البحث
السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة - الجزء الثاني
ورابع الكلمات التي أمر الله يحيى – عليه السلام – أن يعمل بها، وأن يأمر قومه أن يعملوا بها هي الصدقة، وهي عبادة مالية تلي الصلاة والصوم في المرتبة؛ لأنها برهان على صحة الإيمان أيضاً. كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه.
وسميت الصدقة صدقة للدلالتها على الصدق، فإن المسلم ببرهن بصدقته على صدقه في حب الله – عز وجل - .
قال تعالى: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ } (سورة البقرة: 177) أي على حبه لله، وعلى حب المال أيضاً، فقد أعطى ما يحب لمن يحب من أجل من يحب.
وقال جل وعلا: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } (سورة الإنسان: 8-9).
والصدقة نوعان:
صدقة مفروضة، وصدقة تطوع.
وللصدقة تأثير عجيب في رفع البلاء ودفع الشدة، وكشف الكرب، وتفريج الهم، وفتح أبواب الرحمة، والشفاء من الأمراض والعلل، هذا مع مضاعفة الأجر، وأكبر من ذلك كله رضوان الرب تبارك وتعالى.
ولهذا ضرب يحيى – عليه السلام – هذا المثل لقومه ليكونوا على بينة من منافعها العظيمة في الدنيا والآخرة، فيؤدونها بإخلاص لله وثقة في فضله.
فالرجل الذي أسره العدو وقع في بلاء عظيم، وتعرض للنكاية في نفسه وعرضه وماله، وحلت به قارعة يكون الموت فيها أفضل من الحياة.
وقد أوثقوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، ولاح أمام عينيه شبح الموت من قريب، وانتظره بأنفاس مكبوتة، فطال عليه الانتظار – وهو قصير – حتى بدا له أن الثانية تمر كأنها ساعة.
لكن هذا الرجل قد احتال عليهم بحيلة تنجيه من الموت بعد أن كان يفقد الأمل في الحياة، فقال للعدو: أنا أفدي نفسي منكم بالقليل والكثير، فرضوا بذلك ففدى نفسه منهم ونجا من شرهم.
هكذا يكون حال المزكي والمتصدق؛ فإنه أسير البخل والحرص والطمع والشح، فهو عرضة للتهلكة، فإذا أنفق من ماله شيئاً كانت نجاته من التهلكة بقدر ما أنفق.
لكن إذا بذل الكثير والكثير آتت الصدقة ثمارها، فنما المال وع الرخاء، وزالت الشدة وبرئت الأجسان من الأمراض، ورفع البلاء عن المتصدق، وعن أهل بيته جميعاً.
فإن لم يرفع كله منحه الله القوة على احتمال ما تبقى منه.
قال الله – عز وجل - : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (سورة البقرة: 195).
وقال جل شأنه: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } (سورة سبأ: 39).
وقال عز جاهه: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } (سورة البقرة 245).
والآيات التي تحض على الإنفاق وترغب فيه كثيرة، والأحاديث في ذلك لا تكاد تحصى. منها:
ما رواه الترمذي في جامعه عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ عَنْ مِيتَةِ السُّوءِ"
وفي الصحيحين عن عدي ابْنِ حَاتِمٍ أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا تَقدم، يَنْظُرُ أشأم مِنه فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قدم، وَيَنْظُرُ بين يديه فَلَا يرى إلا النَّارُ تلقاء وجهه، فَاتقوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ".
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – "أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جبتان مِنْ حَدِيدٍ أَو جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَ مِنْهُ حَتَّى تُغَشِّيَ أَنَامِلَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ. وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا"
قَالَ أَبو هريرة: "فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بِإِصْبَعِهِ فِي جَيْبِهِ فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَوَسَّعُ".
ولما كان البخيل محبوساً عن الإحسان ممنوعاً عن البر والخير كان جزاؤه من جنس عمله، فهو ضيق الصدر ممنوع من الانشراح، ضيق العطن صغير النفس قليل الفرح، كثير الهم والغم والحزن، لا يكاد تقضي له حاجة ولا يعان على مطلوب.
فهو كرجل عليه جبة من حديد قد جمعت يداه إلى عنقه بحيث لا يتمكن من إخراجها ولا حركتها، وكلما أراد إخراجها أو توسيع تلك الجبة لزمت كل حلقة من حلقاتها موضعها.
