البحث
لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
3394
2019/12/25
2024/11/15
عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ، فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ".
الأخوة الإيمانية تقوم على الحب المتبادل بين المؤمنين، وهذا الحب ينبغث من سلامة القلب من الحقد والحسد، والغيرة والغرور، والعجب وحب الذات.
فمن آمن بالله إيماناً كاملاً، أحب لأخيه ما أحبه لنفسه، فإن أصابه خير هنأه. وإن أصابه ضر واساه ونفس عنه كربته وشاركه آلامه وآماله.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الوصية يخاطب المؤمنين الذين لم يكتمل إيمانهم بعد محذراً من آفة تجلب على صاحبها البلاء، وتورثه الشقاء، وتحرمه من التمتع بطيبات الحياة، وهي الشماتة.
ومعناها: الفرح المؤقت لبلاء يقع لغيره؛ حسداً له وحقداً عليه، وهي دليل على العداوة والبغضاء، فلا يشمت أحد بأحد إلا لعداوة بينهما قد تكون ظاهرة، وقد تكون كامنة.
ومن ذلك قوله تعالى: { فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ } (سورة الأعراف: 150) أي: لا تمكنهم من إغاظتي بالفرح في بليتي، وهذا ما قاله هارون لأخيه موسى – عليهما السلام – حينما أخذ بشعر لحيته ورأسه لما عبد قومه العجل من بعد خروجه لميقات ربه.
والشماتة دليل على الخيبة والخبال، والعرب تسمى الشامت خائباً فيقولون: رجعوا شماتي: أي خائبين مخذولين، وخزايا محرومين.
يقولون شمته الله: يعني خيبه وفضحه.
بخلاف تشميت العاطس؛ فإنه دعاء له وتجاوب لحمد الله عز وجل، فإذا ما عطس وحمد الله دعونا له بالعافية والرحمة وحمايته من شماتة أعدائه.
قال ابن سيده: شمت العاطس، وسمت عليه، دعا له ألا يكون في حال يُشمت به فيها، والسين لغة فيه.
وقيل معناه: أبعدك الله عن الشماتة، وجنبك ما يشمت به عليك. والمعنى متقارب.
وقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ" نهى عن إظهارها وإخفائها.
وكأنه قال: لا تشمت به أبداً، وإن وقعت في قلبك شماتة فلا تعمل على إظهارها، بل اجتهد في إزالتها بكل ما أوتيت من علم وحكمة.
وإظهار الشماتة يوقظ نار العداوة، ويزيد في اشتعالها.
ولو عزاه في مصيبته وواساه بقدر طاقته وأعانه على دفع ضره، لكان ذلك أولى وأقرب للتقوى.
والله عز وجل يقول: { وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (سورة البقرة: 237).
والمؤمن الحق هو الذي يدع للصلح موضعاً، ولا يجعل للشيطان عليه سبيلا، ولا يدنس قلبه بهذه الآفة البغيضة، وهو يعلم أن الدهر ذو غير: يوم له ويوم عليه.
وقد صدق الشاعر حيث يقول:
الناس للناس ما دام الحياء بهــم والعسر واليسر ساعات وأوقات
لا تقطعن يد المعروف عن أحد مــادمت تــرجي فالأيــام تـارات
وقد علل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الأمر بقوله: "فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ" ليكفكف الشامت دموع فرحه الموقوت، ويكف نفسه عن التمادي فيما يفسد على قلبه وعقله وخلقه ودينه، ويعرضه للمساءة من قبل عدوه الذي شمت به ويجعله مستحقاً للبلاء من قبل الله – عز وجل – وهو جل شأنه بالمرصاد لمن طغى وبغى وأضمر السوء لأخيه، وتمنى زوال نعمته.
وماذا يكون حال الشامت لو رحم الله عدوه وفتح له أبواب الخير وأسبغ عليه النعمة، وابتلاه يمثل ما ابتلاه به أو أشد.
إنه عندئذ يكون أشد خيبة من ذي قبل، فالشامت – كما قلنا – هو الخائب؛ لأن شماتته ترد إليه في يوم من الأيام، إذ على الباغي تدور الدوائر، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن صارع الحق صُرع، ومن تكبر على الناس ذل.
يقول الله – عز وجل – : { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } (سورة فاطر: 43). وهذه حكمة بالغى ينبغي على كل مؤمن أن يأخذ منها العظة والعبرة.
