البحث
بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
15739
2019/11/17
2024/11/14
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ".
بعث الله نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام مُعَلماً لأصول الدين، الذي ارتضاه لعباده وفطرهم عليه، ومتمماً لمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، ومزكياً للنفوس الأمارة بالسوء، وراداً لها عن غيها إلى الصراط السوي، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، ومطهراً للقلوب من كل ما يعكر صفوها ويؤثر على سلامتها.
قال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (سورة الجمعة: 2).
والأميون هم العرب، سموا بذلك إما لأن أكثرهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون، أو لأنهم ليسوا أهل كتاب، أو لأنهم منسبون إلى إبراهيم عليه السلام، وقد قال الله فيه: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } (سورة النحل: 120) أو لأنهم أصول الناس وأشرافهم؛ فام الشيء: أصله.
والمراد بالآيات في الآية: القرآن.
والمراد بالتزكية: التطهير والتنقية من الرذائل والتحلي بالفضائل.
والمراد بالكتاب: ما قدره الله على الخلائق، لقوله تعالى: { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } (سورة الرعد: 39)؛ لأننا لو فسرنا الكتاب هنا بالقرآن لأدى ذلك إلى التكرار.
والمراد بالحكمة: القول السديد ووضع الشيء في موضعه، وهذا أولى من تفسير الحكمة بالسنة؛ لأن السنة بيان للكتاب، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتلو عليهم آياته مع بيان معانيها ومقاصدها ومراميها.
هذا المعلم العظيم لابد أن يكون حوله من يتلقى عنه العلم ويتفقه في الدين.
وهؤلاء عليهم أن يحفظوا ما سمعوا ويعوه جيداً، ويفقهوه على النحو الذي يحبه الله ورسوله، ويعملوا به بقدر طاقتهم البشرية، ثم يقومون بتبليغه لمن لم يسمعه منه ولمن جاء بعدهم على سبيل الوجوب بمقتضى هذا الحديث.
ومن لم يفعل استحق من الله العذاب.
قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (سورة البقرة: 159-160).
وهذا الوعيد وإن كان قد نزل في أهل الكتاب فإنه يشمل بعمومه كل من كتم ما أنزل الله من البينات والهدى.
وهذ الوصية الجامعة لكثير من خصال الخير واضحة المعالم، بينة المعاني والمقاصد، ولكن النظر فيها بشيء من العمق في التأمل يزيدنا فهماً على فهم وفقهاً على فقه، فتعالوا بنا ننظر فيها نظرة نستشف من خلالها م وسعنا أن نستشفه ونستخلصه بعقولنا القاصرة ونظرنا المحدود.
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً" أي: أخبروا بما سمعتموه مني، أو رأيتموني أفعله – من وراءكم ممن لم ير ولم يسمع مني ما رأيتموه وسمعتموه؛ فإن ذلك واجب من أعظم الواجبات التي ينبغي عليكم وعلى كل من سمع منكم أن يقوم بها.
والمراد بالآية: الآية القرآنية كما هو ظاهر؛ لأن القرآن هو الكتاب الذي بين الله فيه لعباده كل شيء يحتاجون إلى بيانه، فكان تبليغه فرضاً مقدساً على كل من حفظ منه شيئاً ولو آية.
والسنة داخلة في هذا الأمر بوصفها بياناً للقرآن، ولا يجوز فصل المبين عن المبين، بل إن الكتاب والسنة أصل واحد كما يرى كثير من الفقهاء؛ نظراً لتلازمهما.
فقوله: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً" يشمل بعمومه القرآن والسنة معاً.
وفي قوله: "وَلَوْ آيَةً" قطع عذر من حفظ شيئاً ولم يبلغه، فلا يقولن قائل: ليس عندي من القرآن شيء يذكر، ولا شيء من الحديث يستحق أن يروى؛ فإن من كان معه آية واحدة وجب عليه أن يقرآها على الناس، ومن كان معه حديث وحد – وجب عليه أن يحدث به.
ومن هنا وجد أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنفسهم أمام هذا الواجب وجهاً لوجه، فقاموا به خير قيام، ونهضوا بهذه التبعة الثقيلة بقدرة فائقة، صارت موضع الإعجاب في كل عصر.
فمن تتبع سيرتهم، عرف أنهم لم يكتموا شيئاً سمعوه من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شيئاً رأوه يفعله أو عرفوه من خلال حركاته وسكناته وإرشاراته وإيماءاته، فقد رووا ذلك كله بأمانة لم يعرف لها مثيل؛ فكانوا خير أمة أخرجت للناس.
