1. المقالات
  2. من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
  3. عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي

عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي

الكاتب : الدكتور/ محمد بكر إسماعيل
18331 2018/10/31 2024/04/19
المقال مترجم الى : اردو English हिन्दी

 

 

عن الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ-  رضي الله عنه - قَالَ: صلى بنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يوم ثُم أقبل علينا فوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بليغة ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فقال قائل: يَا رَسُولَ اللَّهِ كأنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسَنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ تَمَسكوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمور فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.

*     *     *

هذه الوصية من الوصايا الجامعة التي تترتب عليها أحكان كثيرة أفاض الفقهاء في بسطها وإيضاحها، وفيها من الأخبار التي يجب على كل مؤمن أن يعتبر بها، ويحسب لها حسابا ويعد نفسه – إن ظهرت في عصره – للتعايش معها دون مخالفة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

وقد كانت مواعظ الرسول صلى الله عليه وسلم موجزة بليغة، يسهل على الناس حفظها، واستيعاب ما فيها من المعاني السامية، والمقاصد الجليلة، فهو صلى الله عليه وسلم قد أوتى جوامع الكلم، وأمره الله – عز وجل – أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، وأن يحدثهم بما ينفعهم، وأن يقول لهم قولاً يبلغ شغاف قلوبهم.

 

فقال تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } (سورة النساء: 63).

 

لكن هذه الوصية التي قصها علينا الراوي كان لها في نفوس المؤمنين وقع خاص، فهموا من نبراتها أنها وصية مودع؛ لأنها موعظة كما قال الراوي ذرفت منها العيون – أي فاضت بالدمع – وجلت منها القلوب – أي خافت وخشعت.

 

فأفصح عن ذلك قائل منهم فقال: كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ أي بماذا توصينا؟ وماذا تريد أن نفعل من بعدك؟ وكأنه قد أراد المزيد من هذه الموعظة، أو لعله فهم أن من ورائها – لو بُسطت – خيراً كثيراً لا ينبغي أن يفوتهم، وقد عرفوا أن الإيجار من عادته، والمقام مقام بسط وإيضاح فخافوا أن يسكت، وقد استعذبوا قوله، واستراحت أنفسهم له، وخشعت قلوبهم لذكر الله، وبكت عيونهم من خشية الله، فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما سألوا عنه فقال: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا".

 

وتقوى الله معناها طاعته والخوف منه، وهي جماع الدين كله.

 

وقد عرفها العلماء بتعريفات لا تخرج عما ذكرته.

 

ويروي بعضهم أن علياً رضي الله عنه سئل عن التقوى فقال:

هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.

 

وأما السمع والطاعة لولي الأمر وإن كان عبداً حبشياً فإنه لا يعني أن يكون ذلك على الإطلاق، ولكنه مشروط بطاعته لله، فإن أطاع الله وجبت علينا طاعته، وإلا فلا.

 

فقد أخرج أحمد في مسنده والترمذي في جامعه عن أم الحصين الأحمسية قالت: سمعت رسول الله يخطب في حجة الوداع فسمعته يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ".

 

 

وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ".

 

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: "إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ وَلو كَانَ عَبْدًا عَبْدٌ حَبَشِياً مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ".

 

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً.

 

ولا يظن أحد أن الحاكم إذا عصى الله في شيء أن يترك الناس طاعته تماما، فإن ذلك هو عين الفساد فمن ذا الذي يستطيع أن يطيع الله في كل شيء، ولكن ينبغي أن يقوم بالمعروف من غير تشهير به، أو إغلاظ عليه.

 

ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنه مِنْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كثيرا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ تَمَسكوا بِهَا عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ".

 

أي إنه سيأتي من بعدي أقوام يختلفون في الدين اختلافاً كثيراً حتى يُكفر بعضهم بعضاً فعندئذ عليكم بسنتي، أي ألزموها، وتمسكوا بها تمسكاً شديداً، كالذي يعض على الشيء بأسنانه حرصاً على بقائه، وخوفاً من انتزاعه.

