البحث
عزوفه عن الدنيا وأغراضها ومفاتنها
ونعود مرة أخرى فنسأل: إذا لم يكن محمد رسولًا من عند الله سبحانه وتعالى فماذا كان يبغي من وراء هذه الدعوى التي جلبت له ألوانًا من العذاب والاضطهاد؛ من شتم بذيء شنيع إلى إيذاء شديد فظيع؟!([1])
لقد كان بشهادة خصومه عاقلًا حصيفًا حكيمًا، فما الغاية التي كان يسعى ويرجو الوصول إليها؟
أكان يبغي الملك، أم المال؟
لقد عُرض عليه الملك والمال من ربه، ثم من كفار قريش، فآثر أن يكون عفيفًا نزيهًا وزاهدًا قانعًا.([2])
ولقد حاول المشركون مساومة النبيr بإغداق كل ما هو يمكن أن يكون مطلوبًا له؛ ليكفوه عن دعوته، ولم يكن يرى هؤلاء المساكين أن كل ما تطلع عليه الشمس لا يساوي جناح بعوضة أمام دعوته ، فخابوا وفشلوا فيما أرادوا.([3])
فلقد ذهب أبو الوليد -وكان سيدًا من كفار قريش- إلى رسول الله، وكان جالسًا في المسجد وحده ليكلمه ويعرض عليه أمورًا؛ لعله أن يقبل بعضها ويكف عن دعوته، وذلك بعدما وافقته قريش لما رأته من إسلام حمزة بن عبد المطلب عم النبي وتزايد أصحاب رسول الله r.
فقال أبو الوليد لرسول الله : يا ابن أخي: إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر- يعني الإسلام والدعوة إليه- مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا.
ولكن رسول الله : رفض كل ذلك في سبيل دعوته، فلقد عرض عليه المال والشرف والملك والتزويج بأشرف بناتهم، ولكنه كان عفيفًا زاهدًا، نزيهًا قانعًا.([4])
هذا كله ينفي عن رسول الله أنه كان يريد الدنيا ومظاهرها، ولم يكن هذا مجرد كلام، بل كان حقيقة نلمسها في أول عهده r كما نلمسها في آخر عهده على السواء.([5])
يوم دان له خصومه وخضع له أعداؤه ووافته الأموال الجمة والغنائم التي لا حصر لها، فكان ينفق هذه الأموال على الأيتام والفقراء والمساكين وينام هو على حصير يؤثر في جنبه r.([6])
ينفق هذه الأموال على الأيتام والفقراء والمساكين ويعيش هو زاهدًا قانعًا.([7])
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتاليين حتى قبض رسول الله [أخرجه البخاري ومسلم].
- وعن عبد الله بن مسعود قال: دخلت على النبي وهو في غرفة كأنها بيت حمام، وهو نائم على حصير قد أثر بجنبه فبكيت، فقال: ما يبكيك يا عبد الله؟ قلت: يا رسول الله، كسرى وقيصر يطئون على الخز والديباج والحرير، وأنت نائم على هذا الحصير قد أثر بجنبك! قال: «فلا تبك يا عبد الله فإن لهم الدنيا ولنا الآخرة، وما أنا والدنيا ما مثلى ومثل الدنيا إلا كمثل راكب نزل تحت شجرة ثم سار وتركها» [أخرجه الطبراني].
- والأحاديث الدالة على زهده في طعامه وثيابه وسكنه.. إلى غير ذلك كثيرة جدًا شاهدة على ما ذكرناه.
- لقد زهد في الدنيا وعلم نساءه كيف يزهدن فيها، فهذه ابنته فاطمة رضي الله عنها بنت خديجة رضي الله عنها التي أنفقت مالها في خدمته ودعوته، لم يعطها من مال الله ما يقضي حاجتها ويضمن راحتها، حتى ميراث النبي فهو صدقة لا يُورث.([8])
اهتمام بالغ بالفقراء ورعاية للضعفاء، فمن أجل هؤلاء تناسى r نفسه وأهله، ولم يؤثرهم بشيء من حياته، ولم يدخر لهم شيئًا بعد وفاته، ووكلهم جميعًا إلى فضل الله ذو الفضل العظيم.([9])
إنه نبي جاء ليرفع أتباعه عن أن يكونوا عبيد الدنيا عبيد المال، جاء ليجعلهم عبيدًا لله وحده، يرضون من الدنيا بالقليل، ويكفيهم ما يتزودون به للآخرة، فرسول الله لم يكن طامعًا في ملك أو مال أو جاه.([10])
فالأحاديث التي رُويت عنه تشهد بعزوفه عن الدنيا وتواضعه طوال حياته، فماذا كان يبغي؟
وما الغاية التي كان يرمي إليها؟
وهو الذي شهد الجميع بحكمته ورجاحة عقله .
لا شيء سوى أن يرضي مولاه الذي سيطر على حوائجه وتملك كل جوارحه، لا شيء سوى أن يفوز بحبه وينعم بقربه.([11])
أليس هذا كله يدل على أنه مخلص في دعواه، وأنه كما يقول رسول من عند الله؟([12])
* * *