1. المقالات
  2. من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
  3. السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة

السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة

الكاتب : الدكتور محمد بكر إسماعيل
3097 2019/01/27 2024/10/15

 السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ

 

 
عَنْ الْحَارِثَ الْأَشْعَرِيَّ – رضي الله عنه – قال: قال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – "إِنَّ اللَّهَ تَبارك وَتَعَالَى أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا – عليهما السلام - بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا، وَأن يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ عِيسَى – عليه السلام – "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَن تَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ آمُرَهُمْ بِهَا، فَقَالَ يَحْيَى – عليه السلام – :أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِي أَوْ أُعَذَّبَ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَامْتَلَأَ الْمَسْجِدُ بِهِم وَقَعَدَّوْا عَلَى الشُّرَفِ، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ، أَوَّلُهُنَّ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، فَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، وَقَالَ هَذِهِ دَارِي، وَهَذَا عَمَلِي، فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ، فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟
وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ.
 
وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ، وَإِنَّ رِيحَ فم الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ.
 
وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: أَنَا أَفْدِي نَفسي مِنْكُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ.
 
وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى".
 
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ وَالْجِهَادُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجَمَاعَةُ، فَإِنَّ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ فِي جَهَنَّمَ".
 
فَقَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ صَامَ صَلَّى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟!
قَالَ: "وَإِنْ صَامَ صَلَّى، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ".

 

 
*     *     *

 

 
كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يحدث أصحابه عن أخبار الأمم السابقة، وعن أحوال الأنبياء معهم أسوة بالقرآن الكريم، ورفعاً لما قد يكون فيه من الإجمال، ودفعاً للإشكال الذي يعتريهم في أمر هذه الأمم مع أنبيائهم، وتصحيحاً لما صرفه اليهود في كتبهم، وتسلية لهم ومواساة لقلوبهم في أوقات فراغهم من أعمال واستعدادهم لسماع المواعظ والعبر.
 
وليريهم من وراء ذلك كله أن ما جاءهم به لم يخرج عما جاء به الرسل من قبله.
وقد أخذ الله عليه العهد أن يبين للناس ما نُزل إليهم بأقواله تارة وبأفعاله أخرى، فكان صلى الله عليه وسلم ذكراً ترجم الذكر بخلقه الفاضل وسلوكه النبيل، فكان كأنه قرآن يمشي بين الناس تراه أعينهم كما تسمعه آذانهم.
 
وكثيراً ما كان يحدث أصحابه عن صحف إبراهيم وموسى، كما مر بنا في الوصية التاسعة والخمسين.
 
ويُحدثنا – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث عن يحيى بن زكريا، وعيسى ابن مريم – عليهما السلام -، ثم يضيف على ما ذكر جملة من الوصايا التي أمره الله أن يأمر بها أمته ليكون لها السبق على ما سبق، تحقيقاً لقوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (سورة المائدة:3).
 
ويجدر بنا قبل أن نتحدث عن الكلمات الخمسة التي أمر الله يحيى – عليه السلام – أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن – أن نذكر طرفاً من سيرته؛ لنتعرف على مكانته بين أنبياء بني إسرائيل – عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام – فنقول:
 


(أرسل الله يحيى في حياة أبيه زكريا – عليهما السلام – وكان حكيماً أوتي الحكمة في صباه، ووهبه الله حناناً من لدنه، وزاده بركة وتقى، وجعله سيداً على أهل زمانه، وحصر همته في طاعته، وقصر هواه في عبادته، ولم يجعل له في النساء رغبة مع قدرته على إتيانهن في الحلال لو شاء.
 
وقد زوده الله بالعلم فحفظ التوراة عن ظهر قلب، وعمل بكل ما فيها على وجه التمام؛ لذا وصفه الله بأوصاف جمعت شعب الإيمان كلها.
 
ويقال: إنه بُعث قبل الأربعين خصوصية له – عليه السلام – فقد كان عليه السلام – بما معه من الحكمة لا يلهو كما يلهو الصبيان، ولا يلعب كما يلعبون، ولكنه صحب أباه في صغره وكبره، وحنا عليه، وأحسن إليه، وكان باراً به وبأمه برا صار مضرب الأمثال، ولم يكن يوماً يتظاهر بما يتظاهر به أمثاله في الحسب والنسب، بل كان مثال التواضع الجم، ولم يكن يعصي لأبويه أمراً في ليل أو نهار، وقد ترك الله ذكراه في النفوس المؤمنة، وألقى في قلوبهم محبته بحيث يسلم عليه كل من يذكره كما يسلم على سائر الأنبياء والمرسلين.
 