 

وسننه دينه الذي أكمله الله لهذه الأمة عقيدة وشريعة، وأتم به النعمة، وكشف به الغمة، وهو المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا غموض فيها ولا التبأس.

 

والمراد بالخلفاء: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم فهم الذين تمسكوا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تمسكاً يغبطون عليه، ولم يظهر في عصره من الفرق الضالة إلا القليل ممن كان له يد في قتل عثمان، وحرب علي - رضي الله عنهما - .

 

هذا ومن المعلوم أن العبد لا يتولى الإمارة في أي زمان، ولا في عصر الخلفاء، ولا في العصور التي جاءت بعدهم، ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَإِن عَبْدًا حَبَشِيًّا" على الفرض والتقدير، ولا سيما عند وقوع الاختلاف بين الناس في أمور الدين، واستعمال القتل لأتفه الأسباب، وانتشار الظلم هنا وهناك، ولا يخفي ما في ذلك من المبالغة في الحث على التمسك بالسنة عند فساد الأمة، وعندما يوسد الأمر لغير أهله فيتأمر على الناس من لا يستحق الإمارة.

 

وقوله في هذه الرواية: "وَإِن عَبْدًا حَبَشِيًّا" أي وإن كان الآمر لكم عبداً حبشياً غريباً عنكم لا يستحق أن يتأمر عليكم بأي حال.

 

وفي رواية: "وإن تأمر عليكم عبد".

فقوله: "فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ" إلى آخره – تعليل لقوله: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ".

 

وهذا القول يدل على أنه قد أحاط علماً من قبل الله تعالى بما يكون في أمته إلى آخر الزمان، وهذا من معجزاته – صلى الله عليه وسلم - .

*     *     *

وقوله – صلى الله عليه وسلم - : "وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمور" أي احذروا كل الحذر من البدع التي يحدثها الناس في الدين، وعلل ذلك التحذير بقوله: "فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ". وفي رواية: "وَكُلَّ ضَلَالَةٌ فِي النَّار".

*     *     *

والبدعة هي كل ما لا أصل له في الدين ترجع إليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً، وإن كانت تسمى بدعة في اللغة؛ فالبدعة في اللغة هي كل أمر مخترع في العبادات أو في العادات.

 

وبدع العادات ثلاثة أنواع:

- نوع يوافق الدين ولا يخالفه في شيء، كأخذ الزينة المباحة، والسكنى في المنازل الفخمة، والتنزه في الحقول والحدائق، ونحو ذلك مما هو معروف.

 

- ونوع يكره فعله شرعاً، كالمبالغة في زخرفة المساجد والمصاحف وغير ذلك مما نص عليه الفقهاء في كتبهم.

 

- ونوع محرم، وهو ما يخالف الدين، كالتشبه باليهود والنصارى في أعيادهم وملابسهم التي نهى الإسلام عنها.

 

وقد كتب الشاطبي كتاباً في البدع  سماه "الاعتصام" عرف فيه البدعة بأنها: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه".

 

وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة وإنما يخصها بالعبادات.

 

وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: "البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الطريقة الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية".

 

والبدع التي لها أصل في الدين كثيرة منها: تعلم النحو والصرف، والبلاغة، ومفردات اللغة، وأصول الفقه، وأصول الحديث، وسائر العلوم الخادمة للشريعة.

 

ومثال البدع في الدين: التشدد في الدين بوجه عام، كمن نذر أن يصوم قائماً في الشمس، أو نذر أن يقوم الليل ولا يرقد منه ساعة، والاقتصار على نوع من واحد من الطعام أو الثياب من غير علة، أو عزم على أن يعيش من غير زوجة، أو حرم على نفسه أكل اللحم، ونحو ذلك مما لا يحصى.

 

وقد راق لبعض العلماء كالعز بن عبدالسلام والفراقي أن يقسموا البدع إلى خمسة أقسام: بدعة محرمة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، وبدعة مندوبة، وبدعة واجبة.

