "فأولادكم" كما يقتضيه ظاهر الأمر، إذ اليتيم لا يكون يتيماً إلا في حال صغره، الأمر الذي يجعله من الوصي بصفة الابن لا الأخ – في هذا التعبير تنويه بما ينبغي أن تكون عليه نظرة الوصي على اليتيم إلى اليتيم، وهو أن ينظر إليه على أنه مثله وفي درجته، وإن كان في مدارج الصبا.
فهذه النظرة جدير بها أن تقيم الوصي دائما على شعور يقظ بأنه يتعامل مع إنسان رشيد، يرقب أعماله، ويرصد تصرفاته في شئونه.
وهذا الشعور يجعل الوصي حذراً في تصرفاته؛ حريصاً على أن يظهر بمظهر الأمين الحريص على مصلحة اليتيم.
ثم إنه من جهة أخرى سيعمل هذا الشعور عمله عند الوصي في الوصول باليتيم إلى مرحلة الرشد في أقصر زمن ممكن، بحكم هذه الأخوة الملازمة له والمستقرة في شعوره، وهذا شعور معاكس تماماً لما يشعر به الأوصياء نحو اليتامى من أنهم لن يكبروا أبداً، حتى يظلوا أكبر زمن ممكن تحت أيديهم!!
فانظر كم أعطت هاتان الكلمتان المباركتان: { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } من ثمرات طيبة، وكم تعطيان هكذا أبداً من ثمر طيب مبارك لكل طالب ومريد؟.
وفي قوله تعالى: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } حماية لهذ الشعور الذي أثاره قوله سبحانه: { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } وتغذية دائمة له من أن يضعف؛ إذ يجد الوصى على اليتيم عين الله ترقبه، وعلمه يحيط بكل ما يعمل لليتيم الذي في يده من خير وشر، ومن إصلاح لأمره، ليرشد ويستقل بشئونه، أو ليفسد ويظل هكذا تحت يده!
وفي قوله سبحانه: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ } إشارة إلى أن ما قضت به حكمة الله من تكاليف في شريعة الإسلام هو ما لا إعنات فيه ولا إرهاق، بل هو ما تحتمله النفوس في متوسط مستوياتها.
فأوامر الشريعة الإسلامية ونواهيها ملتزمة هذا الموقف الوسيط، الذي جمع أطراف الناس جميعاً، من أقوياء وضعفاء.
ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يكلف بما هو فوق احتمال الناس، أو بما يصيبها بالجهد والإعياء لما كان لأحد أن يعترض، ولكان ذلك شريعة ملزمة، يحل العقاب بمن خرج عليها، كما فعل الله سبحانه وتعالى ذلك باليهود، وذلك من باب الابتلاء والفتنة، التي عافى الله سبحانه وتعالى منها هذه الأمة الإسلامية، ورحمها من هذا البلاء.
وبقى لنا في قضية أكل مال اليتيم حكم شرعي لابد من ذكره هنا، وهو بيان ما يجوز أكله من مال اليتيم فنقول:
اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز لولي اليتيم إن كان غنياً أن يأخذ من مال يتيمه شيئاً.
لقوله تعالى: { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } والاستعفاف عن الشيء تركه، والعفة هي الامتناع عما لا يحل فعله.
واختلفوا في الفقير على سبعة أقوال أو أكثر، وخلافهم يرجع إلى مفهوم قوله تعالى: { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } (سورة النساء: 6).
1- فقال جماعة منهم: يباح للفقير أن يأكل من مال اليتيم بقدر حاجته الضرورية، وحملوا الآية على ظاهرها, مستدلين بما رواه أبو دواد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلاً أتى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقال: إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم.
فقال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: "كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلَا مُبَادِرٍ وَلَا مُتَأَثِّلٍ".
أي: ولا جامع مال لك ولا لأولادك من ماله، أو لا تأكل من ماله وتوفر مالك لتدخره لأولادك، يقال: مال مأثول أي مجموع له أصل.
واستدلوا أيضاً بما في صحيح مسلم: أن عائشة رضي الله عنها قالت في تفسير الآية: نزلت في ولي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه، إذا كان محتاجاً جاز له أن يأكل منه، وهذا هو قول أكثر أهل العلم.