وقد كان الرجل منهم وهو على فراش الموت يفتش في قلبه عن حديث سمعه من رسور الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ليبلغه لمن حوله لكي يتحلل من هذه التبعة، ويتوقى شر الوعيد المترتب على كتمان ما علمه من الدين كتاباً وسنة.
قال أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كما روى البخاري: لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحداً شيئاً: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى... } الأية.
وأبو هريرة وغيره من أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرفون أن هذه الآية عامة في أهل الكتاب والمسلمين جميعاً، ومعهم على هذا العموم دليل، فقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضاً، عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وغيره أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ".
وقد دعا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن سمع منه فوعى ما سمع وبلغه كما سمع، فقال: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا؛ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ؛ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ".
ومعنى: نَضَّرَ – بنخفيف الضاد وتشديدها – أي بيض وجهه وأظهر عليه آثار نعمته، كما قال تعالى: { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } (سورة المطففين: 24)، وقال جل شأنه: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (سورة القيامة: 22- 23).
والمقالة: ما يتلفظ به المرء من قول
ومقالة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحي من الله إليه، يجريه على لسانه، فيبلغه كما هو بمعناه وإن كانت ألفاظه من عنده.
ومعنى قوله: "فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا" أي: فهمها فهماً صحيحاً، وحفظ ألفاظها، فاجتمع لديه فهم وحفظ، ومن خلال الفهم والحفظ يتأتى الفقه، وهو أعم من الفهم، فكل فقه فهم، وليس كل فهم فقه.
وقد قلت أصول التفسير: إدراك المعاني فهم وإدراك المرامي فقه.
ولذا قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ". يعني: يعطيه فهماً دقيقاً في معانيه ومقاصده وأسراره.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَبَلَّغَهَا" شرط في هذه الدعوة المباركة، فلن ينضر الله وجه امريء يكتم العلم، والعلماء ورثة الأنبياء – كما نعلم -، وهم امتداد لهم في الدعوة إلى الله عز وجل، فلا بد أن يبلغوا ما سمعوه، وأن يذكروا ما فهموه مما سمعوه.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ" يدل على أن الناس متفاوتون في الفقه، فقد يحمل الفقه غير فقيه، فيبلغه إلى من هو أشد منه فهماً لما بلغه، فيعطيه من فقهه في مقابل ما بلغه، فينتفع كل منهما بالآخر، فهذا نقل وذاك فقه، فتعلم الفقيه من الأدلة ما يعينه على استنباط الأحكام العقدية والفقهية واستلهام القواعد الأخلاقية فأفاض على المبلغ من فقهه ما يزداد به وعياً في أمور دينه ودنياه.
وهكذا يكون التعاون في طلب العلم. والعلم هو الأصل الأصيل في تحصيل الإيمان وزيادته شيئاً فشيئاً حتى يكتمل؛ فلا إيمان بلا علم.
قال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } (سورة محمد: 19).
يروى أن رجلاً استفتى الإمام مالكاً في مسألة فقال: حلفت بالطلاق ثلاثاً أن البلبل لا يكف عن التغريد، فأفتاه بأن امرأته قد باتت منه؛ لأن البلبل يغرد حيناً ويسكت حيناً، فولى الرجل حزيناً فلقيه الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فسأله عن سبب حزنه فأخبره، فأفتاه أن امرأته لا تزال في عصمته، فذهب الرجل إلى مالك وأخبره بأن تلميذا من تلاميذه أفتاه بعدم وقوع الطلاق، فقال مالك: لعله المطلبي – يعني الشافعي؛ لأنه منسوب إلى بني عبد المطلب من قريش – فقال الرجل: نعم، هو المطلبي.
فلما حضر الشافعي درس الإمام مالك قال: يا محمد، بم افتيت الرجل في مسألة الطلاق؟ - أي بأي دليل قلت له ما قلت؟.
قال: بحديث أنت رويته لنا، وهو حديث فاطمة بنت قيس، فقد جاءت تستشيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رجلين خطباها: معاوية وأبو جهم، فقال لها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ لَا يَضعُ العَصَا عَنْ عَاتقه".
