البحث
لَا يَطْرُقَ الغَائِب أَهْلَهُ لَيْلًا
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
5827
2019/11/13
2024/12/18
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا".
وفي رواية عنه – أيضاً – أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا قَدِمَ أَحَدُكُمْ لَيْلًا فَلَا يَأْتِيَنَّ أَهْلَهُ طُرُوقًا، حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ".
وفي رواية عنه – أيضاً – قال: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا؛ يتخَوِّنَهُمْ أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ".
التشريع الإسلامي منهج متكامل للحياة الفاضلة، لم يترك صغيرة ولا كبيرة مما يحتاج الناس إليه إلا شملها حكمه ووسعها بيانه.
فقد دخل هذا التشريع الحكيم في أخص خصوصيات المسلم، فوجهه إلى ما فيه الخير له ولأسرته وللمجتمع كله، ونظم له السلوك العلمي والمعنوي في شأنه كله.
ولقد كان أهل الكتاب والمشركون يعجبون كل العجب من سعة هذا التشريع ودقته، ومسايرته لمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، حتى قال قائلهم لسلمان الفارسي: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة!!.
نعم... لقد علمهم كل شيء بالقول والعمل، وهداهم إلى الصراط السوي في كل ما جد ويجد من شئون الحياة بأسلوب واضح مشرق لا غموض فيه ولا تكلف، بحيث لا يستطيع منصف أن يقول في أي عصر: إن لدي مشكلة لم أجد لها حلاً في الإسلام، أو لم أجد فيه جواباً عن سؤال ملح أو حكم في قضية عاجلة، أو توجيه رشيد يرفع عنا الإصر ويدفع عنا الحرج. كلا، إنه بشيء من التدبر في القرآن والسنة يجد الحل والجواب والتوجيه ماثلاً في ذهنه.
وفي الوصية على بساطتها ووجازتها عالجت أمراً لا يأبه الناس به ولا يلتفتون إليه ولا يعيرون إليه أهمية، مع أنها في غاية الأهمية.
فهل يحب أحدنا أن يرى زوجته على صورة لا يرضاها، وهل هي تحب ذلك، فإذا كان الجواب بالنفي كان من الخير له ولها أن يتهيأ كل منهما للقاء الآخر على الوجه الذي يحبه ويرضاه.
وهل من اللائق يأهل الفضل والمروءة أن يطرق الرجل منهم باب بيته ليلاً والناس نيام، دون أن يقدم بين يدي ذلك رسولاً يخبرهم بقدومه قبل أن يجن الليل ويختلط، أو مكالمة تليفونية تدخل السرور على أهل بيته، وتجعلهم مهيئين لانتظاره حساً وروحاً.
وهل من الإسلام أن يتعمد الرجل إتيان أهله ليلاً من غير سابق إنذار يبتغي بذلك مباغتتهم تخوناً لهم، من غير أن تكون هناك دلائل تدل على انحرافهم عن السلوك السوي.
إن ذلك ليس من خُلق المسلم، ولا هو من طبع الكريم وسلوك الحليم؛ لأن الشأن في الحياة الزوجية أن تبنى على الثقة والصدق والأمانة والإخلاص.
هذه مقدمة تكشف عن معاني هذه الوصية ومراميها، ولكن بالنظر الدقيق والتأمل العميق – نستطيع أن نتعرف على الكثير من الفضائل التي اشتملتها، والأحكام التي تضمنتها، والأبعاد التي تهدف إليها في صيانة المجتمع المسلم من الشبهات والوساوس والهواجس والخطرات المزعجة، فتعالوا بنا نلقي نظرة على هذه الوصية؛ لنأخذ من ألفاظها منطلقاً إلى فهم مراميها؛ فإدراك المعاني ليس كافياً في فقه الكتاب والسنة، بل لابد من البحث فيما وراء المعاني من مقاصد لا تظهر إلا للمتأمل الفطن.
وقد قالوا: "إدراك المعاني فهم، وإدراك المرامي فقه".
والفقه: هو الإدراك الدقيق لما وراء معاني الألفاظ. فمن اعتمد على معاني الألفاظ وحدها فقد سفه نفسه وفقد حسه.
1- قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ" يدل على أن هذه الوصية خاصة به دون من يتوقع حضوره في أي لحظة وينتظر قدومه بالليل أو بالنهار، وتعرف الزوجة الوقت الذي يأتي فيه غالباً ولو على وجه التقريب، فتكون مهيأة بطبعها إلى انتظاره، متحاشية ما يسوؤه منظره، ولكن على من كان هذا حاله أن يخبر أهله بقدومه ولو عندما يكون عند باب البيت بالوسيلة التي يراها مناسبة، حتى يتمكن أهل البيت من لقائه على الوجه الذي يحب.
أما من طالت غيبته فإنه ينبغي عليه ألا يفجأهم بقرع الباب، ولا سيما إذا كان الوقت ليلاً؛ فإن ذلك يزعجهم ويقلل من نسبة سرورهم بقدومه، ويعوقهم عن حسن لقائه، ويحرجهم إذا رأى في البيت ما لا يحب أن يراه، أو يجد من زوجته ما لم يتعود أن يجده منها وهو حاضر معها.
ولسان الحال يقول: لماذا لم تخبرنا بقدومك، حتى نتهيأ للقائك، ونفعل ما تحب، ونتلاشى ما تكره.