2- وقال بعضهم: لا يجوز لولي اليتيم أن يأكل من مال يتيمه شيئاً حتى ولو كان فقيراً.
وقالوا في تفسير الآية: المراد: التوسعة على اليتيم إذا كان ذا مال كثير، والإنفاق عليه بقدر الضرورة إن كان ذا مال قليل.
وهذا القول غير صحيح؛ لأن المخاطب في الآية هم الأولياء وليس اليتامى؛ لأنهم ليسوا من أهل الخطاب لصغرهم.
4،3- وانقسم الذين أباحوا للفقير الأكل من مال اليتيم بقدر الحاجة إلى قسمين:
(أ) فريق يرى أن ما يأكله الولي من مال اليتيم في حال فقره يكون قرضاً في ذمته متى أيس رده إليه، وإذا حضرته الوفاة أوصى ورثته بسداده. وبهذا قال ابن عباس وعمر بن الخطاب، وعبيدة وابن جبير، والشعبي ومجاهد وأبو العالية وغيرهم.
قال عمر بن الخطاب – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –: "إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الولي مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ استعففت، وَإِنِ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَّا أَيسرت قَضيت".
(ب) والفريق الآخر يرى أن ما أكله الولي من مال اليتيم في حالة فقره لا يجب عليه قضاؤه إذا أيسر ما دام قد أخذ منه بقدر الضرورة الملحة، فهو طعمة من الله له في نظير حفظه لليتيم وخدمته له، وهو قول الحسن البصري وعطاء النخعي وغيرهما.
قال القرطبي: "والدليل على صحة هذا القول إجماع الأمة على أن الإمام للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف؛ لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله فلا حجة لهم في قول عمر: فإذا أيسرت قضيت – لو صح". أ. هـ.
5- وقال جماعة من الفقهاء: يجوز للفقير أن يأكل من نتاج مال اليتيم لا من أصله، فينتفع بركوب دابته مثلاً، والشرب من لبنها وبما يتبقى من طعامه بحيث لو بقى له وجبة أخرى لتلف.
ونحو ذلك من الأشياء التي لا تضر بأصل المال ولا تنقص من قدره وقيمته.
مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، فيستعفف الغني بغناه، والفقير يقتر على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم.
قال النحاس: وهذا من أحسن ما روى في تفسير الآية؛ لأن أموال الناس محظورة لا يطلق شيء منها إلا بحجة قاطعة.
7- وذهب جماعة إلى أنه إذا كان لليتيم مال كثير يشغل وليه عن كسب قوته بسبب القيام بصيانته والاتجار فيه ونحو ذلك – جاز له أن يأخذ من ماله أجرة عمله بالمعروف مادام محتاجاً إليها، ويستحب أن يكل تقديرها لأهل الحل والعقد من الصالحين المحيطين به، وهذا القول جدير بالاعتبار.
وأحسن منه وأصح: القول بأن ما أخذه الفقير من مال اليتيم دين في ذمته متى أيسر رده، فهو القول الذي تطمئن إليه النفس بحق. والله أعلم.
ويجب على ولي اليتيم أن يختبر اليتيم الذي يكلفه إذا قارب البلوغ فيعطيه شيئاً من ماله ليتجر فيه، أو ليعمل به من الأعمال ما يناسبه ويربحه.
فإن رآه يحسن التصرف في البيع والشراء والأخذ والعطاء دفع إليه ماله كاملاً، وأشهد على ذلك حتى تبرأ ذمته وتنزه ساحته، وحتى لا يكون لليتيم حجة في إتهامه بأخذ شيء من ماله بعد ذلك.
قال تعالى: { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } (سورة النساء: 6).
فإن بلغ اليتيم ولم يظهر منه الرشد – وهو حسن التصرف – لا يسلم إليه الولي ماله، ولو بلغ أربعين سنة، خلافاً لأبي حنيفة فإنه يرى أن الولي يجب عليه أن يسلم إليه ماله إذا بلغ خمساً وعشرين سنة، سواء ظهر منه الرشد أم لم يظهر.
هذا ما وسعنا ذكره في شأن اليتيم وبيان ما يجب له والتحذير من إهانته وأكل ماله، وبقيت هناك أحكام كثيرة تتعلق به تركنا ذكرها مخافة التطويل، واكتفينا بما رأيناه ضرورياً في هذه الوصية.