والرجل يضع العصا حيناً على عاتقه ويضعها حيناً عن عاتقه، فأخبر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغالب أحواله، وهكذا الرجل أخبر بغالب أحوال البلبل، فهو في الغالب لا يكف عن التغريد، فقست حال هذا الحالف بحال صاحب العصا، فأعجب مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بقول الشافعي ووافقه عليه ودعا له بالخير.
فكان الشافعي في حديث فاطمة بنت قيس أفقه من روايه.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثُ لَا يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ" معناه: لا يغلق عليهن ولا يقيد عن الإفصاح بهن وبذلهن لعامة المسلمين وخاصتهم.
فهذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الشر.
والإخلاص لله: التوجه إليه وحده بالعبادة وسائر الأعمال الصالحة.
ومناصحة الأئمة: إسداء النصح لهم وقبول النصح منهم.
والأئمة: هم الحكام ومن في حكمهم من الحواشي والأتباع.
ولزوم الجماعة معناه: العمل الصالح النافع للجماعة والتعاون معهم على البر والتقوى.
فإن ذلك يحيط بمن وراءهم، بمعنى: أنه ينفعهم وينفع من يجيء بعدهم؛ فالسلف قدوة للخلف.
هذا ما وسعني أن أكتبه في الجزء الأول من هذه الوصية وهو قوله: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً".
وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ" يعني: قصوا على الناس ما وقع لبني إسرائيل من الأمور العجيبة والأحداث الغريبة؛ للعظة والعبرة وأخذ الحيطة مما وقعوا فيه من المعاصي التي كانت سبباً في إهلاك الكثير منهم ومسخ بعضهم قردة وخنازير.
وقيل: حدثوا عما كان منهم من المحاسن الخلقية والمكارم الإنسانية.
ولا مانع أن يكون المراد هذا وذاك معاً؛ فإن لبني إسرائيل محاسن ومساويء فكان منهم الصالح ومنهم دون ذلك.
وقيل: المعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما صح عنهم لا بما ثبت كذبه.
وقيل: المعنى حدثوا عنهم بما يوافق كتاب الله تعالى.
ومعنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَلَا حَرجَ" لا تضييق عليكم في ذلك؛ فهم أهل كتاب وأصحاب رسالات سماوية، وفي كتبهم خير كثير، وعند علمائهم أخبار توارثوها من آبائهم وأجدادهم، وفيهم حكماء ينطقون بالحكمة والقول السديد، فلا يضرنا أن نتحدث عنهم ونأخذ منهم ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها.
أما غير أهل الكتاب كالمجوس والهندوس والزنادقة فلا يجوز لنا أن نحدث عنهم إلا بالقدر الذي ينفعنا ولا يخالف ديننا.
وقيل: "وَلَا حَرجَ" أي لا ينبغي أن تضيق صدروكم بما تحدثون به أو تسمعون عنهم من الجرائم والمساويء والأعاجيب التي خرجوا بها عن دائرة الأديان السماوية.
وقيل: لا حرج في ألا تحدثوا عنهم؛ فإن في كتاب ربكم وسنة نبيكم غنى عن أخبارهم، ولولا العظة والعبرة ما ذكر الله شيئاً منها.
والأمر بالتحديث للإباحة. فمن شاء حدث عنهم، ومن شاء لم يفعل.
وصفوة القول في هذا: أن الحديث عن بني إسرائيل ينبغي أن يقتصر فيه على ما تدعو الحاجة إليه من غير إفراط؛ لأن الأفراط في الحديث عنهم يشغل المسلمين عن كتاب ربهم – عز وجل – وعن سنة نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والإسرائيليات تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما علمنا صحته مما بأيدينا من القرآن والسنة.
والقرآن هو المهيمن على جميع الكتب السماوية، وشاهد على صدقها.
ودليل قاطع على ما وقع فيها من تحريف؛ فإنه قد صحح هذا التحريف وأعاد لهذه الكتب السماوية جلالها ومصداقيتها.
وتعاونت السنة مع القرآن في بيان ما غمض على الناس فهمه مما ورد من أخبار عن بني إسرائيل ومن كان قبلهم.
قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } (سورة المائدة: 48-49).
وهذا القسم الموافق للكتاب والسنة صحيح على الجملة مقبول لا يستحب رده، وفيما لدينا غنى عنه بحمد الله تعالى، ولكن يجوز لنا ذكره للاستشهاد به ولإقامة الحجة عليهم من كتبهم ومما جرى على ألسنة أحبارهم ورهبانهم.