وهكذا البخيل كلما أراد أن يتصدق منعه بخله فيبقى قلبه في سجنه كما هو.
والمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه.
فكلما تصدق اتسع وانفسح وانشرح، وقوي فرحه وعظم سروره.
ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبد حقيقاً بالاستكثار منها والمبادرة إليها.
وقد قال تعالى: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (سورة التغابن: 16).
وكان عبد الرحمن بن عوف – أو سعد بن أبي وقاص – يطوف بالبيت وليس له دأب إلا هذه الدعوة: رب قني شح نفسي، رب قني شح نفسي.
فقيل له: أما تدعو بغير هذه الدعوة؟, فقال: إذا وقيت شح نفسي فقد أفلحت.
* * *
الكلمة الخامسة خاتمة الكلمات، وختامه مسك، وهي قوله: "وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ". يعني في جميع أوقاتكم بألسنتكم وقلوبكم وعقولكم.
وذكر الله – عز وجل – هو البلسم الشافي من كل داء، به تطمئن القلوب المؤمنة.
قال الله عز وجل: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } (سورة الرعد: 28).
وبه تهدأ النفوس الثائرة، وتسكن وتستريح، وتبرأ من عللها وأمراضها.
وأعظم الذكر كتاب الله – عز وجل-.
قال تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } (سورة الزمر: 23).
ويذكر الله تهتدي العقول إلى وحدانيته – عز وجل – فإن الذكر نور يبدد ظلمات الكفر والجهل، فكان هو القائد الذي يقود العبد إلى صراط الله المستقيم، ويعرفه بنفسه، ومن خلال معرفته بنفسه يعرف ربه – عز وجل- .
فالذكر باللسان والقلب والعقل يفتح للإنسان آفاقاً رحبة للتأمل والنظر في ملكوت الله – تبارك وتعالى-.
وهو الأمر الذي يقربه من خالقه، ويدنيه من حضرة قدسه، ويجعله عبداً ربانياً يكون هواه تبعاً لمرضاته، ويكون حظه في طاعته.
وهناك فضيلة أخرى بينها يحيى – عليه السلام – بقوله: "فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى".
قال ابن القيم – رحمه الله - : فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقياً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهجاً بذكره، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله – تعالى- انخنس عدو الله – تعالى – وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذباب، ولهذا سمي "الوسواس الخناس"؛ لأنه يوسوس في الصدور فإذا ذكر الله – تعالى – خنس، أي كفوانقبض.
قال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس.
وفي مسند الإمام أحمد عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ – عز وجل –".
وقال معاذ بن جبل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: بلى يا رسول الله قال : "ذكر الله – عز وجل –".
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ فَقَالَ: سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَيل وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ".
وفي السنن عَنْ أَبِي هُرَيْرَة – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً".
وفي رواية الترمذي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ".
وفي صحيح مسلم عَنْ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ أنهما شهَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قَالَ: "لَا يقعد قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَتَغَشَّتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ".
وفي الترمذي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ - أَبْوَابِ الْخَيْرِ كَثِيرة وَلَا اسْتَطِيعُ القيام بِكُلَهَا، فأخبرني بِمَّا شِئْت أَتَشَبَّثُ بِهِ وَلَا تكثر عَلي فَأَنْسَىَ، وفي رواية: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، وأنا قد كبرت فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ قَالَ: "لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى".
وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ".
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذا ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِليَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً".
وفي الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا" قَالُوا وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "حِلَقُ الذِّكْرِ".
وبعد أن قص النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ما أمر الله به يحيى – عليه السلام – أن يعمل به ويأمر قومه أن يعملوا به – قال: " وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ وَالْجِهَادُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجَمَاعَةُ، فَإِنَّ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ فِي جَهَنَّمَ".
ولنا فيما أمرنا به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثأملات؛ فإن هذه الأوام جد لا هزل فيها.
وهي من أمهات المبادئ التي يقوم عليها تقويم الفرد وإصلاح المجتمع.
الكلمة الأولى: (السمع) وهي كلمة جامعة لكل ما من شأنه أن نسمعه ونعيه ونفقه معناه ومرماه.