والعافية من الله كلمة واسعة الدلالة في معناها ومغزاها ومرماها، فهي تعني معافاة الأبدان من الأمراض والعلل، ومعافاة القلوب من الحقد والحسد والغيرة والنفاق وسائر ما يعكر صفو الإيمان من الآفات، ومعافاة الأموال من التلف أو النقصان أو خلطها بحرام أو إنفاقها في غير وجهها.
فهي إذاً – كما قلنا – واسعة الدلالة، تشمل بمنطوقها ومفهومها الإنعام على من يستحقها بكل نعمة يرجوها في دنياه وآخرته.
وهذا الإنعام يتمثل في درء المفاسد عنه وجلب المنافع له.
ومثلها العفو، فمن عفا الله عنه عافاه في دينه ودنياه وأخراه.
ولهذا أوصى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤمنين أن يدعو كل منهم في الأوقات المباركة بأن يعفو عنه، ويكتفي بذلك؛ لأن الخير كل الخير فيه.
قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قلت: يا رسول الله، "أَرَأَيْتَ إِنْ عَلمت أَي لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَقُولُه.
قَالَ: "قُولِي: اللَّهُمَّ، إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي".
وضد العفو الابتلاء، وهو أنواع.
فهناك ابتلاء بالخير، وهناك ابتلاء بالشر.
قال تعالى: { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } (سورة الأنبياء: 35).
وكل منهما قد يكون عقاباً لمبتلى، وقد يكون تمحيصاً له ومضاعفة لأجره.
ثم إن هذا الابتلاء يكون على درجات في الخير وفي الشر.
فالمؤمن يبتليه الله ابتلاء تمحيص وتطهير وتزكيه وتقويم؛ لينال بصبره وجلده الدرجات العلا في جنة المأوى، فيكون ابتلاؤه خيراً كله في الحال والمآل؛ لأنه إن أُعطى شكر، وإن ابتلى صبر، فهو مع الله دائماً، ومن كان مع الله كان الله معه، ومن كان الله معه، عافاه من سخطه ومنحه رضاه، وجعل التقوى شفاء له من كل داء، ورزقه الرضا بقضائه وقدره، وأراه القدر على حقيقته فآمن إيماناً لا يعتريه شك بأن الله عز وجل لا يفعل الشر ولا يختار لعبده إلا الخير، وأنه أرحم به من نفسه على نفسه.
وأما الكافر فإن الله يهلكه بذنبه في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فإن هلاكه يكون بكفره وإن بدا أنه منعم؛ لأن الكفر يبعده عن نعيم دنيوي لا يعرفه أمثاله، وهو ذكر الله.
وقد ذكرت في وصية من الوصايا أن رجلاً صالحاً قال: عجبت لمن خرج من الدنيا ولم يستمتع بنعيمها.
قال: أو في الدنيا نعيم يا رجل!
قال: نعم.
قالوا: فما هو؟
قال: ذكر الله.
وحرمان الكافر من ذكر الله هو العقاب الذي ما بعده عقاب في الدنيا، فانظر كيف كان السبب هو المسبب نفسه.
وهذا كالحاسد، يعذبه حسده، حتى قيل: لا تعاقب الحاسد؛ فإن حسده قد عاقبه.
والفاسق من المسلمين يقارب الكافر في الحرمان بقدر درجته في الفسق وبعده عن شعب الإيمان، ويكون جزاؤه من جنس عمله في الدنيا والآخرة.
والشماتة – يا أخي المسلم – نوع من الفسق، ينشأ – كما ذكرنا – عن الحقد والحسد وغيرهما من الآفات المنافية للإيمان الصحيح؛ لهذا كان الشامت عرضه للبلاء؛ معاملة له بسوء فعله.
فمن شمت بأخيه، فقد عرض نفسه لما أصيب به أخوه من البلاء حتماً ما لم يبادر بالتوبة النصوح والعمل الصالح وتطهير نفسه من الآفات التي تعكر عليه صفو إيمانه وتورد الشبه على يقينه، فينقلب يقينه بها شكاً، والعياذ بالله تعالى.
إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرص في هذه الوصية على أن يظل إيمان المؤمن كما هو، لا يعتريه شك ولا يصيبه وهن، بل يزداد ويزداد حتى يكون من الأخيار الذين وصفهم الله بقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } (سورة الأنفال: 2).
جعلنا الله منهم.
* * *