وطول الغيبة ربما يجعل الزوجة في حل من أخذ زينتها وتمشيط شعرها ونتف عانتها وإبطيها، فإذا علمت بقدوم زوجها قبل حضوره إلى بيتها بوقت كاف لإصلاح نفسها وإزالة شعثها – تضاعف سرورها به وسروره بها، وأطفأ كل منهما جذوة الفراق قبل العناق، ولا يكون هناك من الظواهر والمناظر ما يطفيء نور الحب بينهما.
2- وقد علل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الوصية بتعليل يفهمه الناس جميعاً على اختلاف درجاتهم في الثقافة والفهم فقال: "حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ".
والاستحداد: هو حلق العانة بالحديدة، أي بالموسى ونحوها، وإزالتها بأي وسيلة.
والعانة: هي الشعر الذي فوق الفرج وحواليه.
وإزالة شعر الإبطين داخل في الاستحداد تبعاً.
والمغيبة – بضم الميم - : هي التي غاب عنها زوجها، ولا يقال لها ذلك إلا إذا طالت غيبته، والطول أمر نسبي، يخضع لتقدير الناس في العرف.
والشعِثة – بكسر العين – هي التي أغبر وتلبد واتسخ شعر رأسها.
وليس هذا هو كل ما تفعله المرأة عند قدوم زوجها، بل هو الذي تبدأ به قبل غيره، وكل لقاء له ما يناسبه، والحال في الحضر غير الحال في البادية، والحال في المدينة غير الحال في القرية، وحال الزوج يختلف أيضاً من زوج إلى زوج ومن زوجة إلى زوجة، والحال أيضاً – يختلف من أسرة إلى أسرة، ومن عصر إلى عصر، فكان التعليل في الحديث مجرد يوضح معنى الوصية، حتى لا يكون هناك لأحد تساؤل عن المراد منها.
وأسلوب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكلام حكيم، وتعليله للأحكام يرفع الإجمال ويدفع الإشكال.
ولا يقولن قائل: إن زوجتي تعتني بنظافتها، وتهتم بترتيب بيتها وتحسين منظره، فلا داعي من التمسك بهذه الوصية؛ وقد قال علماء الأصول الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
نعم لا ينبغي أن يقول ذلك؛ لأن العلة ليست مقصورة على الاستحداد وتمشيط الشعر ونحو ذلك من تنظيف البيت وترتيبه وتجميله، ولكنه مجرد مثال كما ذكرنا، فمن تهاون في هذه الوصية فقد استخف بأدب من أعظم الآداب الأسرية.
3- وهناك أمر في الرواية الثالثة يجب أن يوضع موضع الاعتبار، وهو قول جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا؛ يتخَوِّنَهُمْ أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ".
وذلك لا يليق بالمسلم – كما أشرنا في المقدمة – إلا إذا بدت له من الأمارات ما يقوي هذا الظن، فإنه عندئذ يجب عليه أن يتتبع أحوال زوجته ليقطع الشك باليقين، ولكن دون أن يلتمس لها العثرات لإحراجها أو الإضرار بها على أي نحو من المضايقات.
ومن الأسباب التي نهى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجال عن طروق أهليهم ليلاً من غير إعلامهم أن الزوجة إذا رأت زوجها قد بغتها بالقدوم عليها في وقت متأخر من الليل – ربما تظن أنه يتخونها ويشك في أمانتها وسلامة عرضها، فينعكس هذا الشك على سلوكها معه وحديثها إليه، فيبادلها شكاً بشك، وتهمة بتهمة، وللشيطان حيل وخطوات في إفساد العشرة بين الزوجين والتفريق بينهما، وهو من أعظم الأهداف لديه، وله سابقة السوابق في ذلك، فقد أخرج بوسوسته آدم وحواء في الجنة، وفرق بينهما زمناً لا ندري أطال أم قصر.
4- وقد يقول قائل: لماذا انصب النهي على الطروق ليلاً مع أن الطروق بالنهار قد تكون له ما للطروق بالليل من سلبيات وإيجابيات؟
أقول: إن التقييد بالزمن جرى مجرى الغالب في أحوال الناس وأعرافهم، إذا قدم الرجل منهم ليلاً أن يخبرهم بقدومه قبل أن يطرق الباب؛ منعاً من الإزعاج الذي قد يؤدي إلى تلف في الأعصاب وإحراج لمن في البيت، وهو عرف كان سائداً بين أصحاب المروءات، فاقره الإسلام ودعا إليه.
وكثيراً ما يكون التقييد للمطلق غير معتبر في تقرير الحكم، وإنما يأتي لتقرير الحال أو بيان الواقع أو بيان الغالب ونحو ذلك من الاعتبارات.
ومن ذلك نعلم أن الإخبار بالقدوم مستحب بالنهار أيضاً.
والمعول في ذلك العرف المتبع في البلد؛ منعاً للإحراج ودفعا للشبهات وتوقياً من مآخذ الناس ومعايبهم.
5- هذا.. ولا مانع لمن طالت غيبته أن يطرق بيته ليلاً من غير كراهة ما دامت هناك حاجة.
فعن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاة، فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا نَدْخُلُ، فَقَالَ "أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا أَيْ عِشَاءً كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ".
مع أنه قد ورد في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ ليلاً، وَكَانَ يأتيهم غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً".
فالحديث الأول يدل: على جواز إتيان الأهل ليلاً من غير كراهة.
والثاني: يدل على الاستحباب إن أمكن ذلك بلا مشقة وبل مضرة.
والله أعلم.