ولقد جاءت هذه الكلمة مقتضية في كتاب الله تعالى، فجاء بها الرسول – صلى الله عليه وسلم – كما جاء بها القرآن، لتذهب النفس في معناها ومرماها كل مذهب يؤدي إلى العمل بما نسمع، إذا كان صادراً عن الله – عز وجل – وعن رسوله – صلى الله عليه وسلم – وعن أولي العلم والنهي من أصحابه الكرام البررة، أو عن التابعين لهم بإحسان.
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة البقرة: 104).
وقد نزلت هذه الآية تبصر المؤمنين بمكر اليهود وخبثهم، وتحذرهم من تقليدهم في قولهم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - : راعنا، فهي كلمة كانوا يلوون بها تقليدهم في ألسنتهم، وفي تحريفها سب لرسول الله – صلى الله عليه وسلم، تعني الرعونة ولا تعني المراعاة.
وكان المؤمنون بسلامة نية يقولون: يا رسول الله، راعنا، أي: أنظر إلينا، أو انتظرنا.
فلما تكررمن اليهود ذلك وحاكاهم بعض المؤمنين فيه، أمرهم الله أن يقولوا بدلاً من هذه الكلمة كلمة صريحة لا تقبل اللي والتحريف.
وأمرهم أن يسمعوا لما يجري على لسان النبي من قرآن وسنة، حتى يتثنى لهم أن يفقهواما يقول ويعملوا به على قدر طاقتهم البشرية.
وقد بين الله خبث اليهود ومكرهم برسوله – عليه الصلاة والسلام – وطعنهم في دينه بالتصريح والتلويح في سورة النساء بشيء من التفصيل، فقال جل شأنه: { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا } (سورة النساء: 46).
وأنت خبير بأن قول الرجل لأخيه: اسمع أو انظر من غير أن يذكر مسموعاً أو مبصراً، يستطيع المخاطب أن يفهم المراد من خلال السياق وبواسطة القرائن، ويعرف ما وراء هذا الأمر من المقاصد.
ولا شك أن حذل المفعول به يكون أبلغ من ذكره أحياناً.
وكذلك الكلمة الثانية: وهي (الطاعة)، فإنها تعني طاعة الله ورسوله، وطاعة أولي العلم من المؤمنين، وطاعة أولي الأمر في غير معصية الله – عز وجل - .
والكلمة الثالثة: (الجهاد) في سبيل الله، وقد تقدم الكلام فيه مراراً، فلا نطيل في ذكر فضائله هنا، ولكن يكف أن نقول: الجهاد فريضة من أعظم الفرائض التي يحفظ المسلمون بها دينهم، ويصونون بها أعراضهم وديارهم وأموالهم.
فهو ذروة سنام الإسلام كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي في سننه.
وقد رتب الله عليه الخير كله مع الإيمان فقال جل شأنه:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } (سورة الصف: 10-13).
والكلمة الرابعة: (الهجرة) وهي: نوعان:
هجرة خاصة من مكة أو مما حولها إلى المدينة، وهي الهجرة لم تعد فرضاً ولا سنة بعد فتح مكة.
لقوله – صلى الله عليه وسلم – : "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ".
أما الهجرة الهرب فهي واجبة إن كان في الهرب حفظ الدين أو النفس، أو النسل، أو العقل، أو المال، لأن المكلف مطالب بحفظ هذه الضروريات الخمسة.
وأما هجرة الطلب فهي تختلف باختلاف المطلوب:
فإن كان المطلوب واجباً، كانت واجبة.
وإن كان المطلوب مستحباً، كانت مستحبة.
وإن كان المطلوب مباحاً، كانت مباحة.
وإن كان مكروهاً، كانت مكروهة.
وإن كان حراماً، كانت حراماً.
وذلك لأن الوسائل تُعطي حكم الغايات، كما قال علماء الأصول.
والهجرة تنقسم باعتبار آخر إلى نوعين:
هجرة من بلد إلى بلد، أو من مكان إلى مكان
وهجرة من المعاصي إلى الطاعات.
قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ".
يعني أن المهاجر الحق هو من هجر المعاصي ولزم الطاعات رغباً ورهباً، عملاً بقوله تعالى: { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ } (سورة الذاريات: 50).
