البحث
لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
2881
2019/12/04
2024/11/15
عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ".
كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرص كل الحرص على مخالفة اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر والضلال في عباداتهم وفي عاداتهم التي يصبغونها بصبغة دينية، ويوصي أصحابه والذين يجيئون من بعدهم بذلك، ويحذرهم تحذيراً شديداً من أن يمارسوا في أعيادهم ما كان يمارسه هؤلاء من لهو ولعب وصخب وطقوس يظهرون فيها حبهم وتعظيمهم لأنبيائهم وأوليائهم وصالحيهم.
فقد قال فيما قال: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ؛ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".أي مكاناً للصلاة وغيره من أنواع العبادات، يشدون إليها الرحال، ويبذلون في الاحتفال بها كثيراً من الأموال، ويذبحون عندا الذبائح تقرباً إلى أصحابها؛ فإن ذلك كان يصرفهم عن الإخلاص التام في عبادة الله – تبارك وتعالى – باتخاذهم وسائط يتوسلون بهم إليه.
ولما كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم الخلق عند الله وأكرم الرسل خشى أن يُعظم قبره تعظيماً يؤدي إلى إفساد العقيدة الصحيحة، أو إساءة الأدب مع الله تبارك وتعالى – نهاهم عن المبالغة في تعظيمه حياً وميتاً.
فقال فيما قَالَ: "لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فقولوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ".
أي: لا تعظموني تعظيماً كتعظيم النصارى لعيسى ابن مريم فترفعونني فوق قدري، ولكن ألزموا الأدب مع الله عز وجل، وصفوني بما وصفني الله به، فقولوا: محمد عبد الله ورسوله، كما أقول.
ولم يكن أصحابه الأخيار يجاوزون الحد في مدحه وإطرائه؛ لأنهم عرفوا الله بأوصافه الكمالية، وعرفوا الحد الذي يقفون عنده في تعظيمه والثناء عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنه حذرهم من ذلك ليكون هذا التحذير نافذاً من خلالهم إلى من وراءهم ممن هم حديثوا عهد بالإسلام، وممن يجيء بعدهم إلى يوم الدين.
وفي هذه الوصية نهي وأمر وخبر.
فقد نهى عن اتخاذ قبره عيداً، وأمر بالصلاة عليه، وأخبر أن صلاتنا عليه تبلغه.
فتعالوا بنا ننظر في هذه الوصية؛ لنتعرف سوياً ما استملته من الأحكام والعبر.
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا" هو كقوله في الحديث المتقدم: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ" فهذه الدعوة بيان للمراد من قوله: "لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا" تعودون إليه كلما ذهبتم عنه؛ من أجل أن تعظموه، كما عظت اليهود والنصارى قبور أنبيائهم؛ فإن تكرار الزيارة في اليوم مرتين أو ثلاث بدعة من البدع وموافقة لأهل الكتاب، ومبالغة في التعظيم لا مبرر لها.
ولكن لا بأس من ارتياد مسجده للصلاة فيه.
وكثرة الزيارة تؤدي إلى الألفة، والألفة تؤدي في الغالب إلى الإقلال من الشوق إليه، وربما تؤدي إلى رفع الكلفة وإساءة الأدب والتهاون في آداب الزيادة المشروعة.
وقد يراد بهذا النهي معنى آخر يضاف إلى هذا المعنى، وهو أن يحتفلوا بيوم مولده أو يوم وفاته عند قبره، كما يفعل الناس اليوم مع أوليائهم الذين أقاموا لهم الأضرحة هنا وهناك.
ولقد ذكر شراح هذا الحديث أقوالاً أخرى تقارب هذا القول أو تباعده.
فمنهم من قال: المراد بذلك: النهي عن اجتماعهم لزيارته كاجتماعهم في أعيادهم، فيأكلون عند قبره ويشربون، ويلهون ويلعبون، فيخلطون العادة بالعبادة، وهو ما يفعله الجهال الآن عند الأضرحة في الموالد والمناسبات الأخرى.
