البحث
يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
2017
2019/12/10
2024/10/09
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ (عقبة بن عمرو البدري) الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا، وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ".
الإمامة في الصلاة ليست كالإمامة في الحكم؛ لأن إمام الصلاة شفيع لمن حلفه عند الله عز وجل.
ولابد للشفيع أن يكون لديه مؤهلات الشفاعة، ومن علم وخلق فاضل وزهد في الدنيا، وسبق في الإسلام أو في فعل الخيرات.
والإمامة في الصلاة تتطلب من الإمام أن يكون محبوباً عند من يصلي خلفه، ولا يكون الإمام محبوباً إلا بخصاله الحميدة وعلمه بالكتاب والسنة، وخلقه الحسن وحبه لمن يأتم به.
لذا قدم النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأحق به عند اجتماع أولى الفضل والنهي فقال:
"يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ... إلى آخره".
وسنحاول في شرح هذا الحديث أن نتعرف على المقصد الأسمى من هذا الترتيب مع معرفة الأحكام التي تضمنها، والله المستعان.
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ" جملة خبرية في اللفظ طلبية في المعنى، يعني فليؤم القوم، يدل عليه حديث: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ".
والمراد بالقوم هنا الذكور بالأصالة والإناث بالتبعية؛ لأن العرب يطلقون هذا اللفظ على الذكور دون الإناث، فلا يدخل الإناث معهم إلا بقرينة.
والقرينة هنا موجودة وهي قرينة شرعية؛ لأن المرأة مكلفة بالصلاة في بيتها، ولكن لها أن تصلي مع الجماعة في المسجد، فكانت بهذا تابعة للقوم.
والدليل على أن المراد بالقول عند الإطلاق الذكور دون الإناث قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } (سورة الحجرات: 11).
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ" أي أكثرهم حفظاً له، وأمهرهم قراءة به وأعلمهم لمعانيه ومراميه؛ فإن القراء هم الفقهاء بأحكام القرآن وقصصه وأمثاله ومحكمه ومتشابهه.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ" أي أكثرهم حفظاً للسنة القولية والفعلية والتقريرية.
ولا غرابة في أن يكون الرجل عالماً غير ملم بالسنة، فإن كثيراً من أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد شغله القرآن عن متابعة الأحاديث النبوية وحفظها والنظر فيها.
ولا شك أن الجمع بين العلم بالكتاب والسنة أفضل كثيراً من الاقتصار على أحدهما.
والاقتصار على القرآن وحده أفضل من الاقتصار على السنة وحدها؛ لأن الاقتصار عليه لا يشكل خطراً بخلاف الاقتصار على السنة وحدها؛ فإنه يخطئ كثيراً من اقتصر عليها في استنباط الأحكام ومعرفة أدلتها؛ لأن القرآن متواتر قطعي الثبوت بخلاف السنة فإن منها المتواتر – وهو قليل – ومنها ما ليس كذلك – وهو الكثير.
وهذا أمر شرحه يطول فلا نشغل أنفسنا به هنا ولكننا نريد أن نعرف لماذا قدم الأقرأ لكتاب الله على الأعلم بالسنة، ولماذا قدم الأعلم على غيره عند التساوي في العلم بكتاب الله عز وجل.
فنقول: إن الأعلم بكتاب الله عز وجل يحسن القراءة فيشنف آذان من خلفه بقراءته المتقنة وصوته الخاشع، ووقوفه على ما يتم به المعنى، فتكون قراءته أوقع في قلب السامع فلا ينصرف ذهنه عنها، بل يحبس نفسه على سماعها وتدبر معانيها فيخرج منها بزاد طيب يعيش به إلى الصلاة الأخرى.
وهذه الصلاة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر حقاً لتوفر الخشوع والتدبر الأمثل من قبل الإمام والمأموم.
ويقدم الأعلم بسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند التساوي، لأنه أكثر علماً لأن السنة بيان للقرآن، ولا شك أن من جمع بين البيان والمبين أفضل وأولى بالإمامة من سواه.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً".
معناه أن الأقدام في الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام أولى حينئذ بالإمامة؛ رعاية لحقه في السبق إلى الهجرة.
وليس المراد بالهجرة – في نظري – الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأنه بعد فتحها لا تكون هناك هجرة منها لتوفر الأمن فيها وانكسار شوكة المشركين بها والله أعلم.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا" أي إسلاماً؛ رعاية لسبقه إلى الإسلام.
لأن الله عز وجل قد أثنى على السابقين إلى الإسلام ثناءً حسناً ووعدهم وعداً جميلاً في مثل قوله جل وعلا: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (سورة التوبة: 100).
وفي رواية أخرى لمسلم: "أَقْدَمُهُمْ سناً".
وفي رواية أخرى أيضا: "أكبرهم سناً".