والفرار إلى الله على ثلاث مراتب.
أولها: الفرار من الكفر إلى الإسلام.
وثانيها: الفرار من المعاصي إلى الطاعات.
وثالثها: الفرار منه إليه؛ إذ لا منجاةمنه إلا إليه.
والكلمة الخامسة: (الجماعة)، أي لزومها وعدم الخروج عنها ما دامت تعمل بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - ؛ فإن الخروج عن الجماعة مروق عن الدين، وفتنة لمن خرج عنها أو لمن تحدثه نفسه بالخروج عنها.
ولا شك أن ذلك يفت في عضد المسلمين، ويمزق جمعهم، ويذهب ربحهم، ويوقد نار العداوة بينهم فيقاتل بعضهم بعضاً، ويشغلون بأنفسهم عن عدوهم فينال منهم ما يريد من غير جهد ولا مشقة.
وهو الخطر الذي لا يدرك مداه ولا يعرف منتهاه.
يقول الله – عز وجل - :{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (آل عمران: 103)
ويقول- جل جلاله - : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (سورة الأنفال: 46).
وقد حكم النبي – صلى الله عليه وسلم – بحكم الله – عز وجل – على من فارق الجماعة أدنى مفارقة، بأنه قد نزع هيبة الإسلام وجلاله وحلاوته من قلبه.
وذلك لأن الشيطان ينفرد به ويستحوذ عليه، فينسيه ذكر تبارك وتعالى، ويقعده عن نصرة الإسلام، وعن تأدية واجباته نحو الجماعة المسلمة، ويشغله بنفسه عن إخوانه، فتملكه الأثرة فلا يحب إلا ذاته، ولا يعمل إلا لمنفعته.
وهو الأمر الذي يجعله يتخلى عن مبادئ الإسلام، وعن أخوة الإيمان، فيفقد هويته فلا يعرف إن كان مسلماً أو عدواً للإسلام.
ربما تنظر إلى صلاته فيعجبك مظهره فيها؛ إذ تراه يُحسنُ القراءة ويطيل الركوع والسجود، فتحسبه على شيء من الإسلام، وقد مرق منه كما يمرق السهم من الرمية.
وقد يعظ الناس حتى يبكيهم وهو عن النصح بمعزل.
إنه بمفارقته الجماعة يكون معهم في الظاهر، وعدواً لهم من وراء حجاب.
حجبته عنهم ظلمة قلبه وموت ضميره، فكان أشد على المؤمنين من ألد أعدائهم.
نسأل الله السلامة والعافية.
* * *
ثم قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : "وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ فِي جَهَنَّمَ".
ودعوى الجاهلية عريضة لا رابط لها ولا ضابط؛ لأنها مبنية على الهوى الجامح والجهل المطبق، والتعصب الحائر والتقليد الأعمى.
ومن دعاوي الجاهلية: الدعوى إلى النزعات القبلية وتحريض بعض القبائل على بعض، وإيقاظ العصبية الحمقاء من سيأتها، وإيقاد نار الحرب بين المسلمين بقصد أو بغير قصد، وإشعال فتيل الفتنة بين الجماعة المسلمة لأسباب واهية، أو من غير أسباب تذكر.
ولقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يتوقع الشر من بعض من كانوا يلتفون حوله من المنافقين أو ضعفاء الإيمان، فكان يحذرهم تحذيراً شديداً من مفارقة الجماعة وشق عصا الطاعة عن خليفة المسلمين من بعده، ويوصيهم بطاعة أولى الأمر ما أطاعوا الله – عز وجل – وإن كان الذي تأمر عليهم عبداً أسود اللون، ويعتبر أي مخالفة لأمير المسلمين من غير ضرورة ملحة جريمة تؤدي بصاحبها إلى فراغ قلبه من الإيمان، وهو الأمر الذي يؤدي به حتماً إلى جهنم ما لم يتب من ذنبه ويعتصم بالله.
وقد قال الله – عز وجل -: { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (سورة آل عمران:101).
* * *
فقال رجل: وَإِنْ صَامَ صَلَّى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟!
قَالَ: "وَإِنْ صَامَ صَلَّى، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ تَعَالَى".