ومنهم من قال: تجعلوا زيارته عادة تعتادونها في أيام معينة؛ فإن الزيارة مستحب ما لم تكن عادة؛ لأن الاعتياد على الشيء المستحب يخرجه عن الاستحباب أحياناً إلى السنة التي ينبغي المحافظة عليها.
وقد عرف أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُنة وفرقوا بينها وبين المستحب، بأسلوب أيسر من أسلوب الفقهاء، فكانوا يحافظون على السنن التي رأوا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحافظ عليها أكثر من التي رأوه يفعلها حيناً ويتركها حيناً.
روى البخاري عن عبد الله بن مغفل أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً". أي كراهة أن يداوم الناس عليها.
فزيارة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المستحبات التي يفعلها المسلم حيناً ويتركها حيناً، لا من السنن التي ينبغي أن يداوم عليها؛ فإن المداومة على زيارة قبره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد يشغل الزائرين عن أمور أهم منها.
ومن العلماء من يرى أن المعنى لا تقللوا من زيارة قبري فتجعلوها في العام مرتين.
والأصح ما ذكرناه أولاً والله أعلم بالصواب.
ولزيارة قبر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آداب يستحب لنا أن نلم بها حتى إذا منَّ الله علينا بزيارة مسجده وقبره أديناها على الوجه الأكمل وبالطريق الأمثل.
وينبغي أن نعلم أولاً أن زيارة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجده لها فضل عظيم؛ فهي قرية من أعظم القربات في مجال الزيارات التي حث النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها ورغب فيها.
فقد روى البزار والدارقطني عن نافع عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي".
وروى الدارقطني والطبراني عنه أيضاً قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ جَاءَنِي زَائِرًا لَا تَعْمِدُهُ حَاجَةٌ إِلَّا زِيَارَتِي كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وروى الدارقطني والطبراني والبيهقي عنه أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي".
فإذا توجهت – أيها المسلم الكريم – إلى المدينة المنورة قاصداً زيارة قبر الرسول الأمين – صلوات الله وسلامه عليه – فأكثر من الصلاة والسلام عليه طول الطريق، وأسأل الله تعالى أن ينفعك بهذا الزيارة وأن يقبلها منك، وأن يمنحك من لدنه العفو والعافية وحسن الختام.
ويستحب أن تغتسل وتلبس أحسن ما عندك من الثياب، وتتطيب بما معك من الطيب؛ استعداداً لدخولك المدينة الطيبة، فإذا ما دخلتها فقل: باسم الله، رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وارزقني من زيارة رسولك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما رزقت أوليائك وأهل طاعتك، واغفر لي وارحمني يا خير مسئول، اللهم إني أسألك خير هذه البلدة وخير أهلها وخير ما فيها، وأعوذ بك من شر أهلها وشر ما فيها.
ولتكن متواضعاً خاشعاً مستحضراً في قلبك أنها البلد التي اختارها الله تعالى داراً لهجرة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومهبطاً للوحي الأمين.
وإذا أردت – يا أخي المسلم – دخول المسجد النبوي – فادخل برجلك اليمنى، وعليك السكنة والوقار، وقل: "باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، رب اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك". وصل تحية المسجد عند المنبر بحيث يكون عمود المنبر جهة كتفك الأيمن إن أمكن، فهذا هو موقف النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما قيل قبل أن يوسع المسجد.
عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي".
ثم تقدم نحو القبر الشريف ولا تهجم عليه، ولا تلتصق به، ولا تمد يديك عليه، بل استقبل جداره، واستدبر القبلة متباعداً عنه نحو مترين أو ثلاث؛ لما روى أبو حنيفة أن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: من السُنة أن تأتي قبر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل القبلة وتجعل ظهرك إلى القبلة، وتستقبل القبر بوجهك، ثم تقول: السلام عليك ورحمة الله وبركاته.
