البحث
اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِن
عَنْ أَبِي أمامة الباهلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِن،ِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
الفراسة – بكسر الفاء – هي: المهارة في تعرف بمواطن الأمور من ظواهرها، واستخلاص الرأي السديد من الآراء المتعددة.
وهي النظر الثاقب فيما يُرى ويُسمع، والبصر النافذ فيما يضر وينفع.
والتفرس في الأمور قد يكون مبنياً على الذكاء المفرط، والحنكة في التجربة، والخبرة بعادات الناس وظروف الحياة.
ويقال لمن هذا شأنه: ذكي فطن، وخبير مجرب، والمعي بصير.
وقد يكون مبنياً على البصيرة المستنيرة بنور الله تعالى، بحيث يرى البصير الأمور على ما هي عليه بيقين. وهذا لا يكون إلا للمؤمن.
فالمؤمنون وحدهم هم أصحاب البصائر النيرة والقلوب المبصرة.
هم الذين استجابوا لربهم، فاستجاب الله لهم، ومن عليهم بأعظم المنن التي خصهم بها دون غيرهم.
ومن أعظم هذه المنن على الإطلاق – نور الإيمان، إنه الإلهام المشرق الذي يقتحم قلوبهم كلما فكروا في خلق السماوات والأرض، أو تدبروا في آيات الله البينات، أو نظروا في أحوال الناس وظروفهم المادية والمعنوية.
يقول الله عز وجل:
أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا
(سورة الأنعام: 122)
ويقول جل شأنه:
وَمَن لِّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ
(سورة النور: 40)
والفراسة الموهوبة أعظم بكثير من الفراسة المكتسبة؛ فالأولى: نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن، والثانية: ذكاء وصنعة، تغني عنها الفراسة الإيمانية بينما لا تغني الفراسة المكتسبة عن الأخرى، فتأمل ذلك تجده صحيحاً.
يدل عليه قوله تعالى عن أولئك المتفرسين بالخبرة والتجربة:
يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
(سورة الروم: 7)
وهل لدى من يغفل عن الآخرة فراسة على الحقيقة؟
إن الفراسة الحقيقية هي الكياسة، والكياسة هي معرفة وجوه الخير وإدراك أبعادها حالاً ومآلاً، فأين هؤلاء منها.
إن المؤمن هو الكيس الفطن.
وأكيس الناس كما جاء في الحديث – أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً، أولئك الذين ذهبوا بخيري الدنيا والآخرة.
ومن هنا نعلم السر في إضافة الفراسة في هذه الوصية إلى المؤمن؛ حيث قال:
اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِن
أما غيره فلا نعبأ به؛ لأنه شخص غير موفق؛ لعدم استيقائه شروط التوفيق الثلاثة الواردة في قصة شعيب، وهي: الرغبة في الإصلاح، والتوكل، والإنابة.
قال تعالى حكاية عنه:
إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
(سورة هود:88)
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ
(سورة الرعد: 16)
إن فراسة المؤمن قبس من نور الله عز وجل، قد ضرب لها المثل الذي يقرب المعنى نوع تقريب فقال:
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(سورة النور: 35)
والمراد بقوله:
مَثَلُ نُورِهِ
نوره في قلب عبده المؤمن. هذا هو الراجح من أقوال المفسرين:
وقوله جل وعلا: { كَمِشْكَاةٍ } إلى آخر المثل: تشبيه تمثيلي، فقد شبه صدر المؤمن بالمشكاة وهي الطاقة التي يوضع فيها السراج، وشبه العقل بالمصباح، وشبه القلب بالزجاجة، وشبه كلمة التوحيد بشجرة الزيتون، وشبه الذكر بها بزيت هذه الشجرة.
وأشار بقوله: { لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ } إلى أنها كلمة السواء التي ربطت أهل الأرض بأهل السماء.
من هنا اجتمعت الأنوار والأسرار في قوله: { نُورٌ عَلَى نُورٍ }.
نور الصدر، ونور العقل، ونور القلب، ونور كلمة التوحيد وهي أصل الأنوار كلها.
فمن قالها بقلبه ولسانه وعمل بمقتضاها، فقد أوتى الفراسة.
وهذا ما يدل عليه ختام الآية، فتدبر ذلك واحرص عليه.
وفراسة المؤمن تزيد وتنقص، كما يزيد الإنسان وينقص، ودليل ذلك قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(سورة الحديد: 28)
فقد خاطب الله المؤمنين في هذه الآية وأمرهم بالتقوى والإيمان، مع أنهم أتقياء مؤمنون؛ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم.
والمعنى: دُوموا على تقواكم وإيمانكم، وجددوا إيمانكم كلما شعرتم بشيء من نزغات الشيطان أو نزوات الهوى؛ فإنكم لو فعلتم ذلك أعطاكم الله نصيبين من رحمته: نصيباً لأصل الإيمان، ونصيباً لتجديده والمداومة عليه مع التقوى، ويجعل لكم من لدنه نوراً ترون به ما لا يراه غيركم.