وذلك لأن صلاته لم تكن تعبر عن عبوديته التي ينبغي أن يشعر بها في أعماق نفسه، فهو يؤدي بجسده لا بقلبه، إذ القلب مشغول بالفتن ملئ بالوساوس والهواجس، والشبهات والشهوات، والأحقاد والأطماع الشخصية.
ومثل هذه الصلاة لا تنهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر، ولا تزيده من الله إلا بعداً ومقتاً.
والصوم تابع للصلاة، فمن لم تنفعه صلاته لا ينفعه صومه.
وقد ذكرنا في بعض الوصايا المتقدمة، وفي هذه الوصية، أن الصلاة عماد الدين وركنه الركين، وأنها برهان صحة الإيمان، ومن أجل هذا سماها الله إيماناً في آية القبلة، فقال – جل وعلا - : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } (سورة البقرة: 143).
وقوله صلى الله عليه وسلم في ختام هذه الوصية: "فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ...." معناه: آمنوا بالله، واستمروا على إيمانكم، وادعوا الناس بدعوى الله، وهي على الضد تماماً مما دعا به الناس في جاهليتهم.
ودعوى الله تتمثل في دعوة الناس إلى الإيمان به، وإفراده بالعبادة، والعمل بكتابه – عز وجل – وسنة رسوله – عليه الصلاة والسلام -, والدعوة إلى توحيد الصف وجمع الكلمة، واحترام الأخوة الإيمانية التي ائتلفت عليها القلوب وتعامل بها الناس فيما بينهم في أرقى العصور وأزهاها، وهو عصر الصحابة رضوان الله عليهم – وطرف من عصر التابعين.
إن الدعوة إلى الله سنية على البصيرة، وهي: الحجة الظاهرة والبرهان الساطع، والتشخيص الصادق للداء، والوصف الملائم للدواء الناجع.
قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة يوسف: 108).
إنها دعوة إلى الحق المجرد بالحكمة والموعظة الحسنة من غير تكلف ولا اعتساف، ولا سب ولا تجريح ولا جدل عقيم.
قال تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (سورة النحل: 125).
وقد بين الله المجادلة بالتي هي أحسن في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، وفقال تعالى:{ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } (سورة آل عمران: 20).
وقال جل شأنه: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (سورة الأنعام: 108).
وقد سمانا الله المسلمين لنكون مسلمين حقاً، والإسلام دين السلام والحب والوئام، والإخلاص التام لله رب العالمين.
قال تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } (سورة الحج: 78).
وقد سمانا المسلمين على لسان إبراهيم – عليه السلام – كما حكى الله عنه في دعائه وهو يبني البيت الحرام، فقال: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (سورة البقرة: 127-128).
وسمانا المؤمنين فقال: { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } (سورة آل عمران: 68).
وقد أنهى الرسول صلى الله عليه وسلم حديثه معهم بهذا الخطاب الذي يفرح به المؤمنون ويعتزون به فقال: "عباد الله"، ويحذف حرف النداء، لإشعارهم بقربه منهم وقربهم منه، والإضافة للتشريف والتكريم والتعظيم؛ فالجميع عباد الله ولكن إضافة العباد إليه نوعان:
الأول لإظهار العبودية.
والثاني: لإظهار العبادة.
ولفظ العبيد يطلق على جميع الخلق، كما في قوله تعالى: { وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (سورة ق: 29)، فهو مشتق من العبودية ودال عليها.
ولفظ العباد مشتق من العبادة ودال عليها، وهو وصف يغلب إطلاقه على المؤمنين المخلصين، والذين أسرفوا على أنفسهم منهم أيضاً؛ لقربهم من التوبة وقبولها منهم.
والرسول – صلى الله عليه وسلم – يخاطب أصحابه؛ لأنهم عبيد عباد ينتفعون بالذكرى، وتؤثر فيهم الموعظة، فالخطاب لهم على وجه الخصوص ولسائر الخلق بوجه عام، فمن سمع وأطاع فهو في مقام التشريف والتعظيم، يفرح بإطلاق هذا الوصف عليه ويفخر به ولا يرى وصفاً أعظم منه.
قال قائلهم:
لقــد زادنــي فــرحاً وتيهـــًا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمــد لي نَبيا
نسأل الله العلي القدير أن يجعلنا من عباده الصالحين، إنه نعم المولى ونعم النصير.
* * *