هذا، وللزائر أن يزيد: السلام عليك يا خير خلق الله يا إمام المتقين يا سيد المرسلين، إني أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَدْ بَلَغْت الرِّسَالَة، وَأَدَيِت الأَمَّانَة، وَنَصَحْت الأُمَّة، فَجَزَاك الله عَنَّا أَفْضَّل مَا جَازى نَبِيَّاً عَنْ أُمَّتُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهم إنك قلت: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } (سورة النساء: 64) وقد أتيتك يا رسول الله مستغفراً من ذنوبي مستشفعاً بك إلى ربك فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم اجعله أول الشافعين يا أرحم الراحمين. ثم يدعو لوالديه وللمسلمين.
ويبلغ سلام من أوصاه بتبليغ سلامه، فيقول: السلام عليك يا رسول الله من فلان ابن فلان، أو فلان ابن فلان يسلم عليك يا رسول الله.
بعد ذلك يستحب لك – أيها الزائر المحب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تتأخر عن يمينك قدر متر فتقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، السلام عليك يا صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنيسه في الغار وأمينه على الأسرار، جزاك الله عن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيراً.
ثم تتأخر عن يمينك قدر متر وقل: السلام عليك يا ناصر المسلمين، السلام عليك يا من أعز الله به الإسلام، جزاك الله عن أمة محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيراً.
ومن لم يحفظ هذا الثناء فليقتصر على بعضه، فيقول: السلام عليك يا رسول، السلام عليك يا خليفة رسول الله، السلام عليك يا أمير المؤمنين.
فعن نافع أن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كان إذا قدم من سفر دخل المسجد ثم أتى القبر فقال: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه".
هذا.. وينبغي للزائر أن يلاحظ أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع كلامه ويرد عليه السلام، لحديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ".
هذا.. ومن الأدب ألا يرفع الزائر صوته – جداً – في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فرفع الصوت في أي مسجد مكروه، فما بالك بمسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال السائب بن زيد: كنت مضطجعاً في المسجد فحصبني رجل – أي قذفني بالحصى – فرفعت رأسي فإذا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فقال: اذهب فأتني بهذين الرجلين. فجئت بهما. فقال: من أين أنتم؟، قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد ما فارقتماني حتى أوجعتكما جلداً، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!.
ويسن للزائر بعد الزيارة أن يكثر من الصلاة والدعاء في الروضة الشريفة، ويتحرى الوقوف والدعاء عند المنبر الشريف مقتدياً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يتحرى الصلاة أيضاً فيما كان مسجداً في حياة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا فيما زيد بعده.
ويسن كلما مر بالقبر الشريف أن يسلم على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى أبي بكر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ولو كان خارج المسجد.
ويستحب الإكثار من زيارة القبر الشريف لمن كان قادماً من سفر حتى يملأ قلبه حباً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذا.. ويستحب الإكثار من الصلاة في المسجد النبوي، لأن الصلاة فيه تعدل في الأجر ألف صلاة.
فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ".
وعن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "صَلَاةٌ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةٌ فِي الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ خَمْسُمِائَةٍ صَلَاةٍ".
هذا. ويستحب لمن طال به المقام أن يزور الأماكن المفضلة والبقاع الطاهرة التي كان يرتادها النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويصلي فيها، أو يجلس عندها، أو يسلم على أهلها؛ اقتداء به عليه الصلاة والسلام؛ ليتذكر عند هذه الأماكن الأحداث التاريخية والمشاهد الإيمانية، فينشرح بذلك صدره ويمتليء بمشاعر الحب والإيمان قلبه.
فيستحب له أن يزور البقيع، وهو مكان دفن فيه كثير من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقربائه وأحبائه، فقد كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزورهم في كل ليلة ويسلم عليهم ويستغفر لهم.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ".
ويستحب زيارة شهداء أحد ويبدأ بقبر حمزة عم النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويستحب زيارة المساجد التي صلى فيها الرسول الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل مسجد قباء، ومسجد الفتح، ومسجد الجمعة، ومسجد الأحزاب، وغيرها من المساجد المعروفة لأهل المدينة ومن جاورهم.
وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَصَلُّوا عَلَيَّ" فإن الأمر فيه للوجوب.
يؤيده قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (سورة الأحراب: 56).