وذلك لأن في تقديمه توقير له، فلا خير فيمن لا يرحم صغيره ولا يوقر كبيره كما جاء في الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وهذا الترتيب ليس واجباً بل هو مستحب؛ إذ يجوز شرعاً من غير خلاف تقديم هذا على ذاك إذا كان يحسن الصلاة.
وهذا الترتيب مثال للتفضيل، فإذا اجتمع بعض القراء وتساووا في الحفظ قدم أورعهم وأتقاهم، فإن تساووا في الورع والتقوى قدم أحسنهم صوتا، فإن تساووا في حسن الصوت قدم أعلمهم بالسنة على النحو الذي ذكرناه في تفضيل القراء، فأكثرهم حفظاً للحديث مقدم على غيره، واضبطهم للروايات مقدم على الأحفظ، والأفقه في الحديث مقدم على الأحفظ والأضبط.
فإن تساووا في ذلك كله قدم أقدمهم هجرة، ثم أقدمهم سلماً ثم أكبرهم سناً.
وقد بالغ العلماء في أمر التفضيل على سبيل الاستحسان، فقدموا المتزوج على العزب، ثم الأجمل صورة ثم الأجمل زوجة إلى آخر ما ذكروه على سبيل البسط والمباسطة، وهو نوع من الترف العقلي لا حاجة لنا به فالأولى الاقتصار على ما جاء في الحديث.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ" أي في ولايته أو مقر حكمه أو محل وظيفته أو في بيته.
فمعنى السلطان هنا أعم وأشمل من ولاية الحكم، فالرجل سلطان لكل ما ملكه وتسلط عليه بالحيازة والتصرف.
وهذا النهي للكراهة لا للتحريم، فإذا أم الرجل الرجل في سلطانه صحت الصلاة مع الكراهة، لما في ذلك من الاعتداء على صاحب الحق وإساءة الأدب معه في عدم أخذ الإذن منه.
ولكن ينبغي على صاحب البيت وإمام المسجد وغيرهما إذا حضر السلطان وهو والوالي أن يقدمه للإمامة إكراماً وتوقيراً له.
وكذلك إذا حضر من هو أعلم منه بالكتاب والسنة أو أشد ورعا وتقى أو أكبر سناً، بشرط أن يكون أهلاً للإمامة.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ" أي لا يجلس على فراشه أو على وسادته إلا إذا أذن له بذلك. فهذا هو العرف الساري بين الناس من أقدم العصور، فلا ينبغي هجره والتعدي عليه.
والاستئذان واجب عند دخول البيت وعند الجلوس فيه وعند الخروج منه كما هو معروف، فلا يجهلن أحد هذه السلوكيات لأنها من باب المروءات.
والمروءة من الحياء بمنزلة الروح من الجسد، فمن لا مروءة له لا حياء له، ومن لا حياء له لا إيمان له؛ إذ هو شعبة من أهم شعبه وأسماها بعد كلمة التوحيد.
فقد خصه النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذكر حين قال: "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعلَاهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ".
وقد جاء في الحديث: "الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ"
وجاء في الحديث أيضاً: "إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ".
ويؤخذ من هذا الحديث فوق ما تقدم:
1- رعاية الإسلام للحقوق والواجبات في جميع الأمور وعلى رأسها إمامة الصلاة؛ لأن الصلاة عماد الدين وركنه الركين.
سواء كانت هذه الحقوق مادية أم كانت معنوية؛ فأهل العلم بالكتاب والسنة مقدمون على غيرهم في الصلاة وفي غيرها، وبعضهم أولى من بعض بما فضلوا به بعد العلم من زهد وورع وسبق في الهجرة أو في الإسلام أو في السن أو في غير ذلك من أنواع الفضل.
2- حرص الإسلام على احترام العرف الذي أقره الشرع وارتضاه العقل واستجابت له الفطرة؛ فإن المؤمن كيس فطن، لين متواضع، يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه، ويبادله حباً بحب واحتراماً باحترام.
ويسهم كل واحد من المؤمنين في بناء المجتمع الفاضل الذي يشهد الناس له بالكمال الوافر، ويدينون طوعاً لهذا الدين الذي جعلهم خير أمة على وجه الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتتعاون على البر والتقوى، وتجدد إيمانها بالله في كل صلاة خلف إمام يستحق الإمامة بعلمه وتقواه وسبقه في أفعال الخير وبعده عن الشر.
إن الإسلام دين السماحة واليسر يحض معتنقيه على الفضيلة حيث كانت وينهاهم عن الرذيلة حيث وجدت، ويدعوهم إلى الحدب والتفاهم والحب المتبادل والتعاون البناء والاجتماع على الخير في شتى الميادين ولا سيما الاجتماع على الصلاة.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص والسداد في القول والعمل.