البحث
اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ - الموبقة الرابعة أكل الربا
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
1459
2019/11/04
2024/11/15
الموبقة الرابعة: أكل الربا وهو من أكبر الذنوب المهلكة لصاحبها في الدنيا والآخرة.
وإنه ليبدو لي أنه أكبر جرماً من الزنا والسرقة والغضب وكثير من الذنوب التي لعن صاحبها في الكتاب والسنة، بدليل أن الله عز وجل لمن يعلن الحرب على مرتكب كبيرة صراحة إلا على آكل الربا حيث قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (سورة البقرة: 278-279).
وقد وصف الله حال المرابين يوم القيامة وصفاً تنخلع منه القلوب فقال: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (سورة البقرة: 275).
فهم يقومون من قبورهم كالمجانين من شدة الفزع والهلع بطونهم أمامهم كأنها جبل أحد كما جاء في بعض الأخبار.
وقد صور النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سوء عاقبة المرابين وبشاعة ما هم عليه في قبورهم فقص على أصحابه رؤيا طويلة في منامه ورؤيا الأنبياء حق فقال من حديث طويل رواه البخاري عن معمرة بن جندب: "رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ، وَعَلَى شطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ فَقُلْتُ: مَا هَذَا فَقَالَ الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ؟ قَالَا: آكِلُ الرِّبَا".
وروى مسلم عن جابر بن عبدالله قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةً آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُم سواء".
والمرابي إنسان لا عقل له؛ إذ تصور أن الربا فيه ربح كثير من حيث إنه يقرض غيره مبلغاً من المال بزيادة يدفعها المقترض في نظير الأجل مع أن هذا هو الخسران المبين فلا يلبث المرابي أن يفتقر ويذهب ماله بطريقة أو بأخرى، وإن ظل محتفظاً بالمال فإنه لا ينتفع به أبداً، ولا ينتفع به ورثته من بعده.
ولو كان عاقلاً لعرف أن الخير كل الخير في القرض الحسن، فهو صدقة من أعظم الصدقات التي تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى، وهو ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة بخلاف الربا فإنه نفيضه تماماً.
يقول الله عز وجل: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } (سورة البقرة: 276).
والمعنى يهلك الله الربا ما يأتي منه، فيستأصل الأصل والزائد عليه، ويهلك المرابين في الدنيا والآخرة، ويمحق البركة من أرزاقهم وأعمارهم.
أما الصدقات فإن الله ينميها لصاحبها ويضاعفها له أضعافاً كثيرة.
وقد عرض الله بالمرابين في قوله: { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ }، إذ المرابي شديد الكفر بالنعمة؛ لأنه بخل بحق الله فيها واستعملها في غير وجهها، وقسا على من يستحقون الرحمة والعطف، وأشتد طلبه للدنيا حتى نسى الآخرة تماماً، فأحل نفسه بحماقته وكفره دار البوار.
ولو كان يغفل ما طلب الربح مما فيه خسران.
(وقد حرم الله الربا، وشدد النكير على آكله. وموكله وكل من تسبب فيه؛ لما فيه من استغلال فاحش لذوي الحاجات الذين يجب على أصحاب القلوب الرحيمة إعانتهم، وتنفيث كرباتهم، وقضاء حوائجهم، من غير من ولا أذى، ولما فيه – أيضاً – من قطع لما أمر الله أن يوصل، فأولوا الأرحام لهم حقوق أدناها قضاء حوائجهم بقدر الطاقة والوسع، وللفقراء والمساكين حقوق أدناها سد عوزهم وستر عوراتهم وإشباع بطونهم، وللمسلم بوجه عام على أخيه المسلم حقوق أدناها أن يكون رحيماً به عطوفاً عليه، محسناً إليه، ولو بالقليل من ماله وجهده.