 

والشاطبي يعترض على هذا التقسيم ويرى أن البدعة نوع واحد، وهي المحرمة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"، ويقول: إن ما وصف بالواجب المندوب والمباح هو من قبيل المصالح المرسلة لا من قبيل البدع، ثم إن البدع في نظرة أخص من المعصية، فكل بدعة معصية وليست كل معصية بدعة.

 

وبعض الفقهاء يقسمون البدعة إلى محمودة ومذمومة، فالمحمود منها ما كان له أصل في الدين، كما أشار عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – على المسلمين أن يجتمعوا في صلاة التراويح على إمام واحد، وقال: نعمت البدعة هذه.

 

والمذموم منها ما ليس كذلك.

*     *     *

ولا أريد أن أتوسع – هنا – في تعريف البدعة، أو أجاري بعض العلماء في تقسيمها إلى حسنة وسيئة، فتقسيمهم هذا مبني على حسب تعريف البدعة في اللغة، وهي: كل محدث على غير مثال سبق. فيكون كل ما حدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الدين والدنيا – على هذا التعريف اللغوي – بدعة.

 

وبذلك يسوغ تقسيمها إلى: بدعة حسنة وبدعة سيئة.

 

ولكن إذا نظرنا إليها من حيث ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين فقط، وعرفناها بأنها: كل حدث لا أصل له في الدين، فلا يسوغ – في نظري – تقسيمها إلى حسنة وسيئة.

 

والمحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى يوم القيامة، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَها إلى يوم القيامة".

 

المحتجون بهذا الحديث على تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة لم يفهموا الحديث الفهم الصحيح على ما أظن؛ إذ المراد به – والله أعلم – من ابتدع طريقة في فعل المعروف، وامتثال الأوامر، فله الأجر المذكور، ومن اخترع طريقة في فعل المنكر، وارتكاب المعاصي، فتبعه الناس في ذلك، فعليه الوزر المذكور وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ".

 

ولقد جاء الدين الإسلامي تاماً كاملاً، لا ينبغي لأحد أن يزيد فيه شيئاً، أو ينقص منه شيئاً.

 

قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ   دِينًا } (سورة المائدة: 3).

 

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الابتداع في الدين، فقال: "وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ".

وقال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أَحْدَثَ فِي ديننا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ". أي مردود عليه.

 

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول في خطبته "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَصْدَّق الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَإنَّ أَفْضَل الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ محدثة بِدْعَةٍ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلَّ ضَلَالَةٌ فِي النَّار.

 

وقال الشافعي في الأم: "كل شيء خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط ولا يكون معه رأي ولا قياس؛ فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس لأحد معه أمر ولا نهي غير ما أمر هو به".

*     *     *

وهذا الحديث بيان لقوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (سورة الحشر: 7).

 

ومعنى قوله تعالى: { فَخُذُوهُ }: ألزموه، وامتثلوه، ولا تخرجوا عنه

 

وهو بيان أيضاً لقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (سورة التغابن: 16).

 

وقوله تعالى: { مَا اسْتَطَعْتُمْ } تخصيص لقوله – جل وعلا - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (سورة آل عمران: 102).

 

وقوله تعالى: { وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا }: أي اسمعوا نصح الناصحين، وأطيعوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين ومن أتبعهم بإحسان، فالسمع والطاعة واجبان على كل من يؤمن بالله ورسوله، من أجل أن تستقيم أمور الدين وأمور الدنيا، وينتشر السلام في ربوع البلاد، ويستتب الأمن بين الناس.

*     *     *

ويؤخذ من هذا الحديث فوق ما ذكرناه أربعة فوائد:

الأولى: أنه لا بد من عالم يعظ الناس، ويذكرهم بالله ويوصيهم بما فيه لهم في دينهم ودنياهم حتى لا تصدأ قلوبهم وتصاب بالقساوة والظلمة، فبالموعظة تنشرح الصدور، وتستنير العقول، وتلين الجلود والقلوب لذكؤ الله جل جلاله.

 

وخير الوعظ ما كان مستنبطاً من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بتلك القصص المختلقة، والأحاديث الملفقة، والأخبار الواردة عن بني إسرائيل، وليس لها أصل في الكتاب والسنة ترد إليه.