وصدق فيهم قول قائلهم:
قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرونا
وبعد هذا التطواف في فراسة المؤمن نسأل أنفسنا هذا السؤال:َ
ما المراد من الأمر في هذه الوصية؟
والجواب: أن المؤمن يبغض كل البغض أن يرى غيره من المؤمنين على معصية، فإذا أتى المؤمن معصية فجاء إلى مؤمن كامل الإيمان لا يعصي الله فعرف ذلك منه غضب عليه، فيغضب الله لغضبه، فيكون معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِن": احذروا أن تلقوه على معصية ظاهرة أو خفية، ولا سيما المعاصي القلبية، كالكبر، والغرور، والرياء، والعجب، وحب الظهور، والحقد والحسد، وغير ذلك من الآفات التي تعكر صفو الإيمان وتُكدر جلوة اليقين، فإنه بنور إيمانه الذي ميزه الله به عن عوام المؤمنين – مطلع على ما في الضمائر، مشاهد لما في السرائر، فتفضحوا عنده فيشهد عليكم به غداً عند ربكم، وأهل العرفات هم شهداء الله في أرضه.
ومن بر المؤمن بأخيه المؤمن أن يسره بلقائه وطيب حديثه وحسن أدبه، فإذا لقى المؤمن أخاه وهو على معصية، فطن إليها أقواهما إيمانا وأسلمهما قلباً، فيسوؤه منظره ومخبره، ويعكر عليه صفوه الذي يعينه على حسن العبادة، فيضيق صدره بذلك، وربما يتمنى أن لا يلقاه بعد ذلك؛ حتى يتوب توبة نصوحاً.
وقد جاء في الحديث الصحيح قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ
وهل هناك ضرر أعظم من هذا؟.
قرأت في بعض الكتب: أن شيخاً جليلاً كان جالساً مع تلاميذه يعلمهم أصول الأدب مع الله عز وجل، فاقتحم على مجلسه رجل فجلس معهم، فنظر إليه الشيخ لحظة، ثم خلع عباءته وأعطاها له وقال: ارحل عنا بسلام، فلما أدبر الرجل قال تلميذ من تلاميذه: أعطيت الرجل عباءتك التي ليس لك غيرها والبرد شديد.
قال: لقد اشتريت لكم ليلتكم هذه بعباءتي، فما أرخص الثمن!
يريد أن يقول: إن هذا الرجل لم أتوسم فيه الخير، ولو ظل معنا فسيعكر صفو قلوبنا، ويفسد علينا جلستنا.
والعمر هو رأس مالنا، كل لحظة تمر محسوبة لنا أو علينا.
إنه قد تفرس في وجهه، فعرف أنه لا يليق أن يكون في مجلسه أمثاله من أرباب المعاصي.
والفراسة: هي تَوَسُّمُ الخير أو الشر في الوجوه، ومعرفة ما تنطوي عليه القلوب؛ لأن ما ينطوي في القلب يظهر على صفحات الوجه.
ولا يفقه المعاني والمرامي إلا أمثال هؤلاء المتوسمين؛ فهم أهل التدبر والنظر، وأرباب الفطنة والبصر.
يقول الله عز وجل:
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ
(سورة الحجر: 75)
وقال جل شأنه في وصف المتعففين:
يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا
(سورة البقرة: 273).
وقال في شأن المنافقين:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
(سورة محمد 29-30)
وقد كان من أعظم الناس فراسة على الإطلاق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه أتقاهم وأخشاهم لله عز وجل.
ويليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، ثم الأمثل فالأمثل حتى يأتي أمر الله.
والفراسة: هي الإلهام – كما ذكرت – وبينهما فارق يسير ذكره العلماء في كتبهم، فقالوا: الفراسة ضربان:
وقد يكون هذا الإلهام في اليقظة وقد يكون في المنام.
ضرب يحصل للإنسان عن خاطر لا يعرف سببه، وهو الإلهام، ويسمى صاحبه المحدث، كما في خبر: "إن يكن في هذه الأمة محدث فهو عمر".
والثاني: هو ما ذكرنا أنه شيء مكتسب، يشترك فيه المؤمن وغيره مع الفارق الذي أشرنا إليه.
ويقال لهذا الملهم: لديه حاسة سادسة، وتسمى هذه الحاسة بالحدثِ – بسكون الدال.
من ذلك الإلهام ما روى عن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه أوصى ابنته عائشة في مرض موته، فقال لها: أوصيك بأخويك وأختيك. ولم تكن لها إلا أخت واحدة، وكانت امرأته حاملاً. فقالت له: من أين عرفت أن لي أختاً أخرى؟، قال: وقع في قلبي أن ما في بطن امرأتي بنتاً. فكانت كذلك.
ورأي عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قوماً من مذحج فيهم الأشتر فصعد النظر فيه وصوب، ثم قال: قاتله الله إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيباً. فكان منه ما كان.
وروى أن عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دخل عليه رجل فسلم عليه، وكان قد نظر إلى كعب امرأة، فقال: يدخل أحدكم على وفى عينيه أثر الزنا، فقال الرجل: أوحى بعد رسول الله، قال: لا؛ ولكنه نور يقذفه الله في قلب المؤمن. أو كلام هذا معناه.
وروى أن علياً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال لأهل الكوفة: سينزل بكم أهل بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيستغيثون بكم فلا يغاثون، فكان منهم في شأن الحسين ما كان.
والأخبار في ذلك كثيرة لا تحصى.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويؤتي نفوسنا تقواها.