البحث
المرء على دين خليله - الجزء الثالث
تحت قسم :
حملة صالحون مصلحون
5492
2011/12/07
2024/11/21
أقوال السلف في اختيار الصاحب :
قال صاحب روضه العقلاء << هل هو نفسه أبو حاتم أم المقطع ناقص ؟
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه : " إنَّ من أعظم الدلائل على معرفة مَا فيه المرء من تقلبه و سكونه ، هو الاعتبار بمن يحادثه و يوده ، لأن المرء على دين خليله و طير السماء على أشكالها تقع ، و ما رأيت شيئا أدل على شيء و لا الدخان على النار مثل الصاحب على الصاحب " .
و كان مالك رحمه الله يقول : " الناس أشكال كأجناس الطير ، الحمام مع الحمام و الغراب مع الغراب و البط مع البط و الصعو مع الصعو ، و كل إنسان مع شكله " .
وقال المنتصر بْن بلال الأنصاري :
يزين الفتى في قومه و يشينه ... و في غيرهم أخدانه و مداخله
لكل امرئ شكل من الناس مثله ... و كل امرئ يهوى إلى من يشاكله
قال أَبُو حاتم رحمه الله : " العاقل يجتنب المريب في نفسه ، و يفارق صحبة المتهم في دينه ، لأن من صحب قومًا عرف بهم و من عاشر امرئ نسب إليه ، و الرجل لا يصاحب إلا مثله أو شكله ، فإذا لم يجد المرء بدًا من صحبة الناس ، تحرى صحبة من زانه إذا صحبه و لم يشنه إذا عرف به ، و إن رأى منه حسنة عدها ، و إن رأى منه سيئةً سترها ، و إن سكت عنه ابتدأه و إن سأله أعطاه " .
و قال الحسن ابن على رضي الله عنهما :
إنَّ أخاك الحق من كان معك ... و من يضر نفسه لينفعك
و من إذا ريب الزمان صدعك ... شتت شمل نفسه ليجمعك
و قال أبو طالب المكي رحمه الله : " لا تصحّ مؤاخاة مبتدع في الله تعالى ، و لا محبة فاسق يصحب على فسوقه " .
و اعلم أيها المسلم أنَّ المرء مع من أحب كما قال النبي صلى الله عليه و سلم ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ : جاء رجلٌ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه و سلم فَقَالَ : يَا رَسُول الله ، كَيْفَ تَقُولُ في رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ ؟ ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه و سلم : « المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ » . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
و عن أَنس رضي اللَّه عنه ، أَنَّ أَعرابياً قَالَ لرسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ و سَلَّم : مَتَى السَّاعَةُ ؟ ، قَالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ و سَلَّم : مَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ ، قَالَ : حُب اللَّهِ و رسولِهِ ، قَالَ : أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ . متفقٌ عَلَيهِ ، و هذا لفظ مسلمٍ .
فإن كنت تحب النبي صلى الله عليه و سلم ، و أصحابه و أهل الدين و الخير فأنت معهم بإذن الله ، و إن كنت تحب أهل البدع و المعاصي فأنت معهم .
و في نهاية هذه الرحلة الطيبة ، نختتمها بهذا الحوار الجميل الذي دار بين سفيان الثوري و جعفر الصادق رحمهما الله :
عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ فَقُلْت لَهُ : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَوْصِنِي ، قَالَ : يَا سُفْيَانُ لَا مُرُوءَةَ لِكَذُوبٍ وَ لَا رَاحَةَ لِحَسُودٍ وَ لَا إخَاءَ لِمَلُولٍ وَ لَا سُؤْدُدَ لِسَيِّئِ الْخُلُقِ ، قُلْت: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : يَا سُفْيَانُ كُفَّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ . تَكُنْ عَابِرًا وَ ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَك تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَ اصْحَبْ النَّاسَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَصْحَبُوك بِهِ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَ لَا تَصْحَبْ الْفَاجِرَ فَيُعَلِّمَك مِنْ فُجُورِهِ، أَيْ لِلْحَدِيثِ: « الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ » ؛ وَ شَاوِرْ فِي أَمْرِك الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ . قُلْت : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : يَا سُفْيَانُ مَنْ أَرَادَ عِزًّا بِلَا عَشِيرَةٍ وَ هَيْبَةً بِلَا سُلْطَانٍ فَلْيَخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، قُلْت : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : أَدَّبَنِي أَبِي بِثَلَاثٍ : قَالَ لِي : أَيْ بُنَيَّ إنَّ مَنْ يَصْحَبْ صَاحِبَ السُّوءِ لَا يَسْلَمْ ، وَ مَنْ يَدْخُلْ مَدَاخِلَ السُّوءِ يُتَّهَمْ ، وَ مَنْ لَا يَمْلِكْ لِسَانَهُ يَنْدَمْ .