وذلك مثل ما ورد في كتبهم من أوصاف النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتبشير بقدومه والإخبار بما سيواجه به من أهل الكفر والضلال، وغير ذلك من الأمور التي أخبروا بها فكانت حجة عليهم.
وفي هذا القسم ورد هذا الحديث الذي نحن بصدد شرحه وإيضاح معناه.
القسم الثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا من الكتاب والسنة.
وذلك كأن تكون الأخبار الواردة عنهم تؤدي إلى الطعن في الأنبياء، أو تشكك في العقيدة بما فيها من شبهات وخرافات وأساطير.
وهذا القسم لا تجوز روايته؛ لنهي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك بقوله "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ، تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَاب اللَّهُ وَغَيَّرُوه، وَكَتتبُزا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ فَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا, أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ، وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ".
القسم الثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا ولا من ذاك فلا نؤمن به ولا نكذبه، لاحتمال أن يكون حقاً فنكذبه، أو باطلاً فنصدقه، ويجوز حكايته لما تقدم من الإذن في الرواية عنهم.
ولعل هذا القسم هو المراد بما رواه أبو هريرة، قال: "كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلينَا وَمَا أُنْزِلَ إِليكم".
ومع هذا فالأولى عدم ذكره، وأن لا نضيع الوقت في الاشتغال به.
وفي هذا المعنى ورد حديث أخرجه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، والبزار من حديث جابر: أن عمر أتى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب، وقال: "لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً ، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّمُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي".
قال ابن بطال عن المهلب: "هذا النهي في سؤالهم عما لا نص فيه؛ لأن شرعنا مكتف بنفسه، فإذا لم يجد فيه نص ففي النظر والاستدلال غنى عن سؤالهم، ولا يدخل في النفي سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا، والأخبار عن الأمم السالفة".
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" بعد قوله: "وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ" يعطينا معنى يغيب عن الكثير من أهل العلم، وهو أن أكثر الأحاديث الواردة عن الصحابة والتابعين عن أخبار أهل الكتاب ومن سبقهم من الأمم فيها كذب أو خلط أو مبالغات تنكرها العقول أو تنكر بعضها.
فقال: "وَمَنْ كَذَبَ عَلَّي... إلى آخره" لتحذير من يروي عنه من الخلط بين ما بقوله هو وما يقوله أهل الكتاب، فإن هذا الخلط يعرض الرواه إلى عذاب شديد في نار جهنم وبئس المصير.
ولذلك وجدنا أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحتاطون لأنفسهم فلا يحدثون الناس إلا بما تأكدوا أنهم سمعوه من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشافهة، أو سمعوه ممن سمعه منه وكان عندهم ثقة عدلاً.
وهكذا كان التابعون المشهورون بالصلاح والتقى والثقة والضبط والعدالة والخبرة بنقد الرجال، والمعرفة بشروط صحة الحديث سنداً ومتناً.
والمعنى المتبادر إلى ذهن من أول وهلة هو: أنه من ذكر للناس حديثاً زعم أنه روى عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليتخذ له في النار مقراً يستقر فيه ومأوى يأوي إليه.
وكل من المعنيين صحيح. فالكذب هو الكذب.
ثم إن الكذب أنواع: أكبرها الكذب على الله – عز وجل – والكذب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثك الكذب في الرؤيا، ثم الكذب في البيع والشراء... إلى آخر ما هنالك من الأنواع التي ذكرتها في كتابي عدة الخطيب والواعظ.
وبعد فإن هذه الوصية من الوصايا التي ينبغي على الفقهاء والمحدثين والمفسرين أن يأخذونها مأخذ الجد والاعتبار قيأتمروا بما أمرهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به على سبيل الوجوب، وهو: تبليغ ما سمعوه منه مباشرة، أو بطريق السند المتصل، وما أمروا به على سبيل الإباحة، وهو: التحديث عن بني إسرائيل على النحو الذي بيناه، ويكفوا عن رواية الأحاديث الموضوعة؛ فإن من روى المكذوب كان كاذباً وأدخل النار مع من افتراه، ويكفوا كذلك عن ذكر أخبار بني إسرائيل إذا كانت مخالفة للكتاب والسنة وفيها شبهات تزعزع العقيدة أو تؤدي إلى الطعن في الأنبياء.
وبذلك نكون قد أدينا واجبنا وقمنا بما فرض علينا، وكنا على ثقة مما نسمع ومما نقول.
والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.