وقد ولد عيسى ابن مريم – عليه السلام – في عصره فباركه ودعا له، ولما شب عيسى – عليه السلام – رافق ابن خالته يحيى وشاركه آلامه وآماله، وشد من أزره في تبليغ رسالته إلى بني إسرائيل، وهم قوم قساة القلوب غلاظ الطباع لا يستجيبون بسهولة إلى نصح الناصحين، ولا يؤمنون لرسول إلا وهم مشركون.
 
وقد وجد منهم يحيى – عليه السلام – في دعوتهم إلى الإيمان صدوداً وعنتاً وإعراضاً حتى كاد يكف عن تعليمهم وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة لولا عزمة من عزمات ربه – عز وجل).

 

 
 *     *    *

 
وقوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث: "كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا" ليس معناه: أنه هم بذلك، ولكن معناه: أنه قرب من ذلك ولم يفعله، فالفعل "كَادَ" ينفي المثبت ويثبت المنفي.
 
فإذا قلت: كادت الشمس تطلع، فقد نفيت طلوعها.
وإذا قلت: لم تكد الشمس تطلع حتى خرجت من بيتي، فمعناه: أنها طلعت، فافهم ذلك وبالله توفيقك.
 
وعيسى – عليه السلام – لم يكن يتهدد يحيى – عليه السلام - ، ولكن كان يعرض عليه معونته في تبليغ رسالته حباً له وعطفاً عليه من غير استخفاف بعزمه أو حط من شأنه.
 
فقال يحيى – عليه السلام -: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أُعَذب، لأنه حينئذ يكون خان الأمانة بكفه عن التبليغ، أو تباطؤه فيه، وهذا مستحيل في حق الرسل، فهم موصوفون بالصدق والأمانة، والتبليغ والفطانة، معصومون من الذنوب صغيرها وكبيرها.
 
قال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "فَجَمَعَ النَّاسَ" أي من فوره دون إبطاء، بدليل "الفاء" الدالة على الترتيب والتعقيب.
 
وكان الجمع عظيماً في بيت المقدس إلى الحد الذي لم يجد الناس فيه مكاناً إلا على شرفاته، وهي: ما ارتفع عن الأرض كالنوافذ ونحوها.
 
وهذا يدل على مدى اهتمام يحيى – عليه السلام – بهذا الأمر العظيم، ويدل أيضاً على هِمًّته العالية، وحكمته البالغة، وأسلوبه الحكيم.
 
فما كان بنو إسرائيل ليعبأوا بدعوته لولا أنه قد بذل فيها جهداً خارقاً للعادة.
 
فلقد دعتهم الرسل من قبله فلم يحفلوا بهم إلا إذا أرادوا أن يسخروا منهم ويهزأوا بهم، فعند ذلك فقط يأتون عن بكرة أبيهم.
{ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } (سورة الحشر: 14).
 
ولكن هل عملوا بما أمرهم به أم عصوه وأعرضوا عنه، وانفضوا من حوله.
 
أقول: ليس في الحديث تصريح بهذا ولا بذاك، ولكن الغالب أن أكثرهم قد صَدَّ عنه، وسخر منه، واستهزأ به، ودبر لقتله.
 
هذا حالهم مع أنبيائهم، وقد قتلوا أباه بعد أن قتلوه، وقتلوا كثيراً من أنبيائهم كما أخبرنا القرآن عنهم.
 
قال تعالى: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } (سورة آل عمران: 112).

 
*     *     *

 
والمراد بالكلمات التي أمر الله يحيى – عليه السلام – بهن: الوصايا الواجبة.
فالكلمة تطلق ويراد بها عدة معان منها:
1-    الكلمة المركبة من حروف.
2-    الكلام الكثير في موضع واحد، أو في هدف واحد، كالخطبة ونحوها.
 
يقال: فلان ألقى في المسجد كلمة وعظ فيها الناس، وذكرهم بالله.
 
ومنه قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } (سورة المؤمنون:99-100).
 
فقد أطلق الكلمة وأراد بها ما قالوه، وهو أكثر من كلمة.
3- وتطلق الكلمة: على القضايا والأحكام التي لا ترد.
 
ومنه قوله تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ  الْعَلِيمُ } (سورة الأنعام: 115).
 