أخي المسلم أختي المسلمة : بعد هذه الرحلة الطويل مع اختيار الصاحب ، يبقى سؤال : كيف نختارمن نصاحب ؟ .
و هناك سؤال يطرح نفسه : إذا كان الإسلام يعيش في مجتمع غير إسلامي أو أكثر من حوله من غير المسلمين من أهل الفسق ، فماذا يفعل هل يعتزلهم أم يهجرهم أم يصادقهم ؟
نقول إنَّ الله سبحانه و تعالى جعل لنا قاعدة في التعامل مع غير المسلمين ، و هي قوله تعالى : ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) ) سورة الممتحنة .
ففي هذه الآية أحكام التعايش مع غير المسلمين - خاصة إن كان التعايش في بلادهم - ، فعلى المسلم أن يحسن إليهم في المعاملات لا يرون منه إلا كل خير ليكون مثلًا جيدًا للمسلمين و يكون سفيرًا للإسلام ، لكن لا يطلعهم على أسراره و لا يأتمنهم على أبنائه ، و لا يكثر من زيارتهم و لا يتخذهم أولياء من دون الله ، و لا لكنه يجوز له زيارة مرضاهم و التعزية في ميتهم و قبول دعوتهم للطعام ، و هذا خاص باليهود و النصارى ، فقد أحل الله لنا طعام أهل الكتاب من اليهود و النصارى ، فقال تعالى : ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) المائدة 5 ؛ لكن من هم ليسوا من أهل الكتاب فلا يجوز حضور دعواتهم إلى الطعام .
و الآن هيا بنا ننظر كيف نختار الصديق :
ما ذاقَتِ النَفسُ على شَهوةٍ ... أَلَذَّ مِن حُبِّ صَديقٍ أَمين
من فاتَهُ وُدُّ أَخٍ صالِحٍ ... فَذَلِكَ المَغبونُ حَقَّ اليَقين
" عاشروا الناس ، فإن عشتم حنوا إليكم ، و إن متم بكوا عليكم " .
شروط الصحبة و الصداقة :
قال العلماء : إذا طلبت رفيقا ليكون شريكك في التعلم ، و صاحبك في أمر دينك ودنياك ، فراع فيه خمس خصال :
الأولى : العقل :فلا خير في صحبة الأحمق ، فإلى الوحشة و القطيعة يرجع آخرها ، و أحسن أحواله أن يضرك و هو يريد أن ينفعك ، و العدو العاقل خير من الصديق الأحمق .
فَلا تَصحَب أَخا الجَهلِ ... وَ إِياكَ وَإِياهُ
فَكَم مِن جاهِلٍ أَردى ... حَليماً حِينَ آَخاهُ
يُقاسُ المَرءُ بِالمَرءِ ... إذا ما المَرءُ ماشاهُ
كَحَذو النَعلِ بِالنَعلِ ... إِذا مالنَعلُ حاذاهُ
وَ للشيء مِنَ الشيء ... مَقاييِسُ وَأَشباهُ
وَ لِلقَلبِ عَلى القَلبِ ... دَليلٌ حِينَ يَلقاهُ
الثانية: حسن الخلق:فلا تصحب من ساء خلقه ، و هو الذي لا يملك نفسه عند الغضب و الشهوة .
و قد جمعه علقمة العطاردي رحمه الله تعالى ، في وصيته لابنه لما حضرته الوفاة ، قال: يا بني إذا أردت صحبة إنسان فاصحب من إذا خدمته صانك ، و إن صحبته زانك ، و إن قعدت بك مؤنة مانك . اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها ، و إن رأى منك حسنةً عدها ، و إن رأى منك سيئةً سدها .
اصحب من إذا قلت صدق قولك ، و إن حاولت أمرا أمرك ، وإن تنازعتما في شر آثرك .
و قال علي رضي الله عنه رجزًا :
إِن أخاكَ الحَقُ مَن كانَ مَعَك ... وَ مَن يَضر نَفسه لِيَنفَعَك
وَ مَن إِذا ريبَ الزَمانُ صَدعَكَ ... شَتَتَ فيك شَملَهُ لِيَجمَعَك
الثالثة : الصلاح:فلا تصحب فاسقًا مصرًا على معصيةٍ كبيرة ، لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة ، و من لا يخاف الله لا تؤمن غوائله ، بل يتغير بتغير الأحوال و الأعراض، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : ( وَ لا تُطِع مَن أَغفَلنا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَ اتَبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُه فُرُطا ) الكهف 18 .
فاحذر صحبة الفاسق ؛ فإنَّ مشاهدة الفسق و المعصية على الدوام تزيل عن قلبك كراهية المعصية ، و تهون عليك أمرها ، و لذلك هان على القلوب معصية الغيبة لإلفهم لها ، و لو رأوا خاتمًا من ذهب أو ملبوسًا من حرير على فقيه لاشتد إنكارهم عليه ، و الغيبة أشد من ذلك .