ولا شك أن التعامل بالربا يعتبر فوق ما ذكرنا تعطيلاً للمال الذي ينبغي أن يستغل في رفع الإنتاج، وتشغيل العاملين وهو ربح بلا مقابل، وبلا مبرر يقتضيه.
من هنا كان المرابي من أسوأ الناس حالاً، وأتعسهم حظاً، وأخبثهم طبعاً ووضعاً في الدنيا، وأسوأهم مآلاً في الآخرة، فهو يعيش في الدنيا ذليلاً كئيباً يبغضه من يعرفه ومن لا يعرفه من الناس، ويلعنه أهل السماء وأهل الأرض، ويعيش فقيراً مهما كثر ماله، ويموت على سوء الخاتمة، والعياذ بالله تعالى، وتعلوه قترة يعرف بها.
وإنك لو كنت من أهل الفراسة لعرفت حاله من وجهه، ومن نظراته وحركاته، ههو يتصرف كالمجنون، وينظر إلى الناس نظر المغش عليه من الموت، ويشعر دائما بالغربة، وهو في بلده، ويجد في نفسه حرجاً شديداً من ملاقاة الناس، ويشعر بأن نظرات الناس إليه سهام مسلطة عليه تنفذ إلى قلبه، فتضيق مسالكه مما يجعل أنفاسه تحتبس حتى ليكاد يختنق من الجو الذي وضع نفسه فيه، وما كان أغناه عن ذلك لو كف عن هذا الإجرام البالغ غاية الخطورة، وأطاع الله فيما أمره، فأكل حلالاً طيباً، وعمل عملاً صالحاً يقربه من الله تعالى، ويبعده عن سخط الناس ومقتهم، ويجنبه ما يصيب أمثاله من المرابين الذين لم يعلنوا توبتهم إلى ربهم بعد، ولم يصححوا سيرهم في هذه الحياة الدنيا طمعاً في الآخرة، وهي خير وأبقى لأهل التوبة والتقى.
(وقانا الله وإياكم مغبة هذا العمل الأثيم إنه جواد كريم).
"وهذا ولم يكن الربا محرماً في الشريعة الإسلامية وحدها بل كان محرماً في الشرائع السابقة كما دلت على ذلك نصوص كثيرة في التوراة والإنجيل لا أرى حاجة لذكرى هنا، ويكفي أن نشير إلى حرمته في الشرائع السابقة بما جاء في قوله تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (سورة النساء: 160-161).
وقد رأى كثير من الفقهاء أن الربا لم يحرم صراحة إلا بعد أن نفر الله منه عباده، ونعى على آخذيه وآكليه، لما حرمه صراحة حرم كثيره أولاً، ثم حرمه كله قليله وكثيره، فقال جل وعلا أولاً: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } (سورة الروم: 39).
ثم قال: { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا } إلى قوله: { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ }.
ثم قال جل شأنه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } (سورة آل عمران: 130).
ثم قال عز من قائل: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } إلى قوله جل وعلا: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (سورة البقرة: 275-279).
وفي هذا التدرج حكمة لا تخفى على أولي الألباب، فإن العرب في الجاهلية كانوا يتعاملون بالربا، وكان عندهم بمنزلة البيع، وكانت أكثر أموالهم منه، فلو حرمه عليهم دفعة واحدة، لشق الأمر عليهم، ونفروا من ذلك، أو وجدوا في الامتناع عنه مشقة بالغة وحرجاً شديداً، فكان من رحمة الله تعالى أن نفرهم منه أولاً، وهيأ نفوسهم لرفض التعامل به بعد ذلك".
وكانت أحكام الربا آخر ما نزل من القرآن الكريم وهو من أواخر التحذيرات النبوية، فقد حذر منه النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تحذيراً شديداً في حجة الوداع، وكانت في السنة العاشرة من الهجرة – مات بعدها النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بنحو ثمانين يوماً.
وقد بين الفقهاء أحكامه في كتبهم فراجعها هناك وبالله توفيقك.