فقد دلت هذه الآية على أن الصلاة والسلام عليه من الواجبات كلما ذكره الذاكرون.
فمن ذكره أو ذُكر عنده ولم يصل عليه – فهو آثم على الصحيح من أقوال الفقهاء.
وقيل: إن الصلاة والسلام عليه فرض في العمر مرة، ثم تصير سنة مؤكدة بعد ذلك.
وصلاة الله على النبي كما قال البخاري: هي الثناء عليه عند ملائكته، وصلاة الملائكة هي الدعاء له.
فإذا كان الله عز وجل يصلي عليه دائماً عند ملائكته، والملائكة يصلون عليه عند الله – كان من الواجب علينا أن نصلي عليه صلاة دائمة ونسلم عليه سلاماً معطراً بالحب والإخلاص.
وقد قدم الله ذكر صلاته عليه وصلاة ملائكته للمبالغة في حضنا على الصلاة والسلام عليه كلما ذكرناه أو سمعنا من يذكره.
وقد شرع الله الصلاة عليه في الصلاة، وهي أعظم ركن من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وما ذاك إلا لمزيد تعظيمه وتعميق حبه في قلوبنا، وفي ذلك دلالة على رفعة شأنه وعظيم قدره عنده عز وجل.
قال جل شأنه ممتناً عليه: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } (سورة الشرح: 1-4).
وصلاتنا عليه دعاء له، وتعبير صادق عن حبنا إياه، ورغبة منا في عظيم الأجر وفي مرافقته في الجنة.
وقد أفاد هذا الحديث أن صلاتنا عليه تقربنا منه نجياً في دار الدنيا؛ فإنها تبلغه ويسمعها بأذنه، أو يحيط بها علماً بواسطة الملك الموكل بذلك.
وقد روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ".
ولا تقل: كيف يكون ذلك؛ فإن أمور الآخرة ليست كأمور الدنيا، والأرواح وهي بعيدة عن أجسامها لها عالمها لا مجال للعقل في إدراك ما فيه.
والواجب علينا أن نسلم بكل ما أخبرنا الله به من الأمور المغيبة في كتابه – عز وجل – أو على لسان رسوله – عليه الصلاة والسلام.
إن صلاتنا على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي العروة الوثقى بيننا وبينه، وهي الروح والريحان، يتذوق حلاوتها من أحبه وأحيا سنته وتمنى لقاءه في اليقظة أو في المنام، وكان مبلغ همه أن يحشر معه وينال شفاعته ويكون رفيقه في الحنة.
وقد كان أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكفون عن الصلاة عليه، بل كانت هي شغلهم الشاغل؛ لأن قلوبهم قد أشربت حهبه، فملك هذا الحب عليهم عقولهم ومشاعرهم وسرى في كيانهم كله، فكانت الصلاة عليه هي الدواء والشفاء، تحيا بها أرواحهم حياة لا يعرفها إلا من حذا حذوهم ونهج نهجهم واتخذ له سبيلاً إلى القرب من ساحته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل الصلاة عليه ديدنه أينما حل أو ارتحل.
وبقدر الحب يعظم الأجر في الصلاة والسلام عليه، فليس من صلى وسلم عليه وهو غافل كمن صلى وسلم وهو مغمور بحبه ذاكر لربه طالب لقربه ومرضاته.
فمن صلى عليه بقلبه ولسانه – أعظم الله له الأجر، وأجاب دعاءه، وجعله رفيقاً له في الجنة.
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا" أي أعطاه عشر أمثالها من الأجر مع عظمه.
والصلاة من الله لعباده رحمة واسعة وأجر كبير.
وروى الترمذي بإسناد حسن عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً".
وروى أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن فضالة بن عبيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قال: "سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يَحْمِد الله تَعَالَى وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجِلَ هَذَا، ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبَّهُ سُبحَانَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لْيَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ".
فقد أوصانا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاة عليه في الدعاء؛ ليرفع معها؛ فإن الله أكرم من أن يستجيب دعوة ويرد أخرى.
صَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