1. المقالات
  2. الحوار في السيرة النبوية _ السيد علي خضر
  3. من حوارات النبي في مكة

من حوارات النبي في مكة

ونختار من ذلك اثني عشر حواراً متواءمة مع تطور مراحل الدعوة في مكة على النحو الآتي:

1- دعوة أبي طالب:

الدعوة إلى الله هي مهمة كل رسالة جاء بها رسول من عند الله، وهذه الدعوة ذات أصول وفروع، أصولها الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره … وفروعها القيام بأوامر الشريعة من عبادات مفروضة وآداب معلومة.

وقد كان المجتمع المكي حين ابتدأت نبوة محمد  في حاجة ماسة إلى داعية من بيئته يفهم طبيعة الناس والمكان، ويتمرس بألوان متنوعة من النشاط اليومي لأهلها، وهكذا يجب أن تكون خبرة الداعية كبيرة بالناس والمكان مع العلم والأدب، ومن ثم بدأ النبي  دعوته بعشيرته الأقربين، بل بأقرب الناس إليه زوجه خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، فآمنت وصدقت وتبعها أبو بكر وعليٌّ في رجال معدودين، ولكن كبار رجال مكة وأشرافها يحتاجون إلي جهد عظيم، ومن ثم فتح النبي r باب الحوار معهم، وكان من أولهم عمه أبو طالب الذي نازعته قريش نزاعاً طويلاً في أمر ابن أخيه، حيث قال أبو طالب لرسول الله :" يا ابنَ أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: أي عمِّ، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم - أو كما قال r - بعثني الله به رسولاً إلى العباد، وأنت أيْ عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه أو كما قال، فقال أبو طالب: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يُخـلصُ إليك بشيء تكـرهه ما بقيت " ([1]).

كان أبو طالب رفيقاً بابن أخيه ؛ إذ كانت علاقتهما طيبة منذ أن ضـم النبي  إليه عليّاً ليربيَه عنده لفقرٍ أصاب عمَّه، حتى أسلم عليٌّ صبياً ولم يعنفه أبوه أو يحاول رده عن دينه.

وفي الحوار السابق نجد علامات ذلك الرفق بين أبي طالب والرسول   فأبو طالب يسأل ابن أخيه ليفهم حقيقة ذلك الدين، فيرد عليه النبي برفق وأدب بادئاً بندائه بحرف النداء المخصص للقريب: أيْ عمِّ، وهو من أدب الحوار الجميل، ثم يبين له حقيقة تلك الرسالة التي أكرمه الله بها، ويدعوه إليها صراحة، ولكن الرجل يأبى ويعدُ ابن أخيه بالحماية.

2- دعوة قريش علانية:

ثم إن الله عز وجل أمر رسوله  أن يصدع بما جاءه منه وأن يظهر دعوته للناس صراحة وعلانية ويدعوهم إلى الإسلام، وكان " بين ما أخفى رسول الله  أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه ثم قال الله تعالى له ] فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [ (الحجر:94) وقال تعالى ] وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ (الشعراء: 214- 215) ([2]).

عند ذلك خرج النبي  إلى قومه معلناً دعوته كما ذكر ابْنُ عَبَّاسٍ:" أَنَّ النَّبِيَّ  خَرَجَ إِلَى الْبَطْحَاءِ فَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ فَنَادَى: يَا صَبَاحَاهْ ! فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمَسِّيكُمْ، أَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ تَبّاً لَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ] تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ[ إِلَى آخِرِهَا " ([3]).

بعد هذه الدعوة العلنية وبعد تكاثر الداخلين في الإسلام وظهورهم في مكة على الملأ وانتشار الأخبار عن الإسلام وخروجها إلى خارج مكة عن طريق الوفود الآتية للحج والعمرة والتجارة.. عند ذلك حمي الصراع بين الفريقين، فعادت قريش إلى أبي طالب تشكو إليه محمداً .

3- حوار مع أبي طالب حول دعوة النبي r:

يروي ابن هشام أن أبا طالب " بعث إلى رسول الله  فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فأَبْقِ عليَّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، قال: فظن رسول الله  أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، قال: فقال رسول الله : يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهرَه الله أو أهلكَ فيه ما تركته، قال: ثم استعبر رسول الله  فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله  فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً " ([4]).

إن من مميزات المكان الذي اختاره الله تعالى لنبيه أنه لم تكن فيه سلطة سياسية مهيمنة تستطيع القضاء على الدعوة الناشئة بقواتها المنظمة المدربة على القتال كما كان الحال في بلاد فارس والروم، أما في مكة فقد كان توازن القوى بين بطون قريش يحول دون ذلك، ولهذا ذهبت قريش إلى أبي طالب أقرب الناس إلى رسول الله r لتشكوه إليه.