 

روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: "إِنَّ خَير الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخير الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ".

 

وقد قال الله عز وجل - : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ  اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } (سورة الزمر: 22- 23).

 

والعالم العارف بالله هو الذي يشرح القلوب المؤمنة بالمواعظ البليغة التي يستقيها من القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويستوحيها من سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخيار التابعين، ويستلهمها بعقله الرشيد من الواقع المشاهد، فيذكرهم بما يدور حولهم وبما يقع في أرضهم وعصرهم من أحداث سارة أو ضارة، فيشير إليهم بالعبرة التي يستمدها من هنا وهناك.

 

لكن لكي يكون علمه نافعاً عليه أن يعمل بعلمه، وأن يعرف الناس أنه يقول ويفعل، فالقدوة خير من القول، والناس يتأثرون بأفعال الرجال الخيرة أكثر مما يتأثرون بأقوالهم النيرة.

 

ولهذا توعد الله من يقول: فعلت كذا وكذا، أو افعلوا كذا وكذا – ولم يفعل بما أخبر به، ولا بما أمر به.

 

فقال جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (سورة الصف: 2- 3).

 

والمقت هو الغضب الشديد، وسيأتي لهذا مزيد بيان في وصية أخرى- إن شاء الله تعالى.

 

الفائدة الثانية: أن يتخير الواعظ الأوقات المناسبة للوعظ والإرشاد، وأن يكون ذلك في فترات متباعدة نسبياً حتى لا يمل الناس من وعظه ويعتادون عليه فيستخفون به بسبب الاعتياد.

 

فقد جاء في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة – رضي الله عنه – قال "كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً" أي وسطاً بين الطول والقصر.

 

وروى أبو داود عنه أيضاً: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات".

 

وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي وائل قال: خطبنا عمار – رضي الله عنه – فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست – أي أطلت -، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرا".

 

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وخير الكلام ما قل ودل.

 

 

الفائدة الثالثة: أن يستحضر المؤمن قلبه عند سماع الموعظة كما كان يفعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بخواطره في أمور الدنيا، وإن سرح بخواطره هنا وهناك عاد مسرعاً إلى إحضار قلبه مرة بعد مرة حتى ينتفع بالعلم ويستفيد من الموعظة، فرب كلمة يسمعها يكون فيها صلاح أمره في معاشه ومعاده، فالعلماء يحيون القلوب بعلمهم ووعظهم كما يحيي المطر الأرض الموات.

 

تحيا بهم كل أرض ينزلون بها

                        كأنهم في بقاع الأرض أمطار

 

ولا ينتفع بالذكرى إلا المؤمن الذي يعالج قلبه من الهوى والغفلة بكثرة الجلوس في مجالس العلم، أما الغافلون فهم مبعدون عن العلم وأهله، وإذا قدر لهم الحضور في مجلس علم لا تراهم يلقون بالاً إلى ما يسمعون، ولو سمعوا ما عقلوه، ولو عقلوا ما عملوا.

 

يقول الله – عز وجل -: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (سورة ق: 37).

 

أي إن في ذلك الكتاب المبين لعبرة لمن كان له قلب حاضر سليم من آفات الهوى والغفلة، أو ألقى سمعه إلى ما يعظه ويذكره وهو في حالة حضور قلبه بحيث تكون الأذن صاغية، والقلب واعياً.

 

الفائدة الرابعة: أن ينظر المؤمن عالماً أو متعلماً في هذا الحديث نظرة تأمل واستبصار، فيتعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يكون التفصيل بعد الإجمال وكيف تبنى النتائج على المقدمات، وكيف تعلل الأحكام، وكيف تترتب آثارها عليها، وهذا النظر لا بد له من عدة ومدد، فكيف ينظر في مثل هذه الأمور من ليس له خبرة في العلوم اللغوية والأساليب الكلامية، فلنكتف بما ذكرناه فيه من شرح وإيضاح.

 

والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

*     *     *

 

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day