4- وتطلق الكلمة: على العهد والأمر المهم والوصية كما هنا.
وأول هذه الكلمات في الذكر أولهن في الفعل، فقد أمرهم أن يعبدوا الله وحده لا يشركون به شيئاً على الإطلاق.
وضرب لهم مثلاً يبرز لهم المعنى في صورة محسة؛ ليزدادوا فهماً لهذه الكلمة التي قامت بها السماوات والأرض، فهم قوم لا يفقهون كثيراً مما يلقى عليهم إلا بعد جهد جهيد في التوضيح والتمثيل والإطناب.
 
فقال لهم: "إِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ - بكسر الراء: أي فضة -، وَقَالَ هَذِهِ دَارِي، وَهَذَا عَمَلِي، أي هذا ما أريد منك أن تعمله، فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ، أي: ادفع إلي ما تربحه، فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟
 
والجواب معروف، فمادام الله – عز وجل – قد خلق الخلق بقدرته من العدم، ورباهم على موائد العز والكرم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وعرفهم بنفسه فعرفوه، وحدد لهم وظائفهم فعرفوها بواسطة الرسل، وهي المتمثلة في إفراده بالعبادة، فهل يرضي جل جلاله أن يشركوا معه غيره في العبادة.
 
وهذا المثل يشبه إلى حد ما ما جاء به القرآن الكريم بأسلوبه المعجز في سورة الزمر قال تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } (آية 29).
 
فهو مثل ضربه الله – عز وجل – لبيان حقه على عباده في إفراده بالعبادة على وجه الإخلاص التام.
 
(فالذي يعبد آلهةٌ شتى، هو صورة من هذا الرجل الذي تملكه تلك الأيدي الكثيرة المتشاكسة، إنه يقطع أنفاسه لاهثاً وراء إله يريد أن يكسب رضاه بالملق والرياء والدس على الآلهة الآخرين.
 
وأما الذي يعبد إلهاً واحداً، وهو الله رب العالمين، فهو صورة لهذا الرجل الذي هو سلم لرجل، أي خالص له لا يدين بالولاء لغيره، إنه إذاً يعبد الله وحده فهو على حال من الأمن والطمأنينة ما دام مطيعاً له مخلصاً في عبادته.
 
ولما كان هذ المثل واضحاً غاية الوضوح كان الجواب على السؤال فيه متوقعاً، فصاغه الله في أحسن أسلوب وأعظم مقال فقال جل شأنه: { الْحَمْدُ لِلَّهِ }.

 
*     *     *

 
وثاني الكلمات في الذكر ثانيتهن في الفعل، وهي الصلاة.
 
فالصلاة عماد الدين، وركن الركين، وهي البرهان الصادق على صحة الإيمان، حتى أن الله – عز وجل – قد سماها إيماناً، وذلك في آية القبلة، فقال تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } (سورة البقرة: 143)، أي صلاتكم.
 
ولكن الصلاة التي تكون كذلك هي التي يؤديها المسلم بخشوع وخضوع وتمسكن وتواضع، لا يلتفت فيها بقلبه ولا بقالبه.
 
قال يحيى – عليه السلام – كما حكى الرسول – صلى الله عليه وسلم – عنه: "وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ".
 
ونصب الوجه في حق الله تعالى كناية عن العناية به وقبول صلاته وزيادة أجره، ونحو ذلك من المعاني التيلا يأباها المقام.
 
ذكر ابن القيم في كتابه الوابل الصيب: (أن الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان:
أحدهما: التفات القلب عن الله – عز وجل – إلى غير الله تعالى.
والثاني: التفات البصر.
 
ولا يزال اله مقبلاً على عبده مادام العبد مقبلاً على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله تعالى عنه.
 
وقد سئل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِالْتِفَاتِ الرَّجُلِ فِي صَّلَاته فَقَالَ" اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ".
 
ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان فأوقفه بين يديه وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يميناً وشمالاً وقد انصرف قلبه عن السلطان فلا يفهم ما يخاطبه به؛ لأن قلبه ليس حاضراً معه، فما ظن هذا الرجل أن يفعل به السلطان.
 
أفليس أقل المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتاً مبعداً قد سقط من عينيه.
 
فهذا المصلى لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته الذي قد اشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذلت عنقه له، واستحيا من ربه تعالى أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه.
 
وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله – عز وجل – والآخر ساء غافل.
 
فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه وبينه حجاب لم يكن إقبالاً ولا تقريباً، فما الظن بالخالق عز وجل!!.
 
وإذا أقبل على الخالق – عز وجل – وبينه وبينه حجاب الشهوات والوسواس، والنفس مشغوفة بها ملأي منها. فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوس والأفكار، وذهبت به كل مذهب.
 
والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويمنيه وينسيه ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهون عليه شأن الصلاة فيتهاون بها فيتركها.
 
فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخلوله فيها) ا.هـ.

 

 

 
 
وإن الصلاة تنهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر، وتكفر الذنوب أولاً بأول إذا ما أداها العبد بخشوع وخضوع، ووقف بين يدي ربه بقلبه وقالبه.
 
وعلامة صحتها وقبولها أن ينصرف المصلي منها وقد وجد خفة من نفسه، وأحس بأثقال قد وضعت عنه، ووجد نشاطاً وراحة وروحاً، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرة عينيه ونعيم روحه، وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدل فيها فيستريح بها لا منها.
 
فالمحبون يقولون: نصلى فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "يَا بِلَالُ أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ". ولم يقل أرحنا منها.

 


 
وقال – صلى الله عليه وسلم- : "جُعِلت قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ".
 
أما الذين يقولون: أرحنا منها، فهؤلاء عنها بمعزل، فهم يصلون ولا يصلون؛ لأنهم يؤدونها وهم عنها غافلون، وبغيرها مشغولون، أجسامهم ترتفع وتنخفض، وقلوبهم مشتتة في هموم الدنيا، ونزوات الهوى، حتى أن أحدهم لا يدري أي سورة قرأها في الركعة الأولى وأي سورة قرأها في الركعة الثانية، وربما يزيد فيها وينقص منها وهو لا يدري.
 
وهذه الصلاة لا تنهي أبداً عن الفحشاء والمنكر، ولا ترتفع فوق رأس صاحبها شبراً، ولا يقال لصاحبها إنه قد صلى.
 
والكلام في الصلاة يطول، وما ذكرناه فيه كفاية هنا.
 
وسيأتي في كل موضع تذكر فيه الصلاة ذكر ما يناسب المقام من الأحكام والآداب والفضائل.


*     *     *


وثالث الكلمات في الذكر ثالثها في الفعل، وهي الصوم؛ لأن الصوم عبادة بدنية كالصلاة، يتجه العبد فيها بقلبه إلى الله إيماناً واحتساباً، فهي برهان من براهين صحة الإيمان كالصلاة.
 
ولذلك جاء في الحديث الصحيح: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ".
 
والصائم الحق هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وليس هو من كف عن الأكل والشرب والجماع فحسب.
 
وهذا هو الذي أشار إليه يحيى – عليه السلام – في المثل الذي  ضربه لقومه، إذ قال: وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ، وَإِنَّ رِيحَ فم الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ.
 
وإنما ضرب المثل للصائم بمن يحمل المسك في صرة وهو في جماعة من الناس بجامع الخفاء في كل منهما.
 
فبائع المسك يخفي مسكه، ولكن ريحه يدل عليه.
 
والصائم يخفي صومه لأنه لا يصوم إلا لله، ولكن رائحة فمه تدل عليه ولذلك قال: "وَإِنَّ رِيحَ فم الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ".
 
وهو كناية عن قبول عمله والرضا به والإثابة عليه.
 
وقد جاء في الحديث السابق ذكره آنفاً قوله – صلى الله عليه وسلم - : "وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ".
فقد وافق قول النبي – صلى الله عليه وسلم – قول يحيى – عليه السلام – وأبده؛ لأن كلام المرسلين وحي يوحى، أعني يخرج من مشكاة واحدة.
 
وذكر ابن القيم خلافاً في خلوف الصائم، هل هو في الدنيا أم في الآخرة فقال: وقع بين الشيخين الفاضلين أبي محمد (عز الدين) بن عبد السلام، وأبي عمرو ابن الصلاح – تنازع. فمال أبو محمد إلى أن تلك في الآخرة خاصة، وصنف فيه مصنفاً.
 
ومال الشيخ أبو عمرو إلى أن ذلك في الدنيا والآخرة، وصنف فيه مصنفاً رد فيه على أبي محمد... إلى آخر ما قاله".
 
والأصح الذي لا أرى من يخالفني فيه أن تلك الرائحة أفضل عند الله من رائحة المسك في الدنيا والآخرة معاً.
 
أما في الدنيا فإن الله يستطيبها ويحبها لموافقة الصائم أمره ورضاه، على حين ينفر الناس منها كما تقتضيه طباعهم.
 
وأما في الآخرة فإن كل أمة تتميز عن الأخرى بعلامات، وكل عابد يتميز عن غيرخ بعلامات.
 
فعلامة الصائم الذي يكثر من الصيام رائحة فمه، يعرف الناس به أنه كان من الصائمين في الدنيا، كالشهيد يعرف برائحة دمه... وهلم جرا.

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day