وهنا نجد الإصرار النبوي على المضي في الدعوة مهما حاولت قريش، والنبي r يحاور عمه بالحسنى ويبين له حقيقة الدعوة وأنها ماضية ولن يتوقف عنها حتى تنتصرَ أو يموتَ دونها، وفي هذا قطع لمحاولات رده عن دعوته، وقطع لآمال قريش في إخماد نورها.

4- حوار النبي  مع عتبة بن ربيعة:

وبعد هذا التجاذب بدأت قريش خطواتها نحو الأذى والتنكيل بالمسلمين، قال ابن إسحاق:" ثم إن قريشاً اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله r ومن أسلم معه منهم، فأغروا برسول الله  سفهاءهم فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله r مظهر لأمر الله لا يستخفي به مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم واعتزال أوثانهم وفراقه إياهم كفرهم " ([5]).

وقريش مع ذلك كله لا يهدأ لها بال، وهي تحاول المرة بعد الأخرى إقناع محمد r بالعودة عن دينه وتعده بكل ما يريد من متاع الدنيا إن هو فعل ذلك  وتعرض عليه كل المغريات الدنيوية... ومن ذلك حوار النبي  مع عتبة بن ربيعة.

قال ابن إسحاق:" وحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حُدثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيداً - قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله  جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله  يزيدون ويكثرون فقـالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله  فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.

قال فقال له رسول الله r: قل يا أبا الوليد أسمع، قال: يا ابن أخي، إن كنتَ إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكونَ أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه...

حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله r يستمع منه قـال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل، فقال ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [ (فصلت:1- 5) ثم مضى رسول الله r فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله r إلى السجدة منها فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك " ([6]).

في هذا الحوار حقائق وآداب كثيرة منها:

1- حيرة قريش في أمر النبي  وعجزها عن مواجهته بالحجة.

2- لجوء قريش إلى وسائل الإغراء الدنيوية من المال والجاه والملك، وإعراض النبي عن كل ذلك، مما يزيد من حيرة قريش.

3- بدء الوليد حواره بالحسنى كذلك رغم شركه لأنه إنما جاء عارضاً ما عنده راغباً في إقناع النبي  به.

4- حسن مقابلة النبي له، وعدم تعنيفه أو إسماعه ما يكره ابتداء، بل قال له: قل يا أبا الوليد أسمع، وفي هذا غاية الإكرام بأن كنّاه وسمع منه بأدب وإنصات.

5- استفهام النبي r له عن انتهائه من الكلام بقوله: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ وهذه من نوادر آداب الحوار التي يعز وجودها في عالم التحاور، إذ غالباً ما يكتفي المتحاورون في مثل ذلك بقرائن سياق الحال الدالة على أن المحاور أنهى حديثه وينتظر الرد.

6- لم يجبه النبي  بكلام من عنده، بل آثر اختصار الطريق، لأن بعضاً مما سيقوله ويردُّ به لا شك أن حوارات قد دارت حوله من قبل مرات ومرات  فالكلام سيكون بعضه معاداً، ولهذا آثر النبي  هذا الاختيار المبارك فقرأ عليه صدر سورة فصّلت، وهي آيات في ذروة البلاغة والحكمة وإصابة الهدف من أقصر طريق، ولولا طول المقام لأوردنا بعض تفسيرها وفوائدها، ولهذا لم يملك عتبة إزاء سماعها من النبي r إلا أن يلقي يديه خلف ظهره ساكناً منصتاً لهذا الكلام العجيب الذي يأخذ بمجامع القلوب والعقول والنفوس.. بل تقشعر منه جلود أهل الحق.

7- ومما يدل على تأثر عتبة بما سمع أن النبي  استرسل يرتل عليه حتى انتهى إلى موضع السجدة من السورة، وهي عند نهاية الآية الثامنة والثلاثين، وهو مقطع طويل من السورة لم يكن منتظراً من رجل كعتبة أن يستمع إليه كاملاً، لكن الرجل استمع حتى سجد النبي .

8- أنهى النبي  حواره بكلام رقيق بلا جدال أو تعنيف، بل بكلام فيه الإرشاد والتخيير لمن عنده عقل: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك.

9- إن هذا كله كان كافياً أن يؤثر في عتبة لولا عصبية الجاهلية وحلف الأشقياء الذين أرسلوه نائباً عنهم لمفاوضة النبي r فعاد الرجل إلى قومه مصرّاً على كفره وعناده.

10- ومع هذا لم يستطع عتبة أن يخفي بعضاً مما أثاره القرآن فيه ببلاغته وحكمته وإعجازه.. وبدا ذلك على وجهه حتى قال أصحابه حين رأوه عائداً إليهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به !!



[1] - ابن هشام: السيرة النبوية: 1/ 168.

[2] - نفسه: 1/174.

[3] - رواه البخاري (4972).

[4] - ابن هشام: السيرة النبوية: 1/176-177.

[5] - نفسه: 1/ 191.

[6] - ابن هشام: السيرة النبوية:1/ 193.

المقال السابق
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day