الرابعة : ألا يكون حريصًا على الدنيا:فصحبة الحريص على الدنيا سم قاتل ؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه و الاقتداء ، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري ، فمجالسة الحريص تزيد في حرصك ، و مجالسة الزاهد تزيد في زهدك .
الخامسة: الصدق:فلا تصحب كذابًا ، فإنك منه على غرور ، فإنه مثل السراب ، يقرب منك البعيد ، و يبعد منك القريب .
و لعلك تعدم اجتماع هذه الخصال في سكان المدارس و المساجد ، فعليك بأحد أمرين :
إما العزلة و الانفراد ؛ ففيها سلامتك .. و إما أن تكون مخالطتك مع شركائك بقدر خصالهم ، بأن تعلم أن الأخوة ثلاثة : أخ لآخرين فلا تراع فيه إلا الدين ، وأخ لدنياك فلا تراع فيه إلا الخلق الحسن ، وأخ لتأنس به فلا تراع فيه إلا السلامة من شره و فتنته و خبثه .
و الناس ثلاثة : أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه ، و الآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت ، و الثالث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط ، و لكن العبد قد يتسلى به ، وهو الذي لا أنس فيه و لا نفع ؛ فتجب مداراته إلى الخلاص منه ، و في مشاهدته فائدة عظيمة إن وفقت لها ، و هو أن تشاهد من خبائث أحواله وأفعاله ما تستقبحه فتجتنبه؛ فالسعيد من وعظ بغيره، والمؤمن مرآة المؤمن .
و قيل لعيسى عليه السلام : من أدبك ؟ ، فقال : ما أدبني أحد ، و لكن رأيت جهل الجاهل فاجتنبته . و لقد صدق على نبينا و عليه الصلاة والسلام فلو اجتنب الناس ما يكرهونه من غيرهم ، لكملت آدابهم و استغنوا عن المؤدبين .
أَوْصَى علقمة ابْنَهُ فَقَالَ : " يَا بُنَيَّ إِذَا عَرَضَتْ لَكَ إِلَى صُحْبَةِ الرِّجَالِ حَاجَةٌ فَاصْحَبْ مَنْ إِذَا خَدَمْتَهُ صَانَكَ، وَإِنْ صَحِبْتَهُ زَانَكَ، وَإِنْ قَعَدَتْ بِكَ مَؤُونَةٌ مَانَكَ، وَاصْحَبْ مَنْ إِذَا مَدَدْتَ يَدَكَ بِخَيْرٍ مَدَّهَا، وَإِنْ رَأَى مِنْكَ حَسَنَةً عَدَّهَا، وَإِنْ رَأَى سَيِّئَةً سدَّهَا. اصْحَبْ مَنْ إِذَا سَأَلْتَهُ أَعْطَاكَ، وَإِنْ سَكَتَّ ابْتَدَاكَ، وَإِنْ نَزَلَتْ بِكَ نَازِلَةٌ وَاسَاكَ، اصْحَبْ مَنْ إِذَا قُلْتَ صَدَّقَ قَوْلَكَ، وَإِنْ حَاوَلْتَ أَمْرًا آمَرَكَ، وَإِنْ تَنَازَعْتُمَا آثَرَكَ " .
وَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " لَا تَصْحَبْ إِلَّا أَحَدَ رَجُلَيْنِ: رَجُلًا تَرْتَفِقُ بِهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاكَ أَوْ رَجُلًا تَزِيدُ مَعَهُ وَتَنْتَفِعُ بِهِ فِي أَمْرِ آخِرَتِكَ، وَالِاشْتِغَالُ بِغَيْرِ هَذَيْنِ حُمْقٌ كَبِيرٌ، وَأَمَّا الْحَرِيصُ عَلَى الدُّنْيَا فَصُحْبَتُهُ سُمٌّ قَاتِلٌ ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّشَبُّهِ وَالِاقْتِدَاءِ ، بَلِ الطَّبْعُ يَسْرِقُ مِنَ الطَّبْعِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي صَاحِبُهُ، فَمُجَالَسَةُ الْحَرِيصِ عَلَى الدُّنْيَا تُحَرِّكُ الْحِرْصَ ، وَ مُجَالَسَةُ الزَّاهِدِ تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، فَلِذَلِكَ تُكْرَهُ صُحْبَةُ طُلَّابِ الدُّنْيَا وَتُطْلَبُ صُحْبَةُ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ " .
قَالَ لقمان لِابْنِهِ : " يَا بُنَيَّ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَ زَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ لَتَحْيَا بِالْحِكْمَةِ كَمَا تَحْيَا الْأَرْضُ الْمَيِّتَةُ بِوَابِلِ الْمَطَرِ " .
ثم بعد ذلك عليك أن تعرف حقوق الصحبة .